Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

ذكرياتي عن الحج والعمرة

أ.د/ طه جابر العلواني

حججت حجة الإسلام حينما كنت طالبًا في الأزهر الشريف في السنة الثانية من كليَّة الشريعة، أديت امتحاناتي في الكليَّة وأخذت الطائرة إلى المدينة المنورة أولًا، كان ذلك في حزيران يونيه، وحين وصلت المدينة المنورة كانت ما تزال عمليات البناء والتغيير لم تغير الكثير من معالمها، وحين هبطت الطائرة وخطوت خطواتي الأولى على أرض المدينة المنورة انتابتني جملة من المشاعر اختلطت فيها مشاعر الحب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والرهبة والهيبة والشوق، أهذه هي الأرض التي تلقت الإسلام والوحي ومنها انتقل النور إلى المعمورة كلها؟ أهذه هي الأرض التي خطى عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاش بها وفيها وبين أهلها عشر سنوات من عمره الشريف؟

 وبدأ خيالي يذهب يمينًا ويسارًا يلتقط صور الصحابة من حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتذكر كيف دخل الإسلام والقرآن مع مصعب بن عمير إلى بيوت الأنصار قبل هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتذكرت ما جعلني أشعر بالخشية من السير على هذه الأرض التي لا تخلو ذرة رمل منها من عبق الرسالة والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي اللحظة التي وصلت فيها إلى أرض المطار وجدت طائرة أخرى حطت في ذلك الوقت قادمة من بغداد، وفيها عدد كبير من أبناء مدينتي الفلوجة في العراق، وبمجرد أن رأوني ورأيتهم أعربوا عن فرحتهم بشكل كبير، ها قد وجدنا إمامنا الذي سيعلمنا مناسك الحج والعمرة والزيارة، وأقبلوا يسلمون علي، وقررنا الذهاب معًا إلى سكن كانوا قد حجزوه قبل مجيئهم وهو منزل قديم من منازل المدينة المنورة القديمة، قريب جدًا من بئر حاء الذي كان موجودا آنذاك، وبينه وبين المسجد النبوي في توسعته الأولى في عهد الملك سعود، وهناك عند وصولنا إلى ذلك المنزل توزعنا على غرفه، فاختار لي المجموع ألطف مكان فيه في غرفة كبيرة، فتوضأنا ثم ذهبنا للسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم صلاة الظهر، وعندما عدنا فإذا بأخواتنا اللتي كنا يرافقن أزواجهن أو أخواتهن قد أعددن الطعام، كانت الدموع منذ أن بدأت السير على أرض المطار لا تجف في عيوني ولا تتوقف، وكنت أردد في نفسي قول أحدهم:

هذه دارهم وأنت محب ** ما بقاء الدموع في الآماق

هناك حين يقف الإنسان للمرة الأولى بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول السلام عليك يا رسول الله، لا يستطيع من أتاه الله ذهنًا صافيًا وفطرة نقيَّة إلا أن يستشعر كأنَّه أمام سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالفعل وهنا تختلط العواطف والمشاعر والحب والهيبة والتعزير والتوقير والاحترام بشكل لا يوصف، إذ من الصعب تفكيك تلك المشاعر وميزها عن بعضها بحيث يمكن أن يقال هذا الجزء من المشاعر قد بدأ وهذا قد انتهى، لكن هناك سعادة غامرة يختلط فيها الخشوع مع الإخبات وترفع الحجب والحواجز بين التاريخ وبين الواقع بين القديم والحديث، أهذه هي المدينة التي كانت ذات يومًا عاصمة العالم، أي حدث فيها يؤثر في الأرض كلها ويتصل بالسماء، أهذه هي المدينة التي تعلم الإنسان فيها كيف يكون إنسانًا، أهذه هي المدينة التي استقر فيها حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجال جاء وصفهم في التوراة والإنجيل والقرآن.

كنت حين تمشي في دروبها وأزقتها قبل ذلك الانفجار العمراني تستطيع أن تتخيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصَّة أصحابه والجيل الأول من آل بيته وهم يسيرون فيها جيئة وذهابًا، ولا تملك إلا أن تستحضر صورهم كما وصفتهم بعض كتب السير وكأنَّك تسير خلفهم وأنَّ أي منهم إذا التفت فقد يراك خلفه.

وقد أصبت بنوع من الانفلونزا بعد وصولي المدينة بيوم أو يومين، وقد ثقلت علي حتى حرمت من زيارة المسجد النبوي وأداء الصلوات هناك، فكنت أصلي في المنزل وأنا بين الخوف والرجاء، الخوف أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير راض عني فكأنِّي حجبت عن الزيارة والصلاة إلى مسجده، وفي إحدى الليالي كنت أخاطب نفسي قبل أن أنام وأقول يا رسول الله جئت وكلي شوق إليك ولمدينتك ولمسجدك وللوقوف بين يديك، وقد أقعدني المرض عن استكمال هذه النعمة، فهل أنت مغضب مني؟ وما الذي حدث؟ وإذا به (صلوات الله وسلامه عليه) يزورني في منامي مبتسمًا ويقول: لم لم تأتي قبل اليوم؟ فقلت يارسول الله ما كنت قبل اليوم أرى نفسي صالحًا لزيارتك والوقوف بين يديك والصلاة في مسجدك وروضتك، والآن قد جئت لكن حالي كما ترى حرمت من الذهاب إلى المسجد، فتبسم (صلوات الله وسلامه عليه) وقال: مرحبًا بك، وقمت من نومي فرحًا سعيدًا، لا تكاد الأرض تتسع لي، وقلت لمن حولي: ائتوني بماء وضوء لأتوضأ، إنِّي خارج معكم إلى المسجد -إن شاء الله- وبالفعل قمت وأديت الصلاة وسلمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكأنِّي نشطت من عقال وبرئت بفضل الله، وبعد أن انتهت فترة زيارتي للمدينة بعد ثلاثة أيام ذهبنا لمكة المكرمة بعد أن أدينا العمرة؛ لأنَّنا حججنا متمتعين، ووصلنا مكة ليلًا ومن فورنا، وبمجرد أن القينا حاجاتنا في منزل المطوف صدق كما أذكر اسمه ذهبوا بنا إلى الطواف والسعي والحلق أو التقصير والانتظار إلى يوم التروية.

الإقبال على مكة يختلف تمامًا عن الإقبال إلى المدينة المنورة، ففي مكة تفاجئك الهيبة والعظمة والجلال، أمَّا في المدينة فمع الهيبة والعظمة يبدو الجمال والحب بشكل فيه نوع من المباشرة، أما الدخول إلى الحرم وفي تلك المرحلة وكانت مكة لا تزال تحتفظ بكثير من خصائصها العمرانية يجعلك وأنت داخل للمرة الأولى أول ما يقع نظرك على الكعبة المشرفة يذهب خيالك إلى إبراهيم وإسماعيل وبناء البيت واتخاذه أول بيت وضع على وجه الأرض، وعبادة الله، ويعلو اسمه وكلمته، هو هذا البيت المتواضع البسيط لم تكن الانفجارات العمرانية التي لا تتوقف قد أخذت مداها وأزالت معالمها فتحس بعظمتها، رغم تواضعها والجلال والجمال والكبرياء  فأنت أمام بيت الله، أنت ستستلم الحجر الأسود الذي اختصمت قبائل قريش وكادت تقتتل، كل منها يريد أن يحظى بشرف وضعه في الركن الذي كان يراد أن يوضع فيه، ولولا أنَّ الله قد قيض لهم نبيه الكريم لوقع القتال بينهم، ولطال المدى بحروبهم، لكن من كان يعده الله (جل شانه ) لحمل رسالته ويصنعه (تبارك وتعالى) على عينه ليكون للعالمين نذيرًا قد أدركهم الله به، وأنقذهم من فتنة لا يعلم نتائجها إلا الله . 

رأي واحد على “ذكرياتي عن الحج والعمرة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *