Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حوار حول الوجود الإسلامي في الغرب

 

الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية

أ.د/ طه جابر العلواني

مقترح للإدارة الأمريكية لإعادة النظر في سياستها نحو الإسلام والمسلمين

June 1, 2005

‏02‏ جمادى الأولى‏، 1426

      كانت هذه المقالة رسالة أعدت لتكون تعليقًا على إجابات خمسة من الأساتذة الأمريكان وجهت لهم مجموعة من الأسئلة لاستطلاع رؤيتهم وآرائهم في ما يقترحونه على الإدارة الأمريكية وجهت لهم مجموعة من الأسئلة لاستطلاع رؤيتهم وآرائهم في ما يقترحونه على الإدارة الأمريكية، لإعادة النظر في سياستها نحو الإسلام والإسلاميين، وضرورة التمييز بين المعتدلين من المسلمين والمتطرفين، وبعد أن أجاب الأساتذة الخمسة على تلك الأسئلة كل بطريقته ووفقًا لوجهة نظره قدمت الأسئلة مع تلك الإجابات لي للتعقيب عليها –كلها- فكانت هذه المقالة. وقد نشرت بالإنجليزية في المجلة الإسلامية الأمريكية في عددها.

وبعد: فشكرًا لك على (الأخ المحرر د. مقتدر خان) ما تفضلت به من إشراكي في هذا الحوار البنَّاء ودعوتي للتعقيب على ما تفضل به هؤلاء أساتذة الكرام. لقد كنت موفقا جدًا في صياغة الأسئلة وقد وجدت بينها من الترابط المتسلسل ما يجعلها بمثابة سؤال واحد.

     وقد رأيت أن أتجاوز فكرة التعليق على إجابات الأساتذة الأفاضل واحدًا واحدًا، وفضلت اللجوء إلى تعليق إجمالي بحيث يستطيع كل من الأساتذة الذين أجابوا على أسئلتك أن يلاحظ الجانب الذي يختص بإجابته من تعقيبي دون تسمية له، ودون عرض لجوابه. كما أنَّ القارئ يستطيع أن يدرك إن شاء.

     وقد قمت برصد الأفكار الأساسيَّة التي دارت حولها إجابات الأساتذة فوجدتها كما يلي:

 1-إبراز مصطلح المسلم المعتدل ومحاولة تعريفه من كل بحسب وجهة نظره.

2-إبراز مصطلح الحداثة، وميل أكثرية الأساتذة إلى حصر صفة الاعتدال بالحداثييّن المسلمين الذين يتقبلون “الحداثة” ومعطياتها بتطبيق عربي أو إسلامي؟

3-إشارات البعض إلى اضطراب السياسة الأمريكية في التعامل مع المسلمين المعتدلين، وعجزها عن استيعابهم، والاستفادة منهم في أمرين أساسين:

الأول: تستخيرهم لبناء علاقات أفضل مع العالم الإسلامي، وتحسين الصورة الأمريكية فيه وتوظيف قدراتهم وعلاقاتهم ذي ذلك لدفع فاتورة المواطنة، وإثبات صدق الولاء والإحساس بها.

الثاني: تسخيرهم في تيسير عملية نقل قيم الديمقراطية والحرية والتعددية كما هي في مضامينها الغربية المعاصرة وإشاعة الوعي بها وبمرجعيتها المعاصرة.

4-محاولة إعطاء تعريف للمتطرفين المسلمين، وبيان الفروق بينهم وبين المعتدلين.

5-هناك إشارات إلى طبيعة الإدارة الأمريكية الراهنة وبيان أثرها في تلك المواقف الأمريكية.

6-وتساءل البعض حول التهمة العتيدة “معاداة السامية” وهل يمكن إتهام المسلمين عامة والعرب خاصة بدعوى “معاداة السامية”.

7-أبرز البعض في إجاباتهم الإشارة إلى (11/9) وأكدوا على كون من قاموا بخطف وتفجير الطائرات مسلمين، غالبيَّتهم سعوديُّون. مع إغفال الإشارة إلى أن F.B.I  وغيرها من مؤسسات الأمن الأمريكي قد نفت وجود أيَّة صلة بين الخاطفين وبين أيّ مسلم أو مسلمة من مسلمي أمريكا المواطنين أو ذوي الإقامة الدائمة (Green Card) إضافة على أنَّ عددًا كبيرًا من ضحايا 11/9 كانوا مسلمين.

8- لاحظت تلميح بعض الإجابات إلى “قصة المؤامرة لاغتيال الأمير عبد الله بن عبد العزيز”، وبشكل تحريضيّ لم يخل من تلميح إلى دعوة ضمنيَّة إلى عدم الثقة بالمسلم سواء صنف معتدلا أم متطرفًا؛ لأنّ طبيعة الإسلام والثقافة الإسلامية تحمل –في نظر بعض أولئك الكاتبين- بذر الاستعداد لممارسة الإرهاب. وأن ذلك لن يتوقف حتى يقوم المسلمون بإدخال مثل تلك التعديلات التي أدخلها اليهود على اليهوديَّة والنصارى على النصرانيَّة مما منح الدينين المرونة المطلوبة لجعل التعددية، والقبول بالآخر أمرًا ممكنًا !! وقد اعتبر الأستاذ المجيب ذلك “اجتهادًا” معتبرًا لابد للمسلمين من القيام به ليحصلوا من سيادته على “شهادة الاعتدال” أي: أن يحرفوا دينهم بجهدهم واجتهادهم. بقطع النظر عن حقيقة “الاجتهاد” الإسلامية وضوابطها. وأنّ يتجاوزا فكرة وجود ثواب في الدين ويصيخوا السمع جيدًا لمقترحات مثل ذلك الأستاذ الحداثيّ، فكل ما يراه هو وأمثاله من الإسلام مناخيًا للحداثة كما يعرفها سيادته –فعليهم –أي على علماء المسلمين والمسلمين كافَّة الاعتذار عنه وتجاوزه سواء أجاء به الكتاب الكريم وبيَّنته السنَّة، أو أجمعت الأمَّة عليه. وصدق الله العظيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (آل عمران:100)، ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (البقرة:120). ولا شك أن هذه الآيات –في نظر الأستاذ- مما يجب رفعه من القرآن المجيد ومنع قرائته.

9- هل يمكن أن تواجه إدارة أمريكا بالنخبة الإسميَّة من أبنائها، ومن ينظم إليهم من نخب المجتمعات الإسلاميَّة التحديات التي تواجهها في العالم الإسلامي؟!

10- هل يمكن تعميم النموذج “الإسلامي التركي” في سائر بلاد المسلمين؟ وكيف تحدد الفروق بين نموذج الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا الآن، والنموذج الإيراني والسوداني وغيرها.

11- موقف المسلمين من قضية المرأة، والخلط الشديد بين الموقف الشرعيّ والموروث الثقافيّ. مع إشارة لعائشة وزواج الصغيرات، المستهجن ظاهريًّا في الغرب، مع أن المرأة الغربيَّة لمتصل إلى مستوى الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة منذ 14 قرنًا إلا قبل عقود معدودات من السنين.

ولا ندري ما هي العلاقة بين الاجتهاد وبين المصالح الأمريكيِّة؟!

12- الاجتهاد بين السنَّة والشيعة واختلاف موقف كل من الفريقين منه، وهل هو اختلاف لفظيُّ أو حقيقيُّ، وأيُّ الطائفتين أقرب إلى المصالح الأمريكيَّة للعمل على دعمها وترجيح كفتها على الأخرى.

13- الانقسامات الدينيَّة التي سمحت ببروز إصلاحيين وتقليديين في المحيط الإسلامي، ومدى حاجة المسلمين إلى اجتهادات تؤدي إلى تمايز الفريقين كذلك. أي تفضيل الانقسامات الرأسيَّة على الانقسامات الأفقيَّة.

14- العلمانيَّة وفكرة “المقدس” وهل يمكن قيام علمانيَّة في العالم الإسلامي تتعايش مع المقدَّس أو تقبله؟

15- تصنيف البشر والطريقة المثلى له وأثر تبني المسلمين لتقسيمات القرآن الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق بإنماء الصراعات وثقافة الكراهية.

16- العولمة المعاصرة والأديان وكيفية تحويل الأديان إلى أدوات لدعم العولمة لا الوقوف بوجهها.

17- الوجود الإسلامي في الغرب، وتحديد زاوية النظرإليه.

18- ما أهم أسباب “الوجود الإسلامي في الغرب” وكيف يمكن جعل المسلم المقيم في الغرب قادرًا على تبنَّي قيم الغرب والاندماج فيه ثقافة وحضارة؟!

وكأنّ “النموذج الإسلامي التركيّ” مقبول عندهم، وأوربا في كل يوم تضع شروطًا جديدة وإضافة للحيلولة بين تركيا والانضمام إلى نادي “المجموعة الأوربيَّة” لأنّه ناد “لمجموعة الول الأوربيَّة النصرانيَّة” كما عبَّر أكثر من واحد من قادة تلك المجموعة!!

19- هل يمكن أن نضيف إلى ذلك نوعًا من المقارنة بين الوجود الإسلاميّ في الغرب، والوجود الغربي في بلاد المسلمين ولم لا نجد جاليَّات غربيَّة في بلاد المسلمين مثل الجاليات الإسلاميَّة في الغرب؟!

20- “الإسلاموفوبيا” بين الحقيقة والخيال، ومن المستفيد منها، وكيفيَّة التخلص منها؟

هذه بشكل تقريبي أبرز النقاط التي نبهت الأسئلة الخمسة إليها وقادت إلى تناولها.

     وقد حاولت جهدي أن أعلق عليها بأكثر ما استطعت من الاختصار الذي تسمح المساحة التي حددتموها لي بها. وفيما يلي تعليقي العام على ما تفضلتم بإرساله إلي وشكرًا لكم.

طه جابر العلواني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليق على السؤال الأول:

من هو المسلم الحداثي؟

      تعريف “المسلم الحداثي” من وجهة النظر الأمريكيَّة: فالحداثيُّ هو المسلم الذي يتقبل قيم الحداثة الغربيَّة كما هي –ولا يجد في نفسه حرجًا دينيًا في ذلك. لقد كانت الإجابات معظمها قد حاولت تبنَّي هذه التعريفات كما هي في الثقافة الغربية دون نقد لها أو ملاحظة. وفي هذا تجاهل صارح لوجهة النظر الإسلاميَّة في هذه المفاهيم، أو الالتفات إليها.

     وقبل أن نحاول بيان المراد “بالمسلم الحداثي” نود الإشارة إى أنَّ التعامل الأمريكيَّ مع من يعتبرونهم المعتدلين المسلمين تعامل اضطراريُّ ناشيء –في نظري- عن كون الأمريكان ينظرون إلى هذا النوع من المسلمين على أنَّهم براغماتيُّون، لديهم استعدادات كاملة لتغيير مواقفهم حسب المصلحة، وأنَّهم يستخدمون الدين أو “المقدس” لكسب الأتباع والتأييد، ويطوِّعون الجانب الدينيّ لمصالحهم السياسيَّة فيصبحون بذلك أكثر إخافة لأصحاب القرار الغربييّن من أولئك السلفييّن أو الإسلامييّن الذين لا يخفون تطرّفهم وتشبثهم بتراثهم. فأولئك يكون التعامل أسهل وأوضح لصراحتهم الساذجة، وتفسيراتهم السكونيَّة للإسلام، وهي مما لا يعطيهم الاستعداد أو القدرة على المناورة حتى لو أرادوها.

       أمَّا المسلمون المعتدلون فهم أولئك الذين قبلوا أهم القيم الغربيَّة أو كثيرًا منها في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والحياة العملية ونحوها مما لا يرون تعارضًا صارخًا مع دينهم، فجعلهم أقدر على فهم العقل الغربيّ، ومعرفة سبل تفكيره والتعامل معه وفقا لمناهجه، وهي قدرة غير مرغوب تمكّن غير الغربيّ منها، فهي معرفة عالية المستوى، والمعرفة قوة وقدرة لا ينبغي أن تتاح لغير الغربيّ المؤهل بطبيعته للاستفادة بهذه الطريقة المعرفيَّة.

     أمَّا المتطرفون المسلمون” –عندهم- فهم أؤلئك الأوفياء لتراثهم لأنَّه تراث الآباء، ولثقتهم بأنَّه ليس في الإمكان أبدع مما كان. وهم الذين ينظرون إلى التاريخ نظرة سكونيَّة ويعتبرون كل تغيُّر يحدث في الحياة إنَّما هو تغير كميٌّ لا نوعيٌ. ولذلك فإنَّ هؤلاء يرون أنَّ بالإمكان إعادة بناء التاريخ وإعادة العصور الإسلاميَّة الزاهرة بما فيها عصر الصحابة بالالتزام بذات المسالك والمنهاج والآليَّات التي استعملت في صدر الإسلام، وذلك يحعلهم –في نظر الغربيّ- خارج الزمن، ويمكن عزلهم ومحاصرتهم في أي وقت.

     إنَّ العالم –كلَّه- يعلم أنَّ أمريكا تقاد اليوم بإدارة محافظة هي إدارة “الجودوكريشتن”

“المسيهوديون” التي تجعل منطلقات صنَّاع القرار منطلقات ليست علمانيّة محضة، بل هي منطلقات دينيَّة. ولو كانت علمانيَّة في مظهرها، ولكن الذي يحدد مواقفهم من جميع الأديان وفي مقدمتها الإسلام ومن جميع المذاهب والقوميّات هو الدين، لا العلمانيّة، أو هو الدين من تحت غطاء “العلمانيَّة” والواقع يؤكد أنَّ المسلمين قد حظوا بالنصيب الأكبر من نقمة هؤلاء ورفضهم كما هو ظاهر ومعلن ومشاهد وملموس.

     صحيح أنَّهم حاربوا في بلدان نصرانيَّة وحاربوا نصارى لدفع عدوانهم على المسلمين في صربيا وكرواتيا وألبانيا، ولكنّهم حاربوا مسلمين كذلك أحيانا لصالح مسلمين آخرين مثل محاربة العراق لإخراجها من الكويت، وأحيانًا لتحقيق أهداف أخرى تتعلق باستراتيجيّتها ومصالحها.

     إنّ الإجابة تجاهلت أنّ هناك أمورًا أساسية لا يستطيع المسلم أن يحتفظ بنسبته إلى الإسلام إذا أنكرها أو تجاهلها مثل الأركان الخمسة: الصلاة والزكاة والصيام والحج والشهادتين وكذلك الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالتالي فالقول بأنَّ هناك مسلمًا معتدلا لا يؤمن بالجهاد باعتباره ركنًا من أركان الإسلام هو قول خاطيء. لكن المعتدل ينظر إلى الجهاد بمفهومه العام الشامل الهادف إلى تزكية النفس والأسرة والمجتمع والأسرة الإنسانيَّة الممتدة والبئة، بل والأرض كلّها. في حين ينظر الآخر إلى الجهاد على أنَّه جهاد السيف في الأساس أو الغالب ويقسمه إلى جهاد الطلب وجهاد دفع فقط.

     أمّا موضوع الساميَّة واللاسامية، فالعرب ساميُّون يشتركون مع بني إسرائيل في الانتساب إلى الشعوب السامية، واللغتان العربيّة والعبريَّة شقيقتان ولا شك. فمن الجهل الفاضح أنْ يُنْسب أيّ عربيّ أو مسلم لا يرى الحق لإسرائيل بالهيمنة على الأراضي الفلسطينيَّة –كلَّها- ومنع الذين سكنوها قبل بعثة موسى –عليه السلام- واستمروا فيها بعده من العودة إليها أو العيش بسلام فيها. فاتّهام أيّ مسلم بمعاداة الساميَّة لمجرد ذلك هو اتهام باطل نابع من جهل القائلين أوة تجاهلهم بأن العرب ساميَّون مثلهم مثل أبناء عمومتهم بنو إسرائيل.

     أمَّا موضوع ليبيا ومحاولة اغتيال الأمير عبد الله (المالك حاليًا) فقد كان الأولى أن تحال جميع الوثائق المتعلقة بهذه المحاولة إلى المملكة السعودية نفسها إذ أن المستهدف في هذه المؤامرة إنَّما هو القيادة السعوديّ والنظام السعوديّ، وبالتالي فإنّهم سيكونون أكثر حرصًا على تتبُّع هذه الخيوط، والكشف عنها، وإيقاع العقوبات اللازمة بأطرافها، ولو حدث هذا لربما اعتبره السعوديّون موقفًا أمريكيًا يحمل معنى “رد الجميل” للسعودية الذي تستحقه السعودية بحكم علاقتها وصداقتها التقليديَّة لأمريكا؛ فالسعوديَّة قد كانت وفيَّة للولايات المتحدة وبرهنت على ذلك سواء بتبادل المعلومات أو بتسليم المطلوبين، أو بالتخلي عن بعض أبنائها في غوانتينامو لمجرد القيام بشيء من الأشياء غير المرغوبة أمريكيًا وسعوديًا.وإذا كان هناك طرف مسلم، أو من المنتسبين إلى المجتمع المسلم في أمريكا فليقل المحققون السعوديّون ذلك ولا داعي للتبّرع الأمريكيّ به، عل أن الملك عبد الله قد عفا عن النتهمين بتلك المحاولة.

     أمّا الحرية الدينيَّة التي امتن الأستاذ المجيب على المجتمع المسلم بها فهي في أمريكا حق ضمنه دستور هذه البلاد المبنّي على (قيم الفاذر والفاوندرز) وإيمانهم بضرورة قيام هذه البلاد على العلّمانية ولذلك كان تعريف “المواطن الصالح” في دستور أمريكا: أنّه من يطيع القانون ويدفع ضرائبه ويخلص لبلده، والمسلمون الذين هوجمت مؤسساتهم هم مواطنون أمريكان لا يختلفون عن أيّ مواطن أمريكيّ آخر إلا بتاريخ القدوم إلى هذه البلاد، والاستقرار فيها، والحذور التي كانوا ينتمون إليها.فما حصل ضدهم ولا يزال يحدث إنّما هو عمل يقع تحت طائلة مخالفة المباديء الأمريكيَّة، والدستور الأمريكيّ والحريات الدينيَّة، وليس لأيّ إدارة أمريكيَّةأن تمن على المسلمين بهذه الحقوق التي هي حقوق دستوريّة ضمنها الدستور المريكيّ لكل المواطنين بقطع النظر عن أديانهم أو عروقهم أو ألوانهم أو مذاهبهم وإذا تساهل الأمريكان في هذا فإنَّه قد يتكرر ضد الفصائل المكونة لهذا الشعب الذي تستمد حضارته قوتها وتفردها من هذا التنوع الإيجابيّ.

     من المعروف أن أخطر المشاكل والتحديات التي تواجهها أمريكا اليوم هي في المنطقة التي يطلق عليها العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا خاصة المنطقة العربية منها الممتدة ما بين الخليج العربي الفارسي والمحيط الأطلسي. وإذا بحثنا في مدى جدية الرغبة في بناء علاقات أفضل مع هذا العالم الإسلاميالممتد فإننا لا نجد سفيرًا واحدًا من المسلمين الأمريكان أو مساعدًا لوزير الخارجية الأمريكيَّة من المسلمين وكان من الممكن توجيه مثل هذه المناصب لبعض الأكفاء المسلمين لعل ذلك يساعد في معالجة بعض هذه المشكلات العالقة مع بلدان المسلمين بحيث يتمكن هؤلاء من إعطاء وجه أفضل لأمريكا في العالم الإسلامي من وجود أعداد كبيرة من المثقفين المسلمين العلمانيين وغيرهم ممن يمثلّون جميع القوميات والأعراف والطوائف التي تنتمي إلى المحيط الاجتماعيّ الإسلامي وكثير منهم قد ولد في أمريكا ونشأ فيها، فكيف يغفل صنَّاع القرار عن أمر يسير مثل هذا إذا كانوا جادِّين؟.. وهذا لا يخلو إما أن يكون لدى صنَّاع القرار قناعه بعدم وجود أكفاء من المسلمين الموالين لبلادهم أمريكا لشغل هذه المناصب؟ وهذا غير صحيح ؟ وإما أن يكون النظر إليهم على أنَّهم لا يتمتعون بالولاء التام لأمريكا. وهذا غير صحيح أيضا. وإمَّا أن يكون هناك نوع من عدم الجديَّة في الرغبة بالاستفادة منهم، و الإحساس بنوع من التفرقة والتمييز ضدهم؟؟ أو الرغبة في تجنيد من يمكن منهم بمستوى المرتزقة، لا بمستوى المواطنين الأكفاء ؟!

 

جواب السؤال الثاني

     يتلخص تعليقي على ما ذكر عن “النموذج الإسلامي التركي” وإمكان تعميمه على العالم الإسلامي كلّه؛ بأنَّ تركيا لها وضع خاص. فهي منذ أن ألغيت “الخلافة الإسلامية” في مارس 1924م حتى هذا اليوم تتأرجح بين علمانيَّة كماليَّة متصلبة لا تخفي عداءها للدين وبين إسلام نزل تحت الأرض ليحمي نفسه ويحافظ على شيء من بقايا الهُويّة الإسلاميَّة.

     الأتراك العلمانيون مثلهم مثل كثير من حكام المسلمين الذين سوغوا لأنفسهم مبدأ التنصل من حقيقة الإسلام والانتساب إليه؛ فهم ﴿ ..يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ… (الأنعام:26) فالأتراك الكماليون يرون أنَّ الإسلام قد حملَّهم لعدة قرون مسؤوليَّة الدفاع عن الشعوب العثمانيَّة التي لم يربطها بآل عثمان إلا الإسلام، ولذلك أرادوا أن يعملوا فصلًا تامًا وشاملًا يعيدون بمقتضاه تركيا إلى جذورها الوثنية السابقة للإسلام أو إلى الانتماء إلى أوربا الحديثة المتقدمة. وغير العلمانيين في تركيا كانوا ولا يزالون يرون أن الإسلام كان Asset  وإضافة وهو الذي أعطى الأتراك مجدًا الأتراك مجدًا ويسر لهم عملية الوصول إلى أن يكونوا في وقت ما Super Power ومكنهم من التحول إلى إمبراطورية مترامية الأطراف وصلت إلى قلب أوربا وامتدت في آسيا وأفريقيا ولولا اختراع البارود والسفن المتطورة واكتشاف رأس الرجاء الصالح من قبل الأوربيين، وتكالب القوى الأوربيَّة والحليفة عليها لما فقدت ذلك المجد. وأن الإسلام –وحده- هو الذي يمكن أن يتيح لتركيا أن تتبوأ موقع القيادة من جديد في العالم الإسلامي وأن تسترد هيبتها وعنفوانها. ومنطقهم في ذلك قوي جدًا، فبدلًا من أن تستجدي تركيا أوروبا لتضمَّها إلى “المجموعة الأوروبية” فإنَّها تستطيع أن تكون سيدًا في المحيط الإسلامي فمحور التفكير –إذن – لدى الفريقين هو مجد تركيا والأتراك، وما يمكن أن يعود عليهم من انتمائهم. فهل يكونون مجرد ترس يدور في العجلة الأوروبية شأنه شأن دول انضمت إلى المجموعة الأوروبية ولم تكن إلا مستعمرات عثمانية في فترة سابقة لمجرد تحسين اقتصادها، والتنصل من أيّة مسئولية أو التزام تجاه المسلمين؟ أو أن تسترد هُوِيَّتها الإسلاميَّة وتستثمر ما بقي في عقول ونفوس المسلمين من تقدير واحترام للخلافة الجامعة، ووحدة الأمة الإسلامية وتتسلم موقع القيادة في إطار هذا الفراغ الذي يلف العالم الإسلامي كله؟ هذه النقطة الخفية هي التي جعلت الأتراك الكماليين العلمانيين مؤخرًا مع الأتراك الإسلامييّن يتقبلون مبدأ التوافق المشترك.

     حول نقطة مجد تركيا وكيفيّة استعادته. وهذا المجد يشمل الاقتصاد والقيادة السياسية وفلسفة التعليم وما إليها. إن الذاكرة التركية مهما حدث لها وحتى لو أصيبت بمرض “الألزايمر” فلن تستطيع التخلص من ضغط الذكريات الإسلامية والمجد العثماني وتاريخ استانبول عاصمة الخلافة، ومهما نسي التركي فلن ينس أيا صوفيًا ومساجد سلاطين آل عثمان وما إلى ذلك. فالناظر في الوضع التركي لا بد له من الإلمام بالخلفية التاريخية، وما حدث خاصة في القرنين الأخيرين من حياة الدولة العثمانية. وبالتالي فإن النموذج السياسي التركي الإسلامي المعاصر من الصعب تعميمه على بلدان مسلمة أخرى لا تحمل مثل ذلك التاريخ الواسع العريق.

     كما أن النموذج الإيراني الشاهنشاهي او ما بعد الخميني يتعذر تعميمه كذلك على بقية البلدان الإسلامية. فالباحث المدقق في حاجة إلى النظر الدقيق في كل هذه الأمور قبل أن يقدم للعالم الإسلامي نموذجًا قد لا يكون صالحًا للتعميم.

 

تعليقًا على السؤال الثالث:

     الأول منه في موضوع سن عائشة لم يثبت تاريخيًا أنًها كانت في التاسعة من عمرها حين تزوج بها عليه الصلاة والسلام. فهناك من يؤكد أنها لم تكن أقل من الثامنة عشرة ومع ذلك فإن في قصة عائشة كلها: زواجها وفقهها وإلمامها بشعر العرب ولغاتهم كل ذلك في حاجة إلى دراسة وتحقيق فهي من الشخصيات الإسلامية التي اختلفت فيها أقوال المؤرخين اختلافًا كبيرًا، والنقاش حول سنها ومواقفها السياسية واستدراكاتها على الصحابة كان وتسعًا. في عصر الصحابة كان واسعًا. في عصر الصحابة فما بالك بعدهم؟.

     وهي نموذج متميز لبيان مكانة المرأة في الإسلام، والمجتمع الإسلامي لا يقلل من أهميَّة هذا النموذج كونها تزوجت صغيرة بمن يكبرها وإذا عد زواج الصغيرات اعتداءًا على المرأة وكرامتها فما الذي فعله الغرب في تعريض الصغيرات للزمن الحمل المبكر والإجهاض، وغير ذلك، فمن لم يفعل ما ينبغي في ذلك وغيره من الاعتداءات الصارخة على المرأة وكرامتها؟! فلا ينبغي له التمسك بزواج كريم جعل من عائشة أمًا لأمَّة ورفع مكانتها إلى أعلى مرتبة جاوزت مراتب سائر الصحابة باعتبارها أمّا لأمة ورفع مكانتها إلى أعلى مرتبة جاوزت مراتب سائر الصحابة باعتبارها أما لجميع المؤمنين وتحولت بفقهها وصحبتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مرجعية دينية ترجع إليه الأمَّة في قضايا دستورية وتشريعيَّة تعطيها مرتبة تتجاوز مرتبة محكمة عليا كاملة.

ثانيا: بأيّ معنى يؤمن علماء الشيعة باجتهاد لا يؤمن به الآخرون. كل ما هنالكأن علماء الشيعة قد رفضوا تقليد الأموات من الأئمة وطالبوا اتباعهم بأن يقلدوا الأئمة الأحياء لا الأموات. وفي الممارسات المعاصرة نجد كلا الطرفين السنة والشيعة قد مارسوا كثيرًا من العمليات الاجتهادية فمحمد عبده ورشيد رضا وكل من جاء بعدهم من مدرستهم مثل المراغي وشلتوت وكبار علماء الأزهر وأبو زهرة وغيرهم، كل هؤلاء لم يخل سجل أحد منهم من اجتهادات هادفة في المسائل المعاصرة. ولعل ما يؤيد هذه فتاوى المجامع الفقهية السنيّة العديدة وبعض العلماء الأفراد، وكيف ساغها لأستاذ جامعيّ أن ينصح الإدارة الأمريكيَّة بضرورة الاعتماد على هذه الطائفة من المسلمين، وتجاوز طوائف أخرى لمجرد موقف هذه الطوائف من قضيَّة “الاجتهاد والتقليد” وهل يظن هؤلاء أن من يستسلم لهم –حتى لو كان مجتهدًا- يعد في العقلاء فضلا عن المجتهدين؟

     إنّ كثيرًا من علماء السنَّة والشيعة كانت لهم فتاوى في قضايا البنوك والعقود الحادثة وإعادة تعريف الربا واستثناء الرهن على السيارة والبيت السكني وغيرها كل تلك اجتهادات شارك فيها علماء السنة وعلماء الشيعة وسائر المذاهب الأخرى مثل الإباضية والزيديَّة. فإذا أريد الاجتهاد بهذا المعنى، فالاجتهاد لم يتوقف واقعيًا وعمليًا حتى عند من نسب إليهم أنَّهم دعوا إلى غلق بابه، وهذه مسألة أخرى من المسائل التي تحتاج إلى بحث وتمحيص ودراسات واقعية تتجاوز عمليَّة ترديد ما قاله بعض الكاتبين في “تاريخ التشريع”.

ثالثًا: طريق الحداثة هو طريق العلمانية وفصل الدين عن الدولة وسائر نظم الحياة. أمَّا تأويل النص الدينيّ أو عدمه فهو منحصر في البلدان والدوائر التي لم تأخذ التوجه العلماني بشمليَّته وعمومه، فقد تلجأ إلى تأويل النص، أو إعادة قرائته.

 

رابعا: قضايا المرأة

جل التصورات المطروحة حول قضايا المرأة وحقوقها تصورات تنطلق من واقع المنتمين إلى الإسلام، لا من النص القرآني ولا من السمة النبوية ولا من فقه الفقهاء المتقدمين. بل هي ناجمة عن أمور راجعة إلى تلك المرحلة التي شهدت خلطًا بين الدين والثقافة والأعراف والتقاليد وأوجدت نوعًا من التداخل غير الدقيق بين هذه الأمور كلها.فبرزت تلك الظواهر السلبية التي انتقدها الأستاذ وهي ظواهر لا تستند إلى قرآن أو سنة في المجتمعات الإسلامية كالتعامل مع المرأة بذلك الشكل الذي ترفضه أحكام الإسلام ومبادئه قيل أي شيء آخر.

     فيما يتعلق بالقرآن: نتحفظ على استعمال كلمة “كتب القرآن” فما من مسلم يستحق أن يوصف بأنّه مسلم إلا وهو يؤمن بأنَّ القرآن منزل وموحي من الله إلى رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بطريقة من طرق الوحي الثلاثة التي ذكرها الله (تعالى) في قوله (تعالى): ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى:51)، فنتحفظ على كلمة “كتب محمد” إذا أريد بها ألف أو أعد. وكذلك فإن السنة جمعت في 99ه ، وبدأت عمليات تدوينها حتى بلغت ما بلغته في القرنين اللاحقين .

     كما أن المسلمين يؤمنون بأن القرآن العظيم كتاب مطلق، والمطلق لا يتأثر نصه باختلاف الزمن. وإذا تأثر تفسيره، أو اختلف المفسرون باختلاف أزمنتهم، ومكونات ثقافتهم فذلك لا ينال من إطلاقية وموضوع دلالات النص وكيفية فهمه وإداركه وغير ذلك مما يتعلق بــ “التطور الدلالي” لمعانيه فكل ما ذكر أمور أعدت فيها علوم ومعارف أدرجت في أصول الفقه وغيره يعرفها المتخصصون في هذا العلم؛ ولذلك فإن إطلاق هذا الكلام في هذا الشكل أمر لا نقره ولا يدل على وعي الباحث بهذه الأمور المهمة إو إطلاعه عليها، فكيف يسوّغ لنفسه إصدار مثل تلك الأحكام.

      أمّا الاستدلال بالانقسامات الدينية على وجود اتجاهات العنف في أصول الثقافة الإسلامية فهو استدلال عجيب. فلِمَ يعتبر الأستاذ تلك الانقسامات مثل انقسامات اليهودية التي انقسمت في داخلها إلى “أرثوذكس ورفورم” وبينهما من الاختلافات والنزاعات في معظم الشئون الدينية أكثر مما بين الشيعة والسنّة في المحيط الإسلامي وما يتقبله الإصلاحيون اليهود منهم أكثر ممَّا يتقبله الأرثوذكس والعكس صحيح.

      وكذلك الحال بالنسبة للنصرانية فالفروق كبيرة جدًا بين البروتستانت والكاثوليك وغيرها من الكنائس الفرعية أو الملحقة علمًا بأن كلا من البروتستانت والكاثوليك لم تخل من تيارات داخلية مختلفة كذلك، لكن الأديان بطبيعتها فيها استعداد للتداخل لا ينكر ولا يكابر فيه، وخاصة الإسلام.

     فالإسلام بطبيعته يؤمن بجميع الأنبياء والمرسلين منذ نوح وحتى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يستثنى أحدًا منهم ولا يفرق بينهم. ويؤمن بالكتب السماوية كلها: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن. وفي حين أن الديانتين التي يقترح على الإسلام أن يستفيد من “مرونة كل منهما ليتجاوز جموده”!! ليس في أي منهما هذا الاتساع وهذه المرونة والانفتاح. وإذا أريد بالاقتباس من الديانتين اقتباس الآثار العلمانية التي برزت في كل منهما؛ لرضوخهما الاضطراري إلى الهيمنة العلمانية على كل منهما فالأولى أن يذهب المسلمون إلى الصل العلمانيّ بدلا من أن يذهبوا إليه بالواسطة.

     ورجال الدين الذين ذكرهم الكاتب كل منهم يمثل حالة خاصة ليست مطابقة تمامًا للحالة الثانية “فابن رشد غير ابن ميمون وغير بن هولد” وسواهم؛ ولذلك فإن في علماء الأديان المعاصرين أناسًا لا يقلون مرونة وانفتاحًا عن هؤلاء بالنسبة لعصورهم. لكن عالم اليوم يفتقر إلى الحوارات الدينية الجادة والحوارات الثقافية وحوارات الحضارات. فهذا ما نفتقر إليه في عصرنا هذا لبناء أرضية الفهم والتفهم المشتركة وتحديد مناطق الخصوصيَّات. على أنَّ اتِّهام القرآن الكريم والسنة النبوية بتضمنها لنصوص تتقاطع والديموقراطية وحقوق المرأة والحريات العامة كلام غير دقيق، ولا يستند إلى أي استقراء علمي ولا إلى معرفة دقيقة أو غير دقيقة بعلوم القرآن وعلوم السنة، وما من كتاب سماوي وفي مقدمتها التوراة والإنجيل إلا وقد اشتمل على مقاطع لو أخذت بحرفيتها منقطعة عن أسباب ورودها وسائر الظروف المحيطة بذلك لعدت نصوصًا بالغة التطرف، مليئة باتجاهات الكراهية والصراع والعنف بين البشر مثل ما ورد في التوراة وبعدها ما ورد في الإنجيل ففي التوراة …..

     وأمَّا تصنيف البشر بحسب مواقفهم الإيمانية فهو تصنيف لم يخل منه دين من الأديان، فإذا كان لابد من مراجعة النصوص الدينية المشتملة على اتجاهات الكراهية فيجب أن تكون مراجعة شاملة لسائر الأديان وسائر الكتب ولا يختص بذلك المسلمون وحدهم ولا مصادرهم الدينية.

      وأمَّا فكرة “المقدس” وآثارها فالصحيح أن هيمنة الاتجاهات العلمانية على الغرب قد ألغت فكر “المقدس” وجعلت “المقدس” مثل سواه خاضعًا للمباديء العلمانية، وحولت الدين بمفهومه الشامل من رائد وقائد للإنسان إلى موظف عنده يؤدي أدورًا يحددها الإنسان نفسه فيشغله حين يشاء ويوقفه حين يريد والتطور الذي حدث في اليهودية وفي النصرانية في القرن 18 وما تلاه لم يكن تطورًا دينيًا يتحكم الدين في خطواته بل كان إخضاعًا للدين للمباديء العلمانية، وتهيئة الدين مثل الفن والأدب والموسيقى وسواها لأداء خدمات معينة للإنسان العلماني المعاصر؛ ولذلك أفقدت قدسيتها ومرجعيتها. فمثلًا: إنّ من المسلمات في جميع الأديان السماوية رفض اللواط وتحريمه، واعتباره انحرافًا أخلاقيًا وكذلك السحاق، والموقف الديني من السحاقيات واعتبار اللواط والسحاق ذنوبًا كبيرة وكذلك منع الزنا بحد التوراة صريحة كل الصراحة في وجوب “رجم الزاني والزانية”. لكن ذلك –كله- قد توقف. فدولة إسرائيل لم تقع فيها حادثة واحدة “لرجم الزناة” منذ تأسيسها والمجتهدون من أحبار اليهود والقادة الدينيين رضوا بذلك، ولم يعترضوا على شيء منه في الغرب، ولم تلتزم دولة إسرائيل بشيء من ذلك بل جوزوا “للهوموسكشولز والليسبيينز” أن يمارس عباداتهم –وحدهم- وفي أماكن مخصصة لهم Synagogue  ويقود صلواتهم وعباداتهم أناس منهم. فالإصلاحيون اليهود يعتبرون هذا اجتهادًا، والاجتهاد لا يمكن أن يكون في مواجهة النص الديني عند جميع الأديان والذين تساهلوا في شيء من هذا جعلواها من صلاحيات مجامع دينية كبرى، لا من صلاحيات الأفراد. ففي حين تنص التوراة على شيء فليس لأحد أن يبطله أو ينسخه خاصة وأن الشريعة اليهودية لا تؤمن بالنسخ، ولا تقبله حتى السيد المسيح نفى أن تكون لديه صلاحية تغيير أي شيء من التوراة. فإذن لم يكن الأمر أمر تطور واجتهاد ديني بل أمر هيمنة للمباديء العلمانية أدت إلى نزع القداسة عن النص الديني وتعريضه للتحريف وسمحت بإدخال التغيرات والتعديلات عليه. ثم جعلته موظفًا بدرجة معينة لدى النظام العلماني يطلق له الحريَّة عندما يريد ويحجبها عندما يشاء. ولكن في كل الأحوال لا يسمح للدين أن يؤثر في النظام العام للحياة الذي أفرزته العلمانية فالحرية الدينية في الغرب منحة العلمانية، ولم تنشأ عن مرونة طبيعية في اليهودية أو النصرانية، ليقال: على الإسلام أن يطور نفسه ليلحق باليهودية والنصرانية المطورتين، فالإسلام قد حفظ للإنسان “حرية الاعتقاد” بأكثر مما فعل أي دين سماويّ، أو نظام وضعيّ، ولا ينكر هذه الحقيقة إلاَّ من يجهل الإسلام.  

 

أمَّا تعليقي على إجاباتهم عن السؤال الرابع:

     فأقول: إنّ العولمة المعاصرة أثبتت أنه لم يعد في مقدور أية أيديولوجية أن تهيمن على العالم كله باعتبارها أيديولوجية كاملة. كما أن القرنين الأخيرين قد أثبتا أن من المتعذر على المسيحية أن تحقق نصرًا ساحقًا على الأديان الأخرى خاصة الإسلام واليهودية. كما أن الفترة –نفسها – اثبتت أن المسلمين لا يمكن أن يهزموا النصرانية واليهودية هزيمة شاملة ساحقة. وأن البشرية –اليوم- قد أدركت بشكل أو بىخر هذه الحقيقة؛ ولذلك فإن من يتتبعون الظواهر المعاصرة لا يجدون بدًا من أن يؤمنوا بأن البشرية في حاجة إلى إعادة النظر في سائر الخصوصيات، ومنها الخصوصيات الأيديولوجية المستندة إلى أديان وتفسيرات وكيفيات فهم أتباع تلك الأديان لها. وبالتالي فإن الحل الوحيد أمام البشرية أن ترجع إلى القيم المشتركة المجردة المطلقة التي جاءت بها الرسل ولا يختلف البشر عليها وإن سلكوا طرقًا مختلفة لإثباتها وتفسيرها. فالوعي بهذه القيم المشتركة وتوافق الأمم حولها هي الضمانة الحقيقية الوحيدة لإعادة بناء علاقات صحية بين الأسرة البشرية الممتدة التي تنزلت من أب واحد وأم واحدة والتي جعلت لها الأرض –كلها- منزل وبيتًا يجب أن يكون آمنًا من وسائل الدمار والصراع والتخريب. وهذه القيم المشتركة مثل قيم “الحق والخير والجمال، ووحدة البشريةن ووحدة الأرض، وغائية الخلق، والمساواة بين البشر، وضرورية الحرية لإنسانية الإنسان، وضرورية العدل لتنظيم حياتهم. وضرورة التزكية والعمران لهم. وضروة أن لا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله واستعلاء بعضهم على بعض.

     هذه القيم المشتركة يمكن إذا جرى استقراؤها وبناء الوعي الإنساني بها وتبنيها ووضعها على مستويات مختلفة ومراتب متنوعة وعرضت على البشرية فسوف تتبناها وآنذاك فإن أصحاب كل أيديولوجية مطالبون بأن يجعلوا منها عامل دعم وإسناد وإقناع بهذه القيم، وبالتالي فإن ذلك سوف يوفر فرص التفاهم والتعاون بين البشر وسوف يجعل الفكر الديني مساويًا لما بلغته البشرية من تقدم باتجاه العالمية بدلًا من أن يكون متخلفًا عنها؛ ولذلك فإن المصلحين والفلاسفة والمفكرين مدعوون إلى النظر في هذه القيم المشتركة وتسليط الأضواء عليها، وبناء الوعي بها وتجنب معارضتها، أو التقليل من أهميتها، أو تجاهلها بفرض أيديولوجيات أخرى –قائمة على الخصوصيات- وهذه القيم هي الأقدر على وضع البشرية على صعيد واحد من سائر البيانات والإعلانات الجوفاء، أو المنظومات الاقتصادية والاتصالية المتغيرة، بل سوف تجعل من تلك المنظومات وسائل فعالة في بناء الأرضية المشتركة المطلوبة بين البشر.

 

أمَّ تعقيبي على إجابات الأساتذة على السؤال الخامس:

     فأود ان أقول: أن الوجود الإسلامي في الغرب وجود طبيعي لا ينبغي أن ينظر إليه من زوايا الخطر أو عدم الخطر. فتلك زوايا ضيقة جدًا تجعل الباحث يخطيء في الجواب ولو أصاب. فالوجود الإسلامي في الغرب دعت إليه عوامل عديدة لعل من أهمها: أن طبيعة هذه الحضارة السائدة في العالم –كله اليوم- وما أنتجته الثورات الإنسانية المتعاقبة، وما أوصلت إليه من تقدم هائل في بناء سبل المواصلات والاتصالات، هذه –كلها- جعلت من ظاهرة الانتقال أو Transfer ظاهرة ملازمة للإنسان المعاصر؛ لأنها أعلت قيمة التنمية والرخاء المادي على قيمة الارتباط بالأرض والوطن التي كانت سائدة في المجتمعات الزراعية بل كانت تعد من اعلى القيم بحيث كان الإنسان –في ظل تلك القيم- يفضل أن يغادر حياته على ان يغادر أرضه، او منزله.

     كما أن هناك عاملًا مهمًا لابد من ملاحظته، وهو دخول المدنية الغربية الحديثة إلى العالم الإسلامي وغيره وتحويل معظم هذه البلدان المسلمة من بلدان زراعية محضة إلى بلدان نصف صناعية من حيث كونها تكت مستوى التنمية، وفقدانها لكثير من وسائل الحياة المعاصرة. وحين فشلت خطط التنمية ومشاريع التحديث في العالم الإسلامي بعد أن تكونت نخبة مرتبطة بقيم الحداثة جعل ذلك من الطبيعي أن تتجه الأنظار هؤلاء نحو الغرب باعتباره النموذج والمثال الذي يستطيع من تأثر بالحداثة أن يعيش فيه دون إحساس بالتناقض الحاد بين واقعه وبين المثال.

      يضاف إلى ذلك بروز الديكتاتوريات الحديثة وخاصة العسكرية منها، وتدمير قواعد المجتمعات الزراعية ووسائل الإنتاج والاستهلاك فيها إضافة إلى فشل خطط التصنيع والتنمية وأسباب جانبية أخرى هذا كله يجعلنا ندرك أن هؤلاء المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا لم ياتوا باعتبارهم دعاة للإسلام ولم يكن في حسبان 99.9% منهم أن يمارسوا عمل الدعوة إلى الإسلام إلا مجموعات يسيرة أرسلتها بعض المؤسسات الإسلامية لمساعدة بعض الجاليات في مساجدها. وهي أعداد لا يمكن أن تقارن بأفواج المنصرين الذين يحتاجون العالم الإسلامي كله، لكن العوامل التي ذكرناها وطبيعة المجتمعات الغربية وسائر المؤثرات الأخرى بما فيها الصناعية والرأسمالية وكذلك الديمقراطية والأنظمة الحزبية في الغرب كانت تدفع هؤلاء القادمين إلى البحث على الانتماء والبحث عن الهُوِية. وفي أمريكا بالذات ليس هناك أمريكي واحد: رجل أو امرأة شيخ أو شاب لا يشعر بضرورة الانتماء ولو إلى ناد رياضي. والسائر في أي شارع من الشوارع الأمريكية إذا لاحظ ما يكتب على ملابس الشباب وغيرهم يستطيع أن يشعر بمدى الرغبة الكامنة والظاهرة في الانتماء. هنا وجدت نسبة معينة قد لا تتجاوز 5% من أعداد المهاجرين المسلمين سبيلها نحو إعادة هُوِيَّتها الإسلاميَّة وتعزيز انتمائها الإسلامي. ففي المرحلة الأولى يبدأ المهاجر المسلم المتعلم وهو يواجه هذا التحدي بتذكير نفسه وأفراد أسرته بان لهم هوية ولهم انتماء، وأن الإسلام يمثل عمودًا أساسيًا من أسس هذه الهُوِيَّة، فيتعاون هؤلاء على بناء المسجد ثم المدسة لحماية بقايا هُوِيَّتهم من الذوبان. فإذا حصلت لديهم الطمأنينة بحفظ هذه الهُوِيَّة، وإمكان الإبقاء عليها، وتوريثًا يبدأ بعض هؤلاء بالتطلع إلى تعريف جيرانهم بأنفسهم، وبيان أن المسلم لايقل شأنًا عن جيرانه في هذا المجال. وهنا يدخل هذا المسلم المتدين مرحلة من مراحل المحافظة على الذات. ثم ينتقل إلى مرحلة تنمية العلاقات مع جيرانه بقدر ما لديهم من استعداد للانفتاح عليه. وفي إطار جهوده لتنمية لعلاقات من خلال وسائل الاتصالات المختلفة قد نجد من يقبل على الإسلام وعلى الدخول فيه من النصارى الذين اهتزت قناعتهم بسبب أو بآخر بنصرانيّتهم. او بتأثير اتجاهات الاغتراب والعزلة والفرديّة في المجامعات الغربيَّة فيبحث الغربيّ عن مجتمع أصغر ينتمي إليه وهذا الدخول في الإسلام أو البوذيّة، أو الانتماء إلى السيخ له عوامل أخرى، منها رغبة الأمريكي لطبيعة ثقافته بتجربة ما يلفت نظره. والأعداد التي تعتنق الأديان الأخرى في سائر الأحوال محدودة جدًا جدًا إذا قيس بأعداد أبناء المسلمين الذين ينسلخون مو هُوِيّتهم، خاصة الأجيال الجديدة التي تحيي حياة لا تختلف عن حياة زملائهم وجيرانهم من الأمريكان أو الأوروبيَّن من جذور أخرى. كما أنَّ كثيرًا من المسلمين يتحولون بدعوة الوعاظ المؤثرين إلى المسيحيَّة، فالتهويل من فكرة سرعة انتشار الإسلام التي تبنَّاها بعض الوعاظ المسيحيين أمثال “جيمس وبات بترسن وفولر” وأمثالهم إنما هي وسائل تحريض لأتباعهم لإشعارهم بالتوتُّر والخوف، ودفعهم إلى تقديم المزيد من التبرعات، وإشعارهم بالخطر، وإيجاد أجواء تساعد على دفع الاتباع لمزيد من الالتزام الدينيّ والارتباط بالكنائس والتبرع لها ولمشاريعها الكثيرة وهي مشاريع هائلة، ولذلك فإنَّ هذه الدعوة لتصح لابد من دراسات أكاديمية دقيقة تتجاوز العواطف والمشاعر والإدعاءات التي يروج لها أمثال هؤلاء والإعلام المتبنَّي لمثل هذه التوجهات وقد يضاف إلى أسباب شعور المواطنين بالخوف من الإسلام والمسلمين ذلك العمل الدؤوب لإحياء ذاكرة الحروب الصليبية لدى الإنسان الغربيّ والتذكير بكل تراثها ومخالفاتها الأدبية التي تحول كثير منها إلى قصص وروايات وأفلام ومسرحيات تكاد تهيمن على الساحة الثقافية وهناك الآلاف من تلك الأدوات مطروحة في الأسواق الغربية بنيت على أساطير ألف ليلة وليلة وأدبيات الحروب الصليبية وحروب الاستعمارالتي تبين أبشع ما في الإسلام والمسلمين وتحرض عليهم، وتستخدم وجودهم في قلب الغرب وسيلة لإعاد التوتر إلى المجتناعات الغربية التي ظهرت فيها ظواهر الاسترخاء التي يخشى كثير من المفكرين الغربيِّين أن يؤدي إلى التفكك.

     ومع ذلك فإن الولايات المتحدة وأروبا تستطيع توظيف الوجود الإسلامي فيها –لو شاءت- لإعادة بناء علاقات أفضل مع العالم الإسلامي إذا صدقت النوايا ووجد الإخلاص وتوقفت مختلف وسائل التحريض. والله أعلم .

     وأمَّا الإشارات إلى أن المسلمين لا يعطون –في بلادهم- مثل الحريات التي تتمتع بهاجالياتهم في الغرب، فهي من المغالطات العجيبة لأسباب عديدة منها:

1-إن ّ الوجود الإسلامي في الغرب وجود فردي حصل بمبادرات أفراد رغبوا العيش في الغرب ولكل منهم أسبابه في ذلك كما تقدم، فهو لم يكن وجودًا منظمًا نجم عن معاهدات أو اتفاقات مع كيانات إسلامية.

2- إنّ العالم الإسلامي –كله- ومنذ ثلاثة قرون تقريبا لم يفتح الأبواب أمام الإرساليَّات الغربيَّة بكل أنواعها فقطن بل خلع الأبواب تمامًا. وإشارة الأستاذ يقصد بها حالة واحدة هي حالة المملكة العربية السعودية. حيث ل م تسمح السعوجيَّة ببناء كنائس لأسباب دينيَّة. ولو أنصف الأستاذ لعلم أن السعوديَّة لها خصوصيَّات يقوم كيانها عليها، فهي البلد الذي يضم قلب “جزيرة العرب” قاعدة الإسلام ومنطلقه ويضم أيضًا أهم المقدسات والحرم الآمن. وملكه يحمل لقب “خادم الحرمين” وهو لقب ديني، فهي للمسلمين بمثابة “الفاتيكان” بالنسبة للنصارى، فهل من المناسب أن يذهب أحد إلى داخل الفاتيكان ليبني مسجدا، أو ليبشر بدين غير الكاثوليكية، أو ليهاجم الكاثوليكيَّة ومقدساتها؟

          إن سائر بلدان المسلمين عدا المملكة تحتضن آلاف الكنائس ودور العبادة لأديان مختلفة وفيها من الأقليات غير المسلمة أعداد كبيرة عاشت مع المسلمين قرونا دون أن يمسها أي أذى، بل يعد وجودها إلى الآن –نفسه- دليلًا على التسامح الإسلاميّ، فلِمَ هذا الإلحاح على استفزاز الأمَّة المسلمة –كلها- بالسعي للدخول إلى أماكن محرمة لديها ولها أوضاع دينيَّة خاصَّة سارت عليها عبر أربعة عشر قرنًا، ولا يستطيع مسلم قبول تغيير في أحكام هذه الأماكن. ولو أنّ حكومة المملكة أبدت أي تساهل في هذه الأحكام أو يتساهل فيها؟!!          

            

     

     

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *