Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

العلاقة بين الجن والبشر

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أحيانا أجد نفسي عالقا في نقاش العلاقة بين البشر والجن، وذلك في معرض ردي لإمكانية وجود العلاقة أصلا، بكل بساطة لأنهما مخلوقان من طبيعتين مختلفتين تماما، فينتقل النقاش إلى قضية السحر فأجد نفسي أسأل عن حقيقة السحر ومعناه العلمي وليس ما انتشر بين عوام الناس مع إقراري بعدم معرفتي لذلك، وقد ينتقل النقاش إلى علاقة الملائكة بالبشر أو التأثير المتبادل، الشيء الذي لم يتقبله عقلي إلى الآن لكن مع كل ذلك أجد أن دليل القول الآخر من القرآن ولا دليل لدي غير أني لم أجرب ولم ألتق ولم أر ولم أسمع ولم أعايش هكذا علاقات، وأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن هذا الأمر شاغلا لعقولهم واجتماعاتهم، وأنه لو كانت قدرة السحر فائقة على تغيير الأشياء لكان المشعوذون هم من يحكمون العالم اليوم وليس أصحاب المعرفة الحقيقية الصانعة للحضارة، فما قولك أستاذي الكريم.

الجواب:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولا: ليست هناك علاقات بين الجن والبشر كما هي بين البشر بعضهم والبعض الآخر، هناك علاقة واحدة نؤمن بها لأن القرآن نبهنا إليها وهي: علاقة الوسوسة والإيحاء المتبادل بين شياطين الإنس والجن، ففي الأولى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى﴾ (طه:120)، المقصود به إبليس الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه، كما في سورة الكهف، وكل ما يتعلق بمعرفتنا بالجن جاء في سورة الجن نفسها: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ (الجن:1-2)، وقال (جلّ شأنه): ﴿..شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام:112)، وأما بيئة المدينة المنورة ومكة قبل الهجرة وجزيرة العرب بصفة عامة فقد دخلها اليهود قبل بعثة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبعة قرون (انظر مقدمة ابن خلدون)، بناء على البشرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، فحرص أهل الكتاب اليهود منهم والنصارى على أن يكونوا في المناطق التي ورد الإشارة إليها لديهم بأنها موطن ولادة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أو موقع هجرته أو نشأته فانتشروا في هذه المواقع مكة والمدينة وخيبر، وما إليها، حرصا منهم على أن يكون النبي الخاتم منهم، أو على الأقل أن يكون أحد والديه منهم، أو يكونون له أصهارا، المهم أن لا تخرج النبوة من ذرية إسحاق، وسبعة قرون كانت كافية بأن تخلق ثقافة شفوية متداولة في جزيرة العرب، ومنها ما ورثه اليهود في تراثهم من أساطير حول العلاقات بين الجن والبشر، بما فيها علاقة النكاح بين النوعين المختلفين، المخلوق من النار والمخلوق من الطين، ولم يأبه هؤلاء بهذه الاختلافات الجوهرية في الطبيعة، فجوزوا ذلك وحاكوا حوله أقاصيص كثيرة انتشرت في عرب الجاهلية، وكثيرا ما كان عرب الجاهلية إذا أقبل عليهم الليل وهم في أرض موحشة وعم الظلام تبدأ مخيلاتهم تصنع لهم أشكالا مختلفة نتيجة الظلمة والخوف، وقد اعتادت بعض القوافل أن ينادي مسئول القافلة بأعلى صوته يا سيد هذا الوادي أو هذه الأرض من الجن نحن ضيوفك هذه الليلة لن نؤذيكم فلا تؤذونا، وانتشر تراث من هذا في أدابهم وشعرهم وأقاصيصهم، وارتسم في المخيال الشعبي ذلك الجو من التواصل، حتى إنه إذا اشتهر أحد منهم بالذكاء يسارعون إلى القول بأن أحد أبويه من الجن، فهم يفترضون في الجن غاية الذكاء والقدرة والتمتع بالطاقات الخفية وما إلى ذلك، وقد يصيب المرأة الحبل نتيجة علاقة خاصة فتأنف أن تقول إنها حملت من فلان فتدعي أنها حملت من جني، اغتصبها في منامها، أو في يقظتها، فسادت فكرة اقتران الإنس بالجن ذكورا وإناثا، دون أن يكلف أحد نفسه بيان شيء من ذلك، حتى بدأ نور الإسلام يشع وبدأت عمليات الهدم والتغيير في تلك الثقافة ولكن من المعروف أن الثقافات حين تتأصل وتصل إلى المخيال الشعبي وتصبح قصصا وأمثالا قد يصعب اقتلاعها أو يتعذر، فهناك في المناطق التي ساد فيها البابليون كثير من التراث الشعبي في العراق له أصول بابلية، تتعلق في هذا الأمر، وتجد في مصر مثلها أجزاء من ثقافة فرعونية، تتطور مع الأديان ولا تقتلع، ويمكن أن نضرب مثلا لذلك فيما تفعله بعض شعوبنا المسلمة من إلقاء شموع في مياه الأنهار وتركها لتذهب في ذلك المخيال لإنارة طرق أو قبور أناس ماتو، فالمسيحية مثلا واليهودية جعلت هذه الشموع بدلا من أن تلقى في الأنهار وتطوف على أخشاب فترة اشتعالها صاروا يشعلونها في الكنيسة أو في المعبد لأنها لم تقتلع من نفوس الناس بل طور العمل بها، ولذلك يحرص المسلمون على التفريق بين السنة والبدعة، وحين غمر الإسلام جزيرة العرب وجدت بعض التصورات في ذكر القرآن للجن بصور مختلفة ما سمح لها بلي أعناق النصوص بطريقة تسمح لتلك الثقافة بالتعايش مع الأوضاع الجديدة بل إن هناك أحاديث وضعت للإيحاء بأن شيء لم يتغير وأن الجن ما زالوا يتحركون ويختلطون بالإنس فيتجسدون بالأشكال التي يرغبون بها ويتصلون بالإنسان كما يشاؤون دون أن يكون للإنسان حق الاتصال بهم إلا إذا قام بطقوس في بعضها كفر صراح، وتعبد للجن والشياطين، وقد قام بعض الإعلاميين المصريين بنشر كتاب بعنوان “مقابلة بين ذلك الصحفي الأهبل (محمد عيسى داود) ومعالي الأستاذ مصطفى كنجور وزير إعلام الجن، أو دولة الجن” وحدد الأخ موقع دولة الجن في جزيرة برمودا، وعلل بذلك ظاهرة يعرفها الطيارون من أن الطائرات التي يجهل طياروها الأجواء في تلك المنطقة قد تتعرض لخطر الاختفاء أو السقوط إذا مرت عليها.

 واستمر الوضع ووضعت أحاديث على ألسن بعض أبناء عصر التلقي، يفهم منها أن التعامل بين الجن والإنس عادي جدا، كتعامل الإنس مع الإنس والجن مع بعضهم، وهذا أمر غير صحيح، فالطبيعتان مختلفتان، وهم عالم ونحن عالم آخر، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ (الحجر:26- 27)، فلا لقاء بين الطبيعتين، وأما دخول بعض الجن الإسلام فلا يعني تغييرا بالطبيعة، وانقسام الجن إلى مستقيمين ومنحرفين لا علاقة له بالقدرات الاتصالية بين الجن والبشر في غير ما ذكرنا، أما استماعهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأثرهم بالقرآن ونزول سورة الجن لتعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشيء عن هذا العالم فهي أمور خاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يأت أثر واحد عن أن أبا بكر الصديق أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم رضي الله عنهم أجمعين قد حارب الجن، وانتصر عليهم أو انهزم بين أيديهم، وأخذ منهم الزكاة أو الجزية أو سواها، مما يؤكد أن الله (جل شأنه) اقتضت حكمته ولطفه أن يهدي من الجن من يهدي بهذا القرآن، كما ورد في سورة الجن، ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾(الجن 2:1)، وأما أصحابه -رضوان الله عليهم- فلم تقم بينهم وبين الجن علاقات، لكن الأدب الشعبي يحتفظ لنا بأن بعض خفاف الناس الذين يستطيعون أن يختفوا بسرعة عن الأنظار أو يهربوا من المتابعة كما نقول في أمثلتنا الشعبية (فص ملح وذاب) أو (ابن الجن اختفى) فهؤلاء قد يدعي بعضهم قدرة خفيه وعلاقة بالجن، وفكرة طاقية الاخفاء، وما إلى ذلك، كله أرجعة إلى ثقافة حرسها مخيال شعبي يريد أن يحيل كل ما يغمض عليه من شئون وشجون الطبيعة إلى قوى خفية من الجن والشياطين ومن إليهم، فهناك من يختطفه الجن، وهناك من يتزوج من الجن، وهناك من يتزوجها الجن، إلى أن وصلت إلينا في عصورنا هذه تخلفا مركبا، جعل الخاطئات في الأرياف المسلمة في الباكستان أو جنوب شرق أسيا أو الهند أو العالم العربي أو أي موقع من بلاد الله يتذرعون بقضية الجن، ولبس الجن، ودخول الجن في الإنسان، إلى آخره، وقد خيل لبعض علمائنا أن هذه العلاقة ممكنة، بتأثير بعض أحاديث رويت حول هذا الأمر، أسيئ فهمها أو تفسيرها، ولم تقرأ في نور هداية القرآن المجيد، فدخلت عندنا دعوى الحبلى من الزنا بأن الحد يسقط عنها فلا تعاقب إذا ادعت أن من زنا بها كان من الجن فلم تستطع دفعه عن نفسها، وحاولت الصراخ فلم يسمعها أحد، كنت أسمع ذلك في الريف الملايوي خاصة بعد التطورات الاقتصادية ودخول الصناعة لتلك البلاد، ونزوح كثير من أبناء الريف إلى المدن، فإذا سقطت الفتاة في جريمة الزنا عادت إلى أهلها لتقول لهم بأن جني أصابها،  فصارت بمثابة الثقافة المشتركة فالأسر تتقبل هذا لأن فيه سترا على بناتها، والبنات يختلقن هذه القصص ويتداولنها ويأتي المشعوذون الذين يريدون كسب الرزق لا يهمهم من أي مكان جاء وبأية وسيلة ليكرسوا هذا.

أما بالنسبة لعلاقة الإنسان بالملائكة فنحن نعرف أن هناك كراما كاتبين يكتبون ما تفعلون، وأنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وأن هناك كراما حافظين، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أن هناك ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار على حفظ الإنسان وحمايته، دون أن تكون لهم قدرة على الحماية المطلقة له، ولكنهم يحفظونه من تأثير بعض الكوارث أو الحوادث، بأشكال الله يعلمها، ونحن في كثير من الأحيان قد نسرف في تفسير بعض القضايا، فإذا وجه شيء إلى العين ونحن نعرف حساسية العين وأن الأجفان تنطبق لحمايتها دون قرار منا فقد ينسب البعض حماية العين من سهم  أو حجر أو شيء أطلق على الإنسان بأن هناك ملك أو ملائكة حالت دون ذلك، ونحن في هذه الأمور الغيبية لا نفضل أن نتجاوز ما ورد في كتاب الله عنها قيد أنملة. فلا نزيد ولا ننقص عما يرد في الكتاب الكريم إذ أن هذه أمور سمعية يأتي الوحي الصادق بها وإلا لا تقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *