أ.د: طه جابر العلواني
كثُر في العقدين الماضيين من أطلقوا على أنفسهم أصحاب القراءات المعاصرة للقرآن الكريم، وهم دائمًا يبدأوا بأقوال معسولة قد تقنع البعض، تعتمد على نوع من الخطابة الأرسطيَّة التي تستطيع أن تنفر من العسل، وتستطيع أن تزيّن ما تشاء، فإذا أرادت التنفير من العسل قالت: إنَّه فضلات دبابير، وإذا أرادت الترغيب فيه قالت: إنَّه الشهد، وهكذا شأنهم مع كل ما يريدون الترغيب فيه أو التنفير عنه؛ ولذلك قالوا: الإنسان المعاصر إنسان مسكين، جعلته الحضارة المعاصرة إنسانًا يفرغ إعلاميَّا ويملأ إعلاميَّا، وأصحاب القراءة المعاصرة هم أناس مخرِّبون، جنَّدهم من جنَّدهم للنيل من القرآن المجيد، باعتباره خطاب الله الأخير إلى البشريَّة، وباعتباره خطابًا معصوم حفظه الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فجاء هؤلاء ليكونوا وسيلة للشيطان سواء أكان من الإنس أو من الجن، للإساءة إلى القرآن وتنفير الناس منه، وتشكيك الناس فيه، ولقد تتبعنا كتابات أكثرهم ووجدناها جميعًا كتابات مرذولة أعادت مقولات الطاعنين على القرآن بلغات معاصرة، خدمة للتوجهات الغربيَّة التي لا تقبل أن يقف أي نص أو توجه أو فكر بوجهها، فهي صورة للدّجال الذي يعمل على تكفير الناس وتنفيرهم من القرآن واجتيالهم عن سبيل الله، وعندما اطلعنا على كتاباتهم وما أكثرها وما أكثر الداعمين لها من أعوان الشيطان وجدناهم يريدون ما يلي:
الأمر الأول: التلاعب بمفهوم الوحي؛ ليجعلوا منه مفهومًا طريًّا يستطيعون التلاعب فيه، والنيل منه، بعد أن حماه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الشورى:51).
الأمر الثاني: الهبوط بمكانة القرآن إلى مكانة أي خطاب بشريّ أدبيّ من الشعر المنثور، أو النثر المشعور، مما لا يجدون غيره لينزعوا من قلوب وعقول المؤمنين بالقرآن تفوقه وتحديه وإعجازه واحترامهم له، ويسوغوا لأنفسهم عمليَّات النيل منه، وهم في ذلك:
كناطح ضخرة يومًا ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
الأمر الثالث: يريدون أن يتلاعبوا بقلوب المؤمنين بالقرآن فيصورون لهم أنَّ النص القرآنيّ غير متسق في داخله، وأنَّه مليئ بالاستعارات والتشبيهات التي يلجأ إليها لكي يضفي على نفسه تفردًا وتميزًا على كلام المؤلفين للكتب الأخرى، وأنَّ الآيات التي اشتمل عليها معظمها مصادم للعقل وملغ له.
الأمر الرابع: أرادوا أن يؤكدوا على تاريخانيَّة القرآن بأن يربطوا سائر آياته بظروف بيئة النزول وزمنه، وهم يركزون عادة على أسباب النزول، ومن المعروف أنَّ العلماء لم يهتموا كثيرًا بتوثيقها؛ لأنَّ العبرة عندهم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأنَّهم يريدون أن يقولوا للناس إنَّ القرآن نزل لذلك العصر الذي نزل فيه ولا يتجاوزه إلى غيره.
الأمر الخامس: يريدون إلغاء شريعة القرآن، وبيان عدم مناسبتها إلا للبيئة التي نزل القرآن فيها، وهو لا يناسب أية بيئة أخرى، واعتبار أنَّ العقيدة الإسلاميَّة كلّها عقيدة تاريخيَّة لا تختلف عن معتقدات أهل الكتاب من يهود ونصارى، ومعظم عرب الجاهليَّة الذين كانوا على الحنيفيَّة كانوا يعرفونها ويؤمنون بها قبل نزول القرآن، فهي عقيدة مأخوذة من البيئة وراجعة إليها فلا يليق بإنسان معاصر أن يتبناها؛ ولذلك فإنَّهم يأتون بنتائج عديدة منها:
أ) التسوية بين القرآن وأي نص آخر لأي مؤلف، ومادامت بعض النظريَّات الأدبيَّة نادت بموت المؤلف فذلك يعني أنَّه يريدون أن ينادوا بموت الله (جل شأنه) كما نادى نتشة بموت الإله وتأليه العلم في المراحل الأولى لظهوره.
ب) ويريدون أن يزعموا ويقنعوا الناس بأنَّ الإيمان بأنَّ القرآن تبيان لكل شيء خرافة من الخرافات، وأنَّ جميع آيات الأحكام في القرآن والشريعة القرآنيَّة يجب أن تفهم فهمًا عصريًّا لمن يريد، ويمكن تجاهلها تمامًا؛ لأنَّها مجرد نصائح ووصايا، من شاء أخذ بها ومن شاء أهملها، أمَّا فيما يتعلق بالأخلاق والسلوكيَّات فهم ينسجمون مع ثقافة العصر في تعليق تحريم الزنا على عدم التراضي واعتباره جريمة إذا حدث غصبًا، ويحصرون الأخلاقيَّات والنظام الخلقيّ كلّه بالأخلاق الباطنيَّة، وأن لا مسئوليَّة على ممارسة أيَّة أخلاق منحرفة.
يريدون أن يصلوا بذلك إلى تحقيق أهداف حضارة الأعور الدَّجال بالفصل بين المسلمين ودينهم، وتدمير مرجعيَّة القرآن فيهم، وحملهم على تقبل ثقافة العولمة الدجاليَّة للتمتع بالخوض مع الخائضين، فاحذروهم قاتلهم الله أنَّى يؤفكون، ولا تخدعنَّكم أسماءهم ولا ألقابهم، إنَّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم.