محاولة لتأطير الأفكار
منذ عدّة عقود والدكتور طه جابر العلواني يعمل في حقل الدراسات الإسلاميّة على تقديم نماذجَ وإبداعاتٍ اجتهاديّة للداخل الإسلامي، سواء أكان عربيًّا أم غربيًّا، أو للخارج الإنساني بعامّة. وهذه الاجتهادات اتخذت منازل وتجليّات عديدة؛ وذلك منذ بدء رسالته للدكتوراه حول الإمام الرّزاي بتحقيق كتاب هامّ له هو: “المحصول” في أصول الفقه، وكتابة مقدّمة له، في دراسة موسّعة للرازي وكتبه ومؤلفاته وأهم الآراء الأصوليَّة التي انفرد بها. وامتدّ ذلك عبر تولّيه لرئاسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي وإشرافه على مئات الكتب التي أصدرها المعهد. هذا، بجانب تأسيسه وتوليه لرئاسة جامعة “العلوم الإسلاميّة والإنسانيّة”، في فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكيّة، وأخيرًا أكاديميّة العلواني للدراسات القرآنيّة، إضافةً إلى تآليف الدكتور العلواني العديدة التي تزخر بها المكتبة العربيّة؛ تجديدًا في أصول الفقه، والكلام، والسنّة، وإعادة لتشغيل منهجية القرآن كإطار حاكم على الأنساق المعرفيّة داخل الثقافة الإسلامية.
في هذه الوريقات، نحاول أن نقدّم تلخيصًا للمنهاج الفكري – أو لنقل: البراديغم – الذي ينتظم فيه كلٌّ النتاج الفكري لهذا المفكّر المجتهد والعالِم المبدع. يأتي ذلك كمحاولة لضبط الإطار النظري الذي يشتغل من خلاله الدكتور العلواني، استنباطًا بنيويًّا لقواعد تفكيره التي تكتنف مؤلّفاته. ويتمثّل هذا المنهاج الفكري له في ما يلي:
مرجعيته:
- القرآن بوصفه المنطلق الوجودي:
حَجر الزاوية في مرجعيّة مشروع طه العلواني هو القرآن. فهو ينطلق منه، سواء رام مُقاربة التراث العربي الإسلامي، سُنةً وكلامًا وأصولًا وفقهًا وفلسفةً ولغةً، أو عند تعاطيه مع التراثات الغربيّة؛ فلسفة يونانية أو قانونًا رومانيًّا أو أنوارًا أو نهضةً أو حداثةً أو وضعيةً ما بعد حديثة. والقرآنُ، بالنسبة له، كلامُ الله الموحى إلى عبده مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- بلسان عربي مبين (منزه عن التحيز الجِهَويّ والقبائليّ)، كُلّه مُحكم، وكُلّه مُتشابه (يُشبه بعضه بعضا في حِكمته وإِحكامه وأَحكامه)، وهو الكتاب الخاتم، كما أن الدعوة المُحمديّة هي الدعوة الخاتِمة، وهو كِتابٌ يستمد خاتميته من ناحيتين؛ نَسخه لما قبله من أحكام وجدت في الديانتين الإبراهيميتين: اليهودية والنصرانية، وقدرته على الاستجابه لما بعده. وكلاهما، النسخ والقادريّة، يشتغل من خلال مُثلثية الاستيعاب والهيمنة والتصديق والتجاوز، وهو لا يُفهم حقّ الفهم، كما يرى العلواني، إلّا من خلال استراتيجيتين (مخططين) هي: الوحدة البنائية، والجمع بين القراءتين (قراءة في الوحي المسطور، وقراءة في الكون المنشور).
- الخاتميّة المحمديّة:
الأساس الثاني الذي يرتكز عليه العلواني في مشروعه الفكريّ هو الاعتقاد بخاتميّة النبيّ محمد –صلى الله عليه وسلّم، فلا نبيّ بعده ولا مشرّع ولا مجدد، فهو خاتم الرّسل بلفظ القرآن، وآخر النبيين. وهذه الخاتميّة تمثّل لديه موقفًا دينيًّا ومعرفيًّا، وهذا الموقف يستلزم عدّة استلزامات في فكر العلواني؛ فتعني بالنسبة إليه عدم الحاجة لقُطب صوفيّ يقوم مقام صاحب الرسالة بين مريديه وأتباعه وقد يشرّع للمريدين، أو عدم الحاجة لعودة المسيح في آخر الزمان، أو ظهور المهدي؛ كما أنّها تستلزم نقد الفكر الشيعيّ القائم على ولاية الفقيه: إذ يعتقد العلواني أنّ الولاية بعد موت النبيّ –صلى الله عليه وسلم- قد ارتدت للأمّة لا لشخص، فقيهًا كان أو إمامًا. فمنصب الشهادة على الناس انتقل بعد وفاة النبي الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى “الأمّة الشاهدة”، لا إلى فردٍ معيّن بذاته أو صفاته.
- المقاصد العليا الحاكمة:
استنبط العلوانيُّ خمسة مقاصد عليا أو خمس كليات حاكمة من النص القرآني بعد استقراء، هي: التوحيد، والتزكية، والعِمران، والأمّة، والدعوة. ورأى أنها ينبغي أن تحكم ما يصوغه المسلم من عَلاقات مع الخالق والذات والكون والآخرين. وهذه المقاصد متناسقة ومتداخلة ومتشابكة، تعمل ضمن وحدة مقاصديّة بحيث تشتغل جميعها دون اشتغال واحدة وتعطيل الأخرى، بل تعمل معًا فتصنع “رؤية كليّة كونيّة” في الكون والإنسان والحياة، وتصنع نسقًا قرآنيًّا فاعلًا في المعرفة والنشاط الإنسانيين بشكلٍ شامل.
بدأ العلواني أولًا بالمقاصد القرآنية العليا الحاكمة الثلاثة: التوحيد، التزكية، العمران؛ وبعد أن سلّم بها في مختلف الجهات المعنيّة، وسلّم بها الكثيرون وصارت متداولة بين الباحثين في الغرب والشرق، أضاف إليها مقصدين اثنين: الأمّة، والدعوة. وقد علّل ذلك بأنّ المقصدين –الأمّة والدعوة- لم يكونا غائبين عن ذهنه عند التأسيس للمقاصد العليا الثلاثة الحاكمة: التوحيد، التزكية، العمران، لكنّه أجّل الكتابة عنهما بهذه الصفة لئلّا تُستغل من بعض فئات الإسلام المسيّس فتترجم الأمة إلى “الدولة” و”الحكومة” وتخرج بها عن دائرة الاستخدام القرآني. وكذلك مقصد الدعوة الذي قد يسقطه الدعاةُ المعاصرون المسيّسون على ما يقومون به من الدعوة إلى الفئات المسيّسة التي يعملون لها، والمفهوم القرآني للدعوة شيءٌ آخر.
- الجمع بين القراءتين:
القرآن الكريم قد دعانا، حسب العلواني، لقراءتين يكمّل كلٌّ منها الآخر، قراءته -أي القرآن- ككتابٍ مكتوب، وقراءة الكون والوجود ككتاب منظور، وهو ما سمّاه العلوانيّ منذ عقود “الجمع بين القراءتين”. فلا بد من قراءة المصدرين معًا وتنفيذ الأمر بالقراءتين: قراءة الوحي النازل المتمثل في الكتاب الكريم، المحدد لغاية الحق من الخلق، والمنبه على السنن الحاكمة لهذا الوجود الموضح للمنهج والشرعة والحقائق الأساسية؛ وقراءة كونية شاملة لآثار القدرة الإلهية وصفاتها وخلق الإنسان، وسائر السنن والظواهر الكونية، وائتمانه على الوجود، وندبه لإعماره وتسخيره. فالقرآن، عند العلواني، كتاب هداية ودليل استخلاف يبيّن للإنسان كيف يكون خليفةً ناجحًا في هذا الكون وفي موقعه من الأرض. والكون ميدان فعل الإنسان وخلافته. فلابدّ للإنسان المستخلَف من قراءة الكتابين معًا وفهم كلّ منهما بالآخر. فلا مجال للخرافة بل هو العلم والبرهان والحقائق والمنهاج والسنن والقوانين، التي تشكّل المفاتيح السليمة للقراءة والتلاوة. فإذا كان الوحي من الغيب، فإن متعلّقاته في الكون من عالم الشهادة. وهكذا، يلتقي الغيبُ والشهادةُ في قراءة بشريّة موحّدة فينتهي الاضطراب الذي ورثته البشرية من القراءات المعزولة المنفصلة المجزّأة.
- الاجتهاد
يأتي الأصل الأخير في ذلك المنهاج الفكري للدكتور العلواني متمثّلًا في الاجتهاد بوصفه الأفق الذي فتحه الإسلام ووفّره للإنسان الأخير الذي لن تأتيته رسالة أخرى من السماء. فحسب العلواني، فإنَّ القرآن قد دعا للاجتهاد النظريّ والعمليّ؛ اجتهادًا نظريًّا أي بالعلم، واجتهادًا في الأرض أي بالعمران. وقد قام الدكتور العلواني بهذا الاجتهاد النّظري تلبيةً لهذا الشرط القرائي، ورغبة في تحققه، فأخذ يقوض ما يحول دون هذه التلبية وذاك التحقق. فشرع في نقد أهم ركائز “علوم القرآن”: الناسخ والمنسوخ؛ والمُحكم والمتشابه؛ والتأويل؛ وأسباب النزول والروايات في القراءة. ورأى أنَّها حالت – وما زالت تحول – دون “تلاوة القرآن حق تلاوته”. كما قام بما يُمكن أن نُطلق عليه “قراءة تحويلية” لمفهوم السُنّة، أحد أهم دعامات علم أصول الفقه، حيث حوّل منطق التعامل معها من كونها “قاضية على الكتاب”، كما هو سائد في عموم التراث السُنّي والشيعيّ، إلى كون الكتاب قاضيًا عليها وموجهًا لها. فهو ينقد التصورات الأصولية وكذا تصورات ما عُرف بـ”علوم القرآن” في علاقته بنفسه وفي علاقته بالمعارف الإسلاميّة الأخرى، وأخذ يعمل على تحريره من سياجات هذه التراثات التي تقوم بالحؤول دون تلاوته حقّ التلاوة.
والعلواني لا يرى الاجتهاد بابًا من أبواب “أصول الفقه” يعمل في ميدان الفراغ التشريعيّ الذي تركه الكتاب والسّنة كما هو لدى الأصوليين ومَن إليهم بناءً على ما تداوله الكثيرون من حديث معاذ الذي يوافق العلواني ابن حزم في الطعن بصحته سندًا ومتنًا. ولذلك، فإنّ العلواني يخالف الأصوليين ومَن إليهم في تعريف الاجتهاد. فإذا كان الاجتهاد عن الأصوليين: “استفراغ المجتهد الوسع في استنباط حكم فقهي من دليل شرعيّ”؛ فالعلواني يرى الاجتهاد حالة عقليّة لكلّ مَن تلقّى القرآن وآمن به، يجب على كلّ فردٍ من أبناء “أمّة الإجابة”؛ فلا يرضى ما يُنقل له من نقول إلا بعد الاطمئنان إلى صحتها، ولا يقبل من أحدٍ دعوى إلا إذا أثبت صحّة دعواه: فلا يتيح عقل إنساني واحد لقبول القرآن وقبول الخرافة والشعوذة، في وقت واحد. إنّما هو المنهاج الصارم والبرهان والحجّة والدليل؛ لأن الأمة إذا فقدت ذلك فإنها لا تصلح للخيريّة ولا الوسطيّة ولا تقوم على الشهادة.
هذا والله أعلى وأعلم.
كتبه:
محمَّد الدخاخني، وكريم محمد
17/4/2014م
الزمالك.