Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الأزهر علمني الاعتدال

أ.د. طه جابر العلواني

حضرت إلى القاهرة من بغداد -للمرة الأولى- بعد توقف يسير في مطار دمشق مغربَ شمس يوم «15/11/1953م»، كنت قد دخلت في مدينتي «الفلوجة» «المدرسة الآصفيَّة الدينيَّة»، حينما كنت في الثالثة عشر من عمري، وتخرَّجت فيها بما يُعادل الثانويَّة الأزهريَّة، ثم انتقلت بعدها إلى بغداد لكي أدرس على علمائها؛ من أمثال: «المفتي الأكبر» قاسم القيسي، و«إمام العراقيين» بحق أمجد الزهاوي، والذي تشرَّفت بصحبته في مجيئي الأول إلى القاهرة، ولم أكن قد تجاوزت الثامنة عشرة من العمر بعد.

وقد علَّمني شيخي -حين بدأت دراستي الدينيَّة في مدرسة الفلوجة- أنَّ أيَّ تصوير لذي روح -إنسانًا أو حيوانًا- حرام، وكان يعلِّمنا أن نحمل «مِقصَّات» في جيوبنا لنقطع بها الصور -التي يُزيِّن الناس بها وسائدهم وأغطية فرشهم- إذا كانت صورًا لطيور أو نحوها مما له روح.

وكان شيخي يعتبر مستبيحَ حلق اللحية كافرًا، وحالقها -مع الإيمان بالتحريم- فاسقًا فقط، لا غير، وكان يعتبر وضع تغطية الرأس بعمامة أو طاقيَّة أو «غترة» واجبًا، والحاسر لذلك الغطاء فاقد للمروءة، لا تُقبل شهادته، وكان يعتبر لابس البرنيطة أو البيريَّة كافرًا، فإذا سُئل عن رجال الشرطة والعساكر حوقل وسكت، وكان يرى أنَّ ختان البنات واجب، ويرى لبس البناطيل والبدل الإفرنجيَّة تشبُّهًا بالكفار ويعتبره محرَّمًا.

وكان يؤكد علينا -في مجالس الدرس- ضرورة الالتزام بذلك كلّه، وضرورة أن نمنع أخواتنا ونساء أسرنا من الخروج من البيوت؛ إذ ليس للمرأة إلا «ثلاث خرجات»: الأولى عندما تخرج من بطن أمها إلى حياتها النكدة، والثانية عند خروجها من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والثالثة خروجها من بيت زوجها إلى قبرها، وقد سكتوا عن الخروج الرابع، عندما تخرج من القبر إلى المحشر!! فهي في موقف لا سلطان لهم عليه… ! وكان يؤكد علينا كذلك على عدم السماح لأهلنا باقتناء الراديو، فهو مصدر إفساد للأسرة، وعلينا إخراجه من البيوت، حتى لو بتكسيره.

ولما انتقلت إلى بغداد استنكر شيوخي البغداديُّون كثيرًا من فتاوى شيخي الفلُّوجيِّ، وبدأت أتساءل: مَنْ هو المصيب؟ وأحدث ذلك قلقًا شديدًا داخلي، فقد أحببت شيوخي البغداديِّين، وأُعجبت بهم وباتِّساع آفاقهم، وتنوع اهتماماتهم، لكنَّني بقيت -إلى أن انتميت إلى الأزهر- ينتابني بين الحين والآخر قلق وحيرة وتساؤلات.

وقد كان في الأزهر الشيخ محمد الخضر حسين -وهو «تونسيٌّ»- شيخ الأزهر، وكان الشيخ عيسى منون –وهو «فلسطينيٌّ»- عميد كليَّة الشريعة، ولم يكن عالم أو طالب علم يفد إلى الأزهر إلا ويشعر بأنَّه قد طال عنقُه شرفًا بالانتساب إلى «قلعة المرجعيَّة السنِّيَّة العالميَّة».

وهنا بدأت أتعلم -من أساتذة الأزهر وشيوخه- تفسير كل ما كان يُقلقني مما تعلمته في العراق، فتعلَّمت كيف تنشأ المذاهب والمقولات الفقهيَّة باعتبارها فهمًا بشريًّا للشريعة، وليست الشريعة نفسها، وأثر البيئة والثقافة فيها، وأثر شخصيّة الفقيه وتكوينه العقليِّ والنفسيِّ في فتواه وآرائه، والفرق بين القديم البغداديِّ لدى الشافعيِّ والجديد المصريِّ، وكيف غيَّر هذا الإمام الجليل مذهبه العراقيَّ القديمَ -إلا مسائلَ معدودات- واستبدله بفقهه المصريِّ الجديد، فأفادني ذلك إلى يومي هذا، أفادني اعتدالاً ورؤية وبصيرة أحمد الله عليها. وفي تلك المرحلة -التي كان الأزهر فيها مثابة للأمَّة الإسلاميَّة، وآخر تجسيد تعليميٍّ مؤسَّسيٍّ لها- تعلَّمت الانتماء إلى الأمَّة الإسلاميَّة كلّها دون تمييز، فقررت الاستمرار في الأزهر إلى أن تخرَّجت فيه، ونلت منه جميع شهاداتي من الثانويَّة وحتى الدكتوراة.

إنَّ الأزهر هو المؤسَّسة الكبرى التي تستطيع أن تُحبط أيَّة محاولات لعزل مصر عن محيطها العربيِّ ومجالها الحيويِّ الإسلاميِّ، إنَّ الأزهر قد أخذ من مصر وأعطاها، أخذ من شعب مصر مرونته واعتداله وطيبته وانفتاحه، وأعطى مصر مكانتها اللائقة بها في عقول ونفوس المسلمين كافَّة، وفي سائر أنحاء العالم، اللهم فاحفظ الأزهر، وأعِدْ له أمجاده، واجعل أفئدة من الناس تهوي إلى تدعيمه وتقويته وإعلاء شأنه… إنَّك سميع مجيب.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *