Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

رد الأحاديث

أ.د/ طه جابر العلواني.

مما ابتلينا به في هذا العصر نابتة جاهلة جهلًا مركًبا لا جهلًا بسيطًا، وهذه النابتة الجاهلة تتبنى ما يعجبها من الأحاديث ويتفق ومذاهبها ومعتقداتها الأيدولوجية، فإذا تورط بعض أهل العلم برَد ما ألفوا اعتباره حديثًا، سواء أكان هذا الحديث من الضعيف، أو الغريب، أو الحسن، أو الصحيح من وجه تقوم قيامتهم ولا تقعد إلَّا بعد أن يصدروا مجموعة صكوك يكفرون بها مَن رَد ذلك الحديث، أو لم يعمل به، أو لم يأخذ به، أو قام بتأويله، أو أعلن عن فهم آخر يغاير فهمهم له، وهم أسرع الناس لتكفير المسلمين، والتنديد بكل من يرفع صوته في رَد حديث أخذوا به، أو صححه مشايخهم، أو ورد في كتاب من كتبهم مهما كان هذا الكتاب، فتلك جريمة لا تغتفر، ورِدة ولا أبو بكر لها ولا عمر.

 شيخنا الغزالي -يرحمه الله- حين اقترحنا عليه إعداد كتاب عن السُّنَّة النبوية، ومنهج العلماء في أخذ ما يأخذون وَرد ما يردون، دهش الرجل في بادئ الأمر وقال: “وهل هناك من لا يعرف أنَّ أهل العلم ما زالوا مذ عرفوا الأحاديث يردون منها ويقبلون دون إنكار من أحد منهم على الآخر وذكر عدة أحاديث منها: (لا نكاح إلا بولي) هذا الحديث صححه أبو حنيفة والأئمة الآخرون لكن أبا حنيفة لم يأخذ به لمعارضته لظاهر القرآن ألا وهو نسبة النكاح إلى المرأة كما في قوله تعالى:﴿.. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ..﴾(البقرة:232)       فالآيات نسبت النكاح إلى المرأة، وفهم أبو حنيفة من هذا أن القرآن يجيز لها أن تعقد على نفسها، وأنَّ الحديث لا يستطيع  أن يعارض القرآن، في حين أن أئمة آخرين اعتبروا الحديث الصحيح مؤهلًا لأن يعارض ظاهر القرآن ويخصصه فقال أولئك “نتفق معك يا أبا حنيفة في إعمال ظاهر القرآن في الثيب طبقًا للآية الكريمة ﴿ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾(البقرة:230)، وفي تلك الحالة يقصد المرأة التي سبق لها الزواج، وأمَّا البكر فلابد أن يزوجها وليّ طبقًا للآية الكريمة ﴿أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾(البقرة:237) فَسُئِل الإمام أبو حنيفة عندما رَدَّ أو أنكر الحديث فقال:” معاذ الله أنّ أرد شيئًا ثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فكل ما ثبت خروجه من بين شفتيه- صلى الله عليه وسلم – فهو على الرأس والعينين علمته أم لم أعلمه، ولكني مُكذب من يُحدث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ، فمجادلتي في المُخبر لا في الخبر” .وقد ردَّ جُملة كبيرة من الأحاديث بهذا المنهج، وبهذه الطريقة أنكر عليه بعضهم ولم يغير من موقفه شيئًا، بل كان يؤكد أنه سيستمر على ذلك المنهج، فهو المنهج الذي يرضي الله ورسوله، حيث إنَّه لم يأت ليخالف القرآن في أي شيء من الأشياء، بل جاء ليتلوه على الناس ويعلّمهم آياته.

إنَّ هؤلاء يقولون: إنَّ الإمام البخاري كان يحفظ ما يزيد عن سبعمائة وخمسين ألفًا من الأحاديث، وأنَّه قد اختار جامعه الصحيح من  أربعة آلاف ومائتي حديث، وروي عنه أنَّه كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، وكان يحفظ مائتي ألف من الأحاديث الضعيفة، وأحيانا يورد البخاري في الأدب المفرد حديثًا يضَّعفه من يضَّعفه، ويرفضه من يرفضه، وكذلك فعل في كتبه: “التاريخ الكبير والأوسط والصغير” ولقد تعقبه في بعض ما صححه الإسماعيلي، والدار قطني، وغيرهم من أهل العلم، فقد وردت أحاديث عند ابن حجر كان يحاول أن يرد على أولئك الذين تعقبوا البخاري ويبحث لها عن طرق وتأويلات وتفسيرات تجعله في عداد المقبول وكان العيني[1] – وهو شارح حنفي للبخاري- يتعقب ابن حجر في دفاعه وتأويلاته ويرد عليه.  وكان الإمام الشافعي يروي الحديث أحيانًا ويستنبط منه أحكامًا ويأتي الإمام أحمد فيطلعه على ذلك فيقول له: يا إمام هذا الحديث لا يصح عندنا فيرجع الإمام الشافعي عن رأيه ويقول حدثني الثقة وحين يورد ذلك فأنه يريد به أحمد ابن حنبل حتى صار معروفًا لدى الجميع في بغداد أن الشافعي يلجأ لأحمد في قضايا الحديث وربما قال له: “لست من أهل هذا الفن فأعينوني”

 وبقي حال الأمَّة هكذا تأخذ وتعطي، والعلم رحم بين أهله يحترم المخالف ويقبل رأيه.

 فقد روي عن سفيان ابن عيينه أنَّه عاتب أحمد بن حنبل على تلمذته على يد الشافعي وقال له: “بلغني أنك تتواضع لهذا الفتى القرشي لدرجة أنك تمسك بخطام دابته حتى يركب فابتسم أحمد وقال: لو امسكت من الناحية الثانية لأصبت علمًا كثيرًا”.

 لكننا ابتلينا في عصرنا هذا بنابتة ليس لها في العلم قبيل ولا دبير[2] ، ولا تملك منه شَرْوَى نقيرٍ[3] ، تتلمذت على الكاسيت، وتعلمت على الأشرطة، وتربت بعيدًا عن المساجد، والأربطة، والأروقة، لا ترى إلا وجهًا واحدًا، ولا تدرك منه إلَّا شيئًا منفردًا، فإذا عرضت عليها مسألة فيها أوجُه، سرعان ما تضطرب، وترتبك، وتأخذها رَعدَة، ورَعشة، فلا تجد بين أيديها إلا ألفاظ الهجو، والتكفير، والتحقير، والرمي بالبدعة، والاعتزال، والمعصية، ولو سألتهم عن تلك الألقاب التي يلقبون الناس بها لِمَا عرفوا لها أصلًا، ولا فصلًا، ولما أدركوا لها وجهًا، ولا ظهرًا، لكنهم نعق بين أيديهم ناعق فتابعوه، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، فبلغوا بالأمَّة هذا المبلغ الذي نتردى فيه، وصاروا يلقبون أنفسهم بأنبل الألقاب، وهم منها براء، فقد يجترئ بعضهم بتسمية نفسه “رجل حديث” “محي السنة” “قاهر البدعة” “أبو فلان” وفي عمره ما قهر أحدًا، اللهم إلَّا أن الشيطان ملأ إهابه بالغرور، فصار يطلق على نفسه من تلك الألقاب التي يجدها في الكتب مثل: “محدِّث عصره” “ناصر السُنَّة” “قامع البدعة” إلى غير ذلك مما يعجبه.

 فليتق الله هؤلاء الجهلاء وليعرفوا أقدار أنفسهم “فلا كعبا بلغت ولا كلابًا”.

 فما لهم ولطلبة العلم الذين تربوا في حلقات العلم، ومجالس المعرفة، ودواوين التراث، ونحن لا نريد أن نسمي أحدًا من هؤلاء؛ لأنك تعرفهم بلحن القول، خاصة حين يُسند أحدهم،  فيعنعن، أو يحثحث، أو يخبخب، أو يدلس، أو يحاول أن يبدو دقيقًا فيقول لك في نهاية الحديث: “أو كما قال” (صل الله عليه وسلم) ليوهمك بأنَّ ما رواه باللفظ الذي ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاهلًا ومتجاهلًا أقوال الأئمة.

 إنَّ هذه الأحاديث قليل، بل نادر جدًا ما روي بلفظه منها، فعامة الحديث روي بالمعنى، منهم من وصل به إلى تسع وتسعين في المائة، ومنهم: الخطيب البغدادي، الذي ورد عنه ثلاثة وتسعون في المائة من الحديث قد روي بالمعنى.

 فليربعوا على أنفسهم، وليريحوا، ويستريحوا، فما كل إنسان يقعقع له بالشنان،[4]  وما كل إنسان يغمز تغماز التين

لكن البعض منهم قد فتحت لهم الجامعات في “مرحلة البترو دولار” كليات للحديث، وأقسامًا كبرى للحديث، وصار أحدهم يحمل لقب “أستاذ دكتور” في الحديث، فتشبثوا بذلك، وصدَّقوا أنَّه ما دام قد حَمل دكتوراه في الحديث، فينبغي أنّ يتتلمذ على يديه رجال الحديث، ويجلسوا بين يديه، ويأخذوا منه، ولا يحق لهم جداله، ولا الرد عليه!

  اللهم اكشف الغُمة عن هذه الأمَّة، وارحنا من انتحالات المبطلين، وتأويلات الجاهلين، وآراء الغالين.  

وفقنا الله إلى ما يحب ويرضاه.

  

 

[1] فتح الباري ج8 238 مقدمة فتح الباري  شارح البخاري.

[2] يقولون في الأمثال : ما يَعرِفُ قَبيلاً من دَبيرٍ أي لا يعرِفُ الأَمرَ مُقبِلاً ولا مُدْبِراً . تاج العروس 30/216

[3] أي معدم. المعجم الوسيط 1/481 

[4] ما يُقَعْقَعُ له بالشِّنَانِ بفَتْحِ القَافَيْنِ أي لا يُخْدَعُ ولا يُرَوَّعُ . تاج العروس 22/53

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *