Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الحكم الفقهي للتصوير

 

أ.د. طه جابر العلواني

إن موضوع “الحكم الفقهي” في التصوير إذا روجع وفقاً للقواعد التي جعلناها منطلقاً “لعلم المراجعات” سوف نجده في حاجة ماسّة إلى المراجعة؛ فإنّنا نستطيع أن نؤكد ابتداءً أن “علم المراجعات” لا يعتمد على الفتاوى التي يفتي بها العلماء، ولا ينحاز لأي منها. بل إن أهم ما نوجه عنايتنا إليه هو مراجعة المنهج الذي اتبع للوصول إلى الحكم، وما إذا تضمن المنهج قواعد “علم المراجعات”، أو أنها لم تكن مأخوذة بنظر الاعتبار. وحين يقوم “علم المراجعات” بذلك فإنّه يقوم “بعملية نقد” لمختلف المذاهب في المسألة مع ملاحظة أنَّه حين ينتهي بنا البحث – وفقاً لقواعد “علم المراجعات” – إلى الاتفاق مع مذهب من المذاهب؛ فلا ينبغي أن يفهم من ذلك أن ما قمنا به لا يتجاوز تبنيِّ مذهب من المذاهب فتبنيِّ المذهب شيء والمراجعة الناقدة شيء آخر. إنَّ كثيرين أفتوا في هذا الموضوع موافقين ومعارضين، ونحن نعلم أن الشيخ بخيت المطيعى – يرحمه الله – مفتي الديار المصرية الراحل قال بيتيه المشهورين :

حبست لكم ظلي بهذا لأنَّني               يعزُّ علي قلبي فراق أحبَّتي

فإن أك في الأحيا فجسمي بحبكم          وإن أك في الموتى ففي الحيّ صورتي

وقال غيره بأقوال أخرى. وما زال الحكم خلافيّاً لم يجر عليه اتفاق في أي عصر، ولكننا إذا تجاوزنا ذلك إلى المنهج؛ فإنّ علينا أولاً أن ننظر في المرحلة الأولى التي استدل بها الفريقان القائلون بالجواز والقائلون بالمنع : فالذين ذهبوا إلى القول بتحريم التصوير مطلقاً استدلوا بمجموعة من الأحاديث الصحيحة التي ذمت التصوير، وقرنت ذكر التصوير بالوعيد للمصورين وهذه الأحاديث أهمُّها :

  • عن مسلم قال : كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير فرأى في صفته تماثيل فقال : سمعت عبد الله (يعني ابن مسعود) قال : سمعت النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم – يقول : إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون([1]).
  • عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنّ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – قال : إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة, يقال لهم : أحيوا ما خلقتم([2]).
  • عن أبي زرعة قال : دخلت مع أبي هريرة داراً بالمدينة فرأى أعلاها مصوِّراً يصوِّر. قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – يقول : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبَّة, وليخلقوا ذرَّة([3]).
  • عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : قدم رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه وقال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت : فجعلناه وسادة أو وسادتين([4]).
  • عن عائشة – رضي الله عنها – أنّها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – قام على الباب فلم يدخله فعرفت في وجهه الكراهية فقالت : يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله – صلى الله عليه وآله وسلّم – ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – : ما بال هذه النمرقة؟ قلت : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوَّسُدها : فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – : إنَّ أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون, فيقال لهم : أحيوا ما خلقتم. وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصورة([5]).

وتركت أحاديث أخرى صحيحة اكتفاءاً بالمتفق عليه وأما الذين ذهبوا إلى إباحة بعض أنواع التصوير فقد استدلوا بقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم – “إلاّ رقماً في ثوب”، كما رأى بعضهم في ضيع البخاري في كتابّ اللباس حين أورد باباً يفيد الكراهيَة : “باب من كره القعود على الصور (5613)” ورأي البعض أنّ ضرورات العصر قد تقتضي القول بجواز التصوير الذي تمس إليه الحاجة، وفرق بعضهم بين التصوير الفوتوغرافي والمجسّم وفرق آخرون بين تصوير ذوات الأرواح وغيرها، وبين الصور المعظمَّة والمهانة، واشتد النزاع والاختلاف بين هذه الاتجاهات جميعاً كما هو معلوم وشائع.

والواقع أن غياب “النظرة المنهجيَّة” وتغلُّب “النظر الفقهيّ” الجزئيّ في التعامل مع هذه الروايات؛ أوقع “العقل الفقهيّ” في معضلات كان غنيّاً عنها لو أنَّه قرأ القرآن والسنَّة قراءة كليَّة شاملة وتخلص من القراءة الجزئيّة.

إن من الملاحظ في الجدل في هذه القضية أنَّ هناك بعداً غائباً فيها – وهو غائب في كثير من القضايا – وهو البعد القرآنيُّ والرؤية القرآنيّة لقضيَّة التصوير والجماليّات بصفة عامة، والتي لو استحضرها الفقهاء، وجعلوها نصب أعينهم دائماً،واتخذوها منطلقاً لما بعدها لأراحوا أنفسهم من عناء وجدل طويل في التعامل مع الروايات السابقة.

فالقرآن الكريم هو الأصل والمرجع في تأصيل الأحكام والسنة تابعة له تبعيَّة الفرع للأصل، فالقرآن هو المصدر المنشئ للأحكام والسنَّة بيان له تدور في فلكه، وليس في السنة موضع مبتوت الصلة بالقرآن قال تعالى : ﴿… مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ … ﴾ (سورة الأنعام : 38). وقال تعالى : ﴿…وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ…﴾ (الأنعام:119) وقال : ﴿…وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ…﴾ (سورة النحل : 89).

وروى مالك في الموطأ أن عثمان بن عفان جلس على المقاعد فجاء المؤذن فآذنه بصلاة العصر فدعا بماء فتوضأ ثم قال : والله لأحدثنكم حديثاً لولا أنه في كتاب الله ما حدثتكموه ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها. قال يحيى : قال مالك : أراه يريد هذه الآية : “أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين”([6]).

فالقرآن هو المهيمن والمصدق على كل ما عداه فحينما نريد أن نصدق على هذه الأحاديث الواردة في موضوع التصوير بالكتاب الكريم ونسأل : هل تعرّض القرآن الكريم لقضايا التصوير؟ نجد أن التصاوير المذكورة في القرآن الكريم هي الأصنام والتماثيل والأوثان.

فالأصنام والأوثان في التعبير القرآني تعبر عن مضامين عقديَّة وثنيّة مخالفة لمقاصد التوحيد. قال (تعالى) : ﴿.. فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (سورة الأعراف : 138)، وقال (تعالى) على لسان إبراهيم -عليه السلام- : ﴿…وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ (سورة إبراهيم : 35)،وقال (تعالى) : ﴿.. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ..﴾ (سورة الحج :30).

أما التماثيل فقد كانت تكتسب أحياناً طبيعة وثنية فقد قال (تعالى) على لسان إبراهيم عليه السلام في معرض مخاطبته لقومه ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ (سورة الأنبياء :52)، واعتبرها القرآن في أحيان أخرى من النعم التي تستوجب الشكر لله – تبارك وتعالى – فقد قال تعالي : ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سورة سبأ : 13).

فالآية سيقت مساق الامتنان على سليمان – عليه السلام – وإظهار نعمة الله عليه؛ والله – تبارك وتعالى –  لا يمتن على نبي معصوم بشيء محرَّم.

معنى ذلك أنَّه ليس في القرآن موقف سلبُّي من التصوير إذ هو من جملة الجماليَّات التي امتن الله على البشر بها : ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ (سورة النحل : 6). فكيف نفهم إذاً أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – ودلالته على منع التصوير ووعيده للمصورين؟

هنا لابد من فهم مناط التحريم ولا يتأتى هذا الفهم إلا إذا قرئت السنَّة بكليتَّها لا بجزئّياتها أو مشرذمة محضاة. فالقراءة الكليَّة تعين على الخروج منها بالمنهج الذي سار عليه الرسول – صلى الله عليه وآله وسلّم – أما القراءة الجزئيَّة فإنّها لا تنتج إلا عدداً لا حصر له من الدلالات على المنع وعلى الجواز أحياناً لأن سلوك ذلك السبيل في قراءة السنن لا يسمح بالالتفات.

وهذا الفهم المنهجي إلى المنهج الذي ينظمها ما حرص رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – على تعليمه للصحابة فقد روى البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أنَّ النبي – صلى اله عليه وآله وسلّم – قال لها : “يا عائشة لولا أنّ قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم”([7]). فكلمة “حديث عهد بجاهلية” أو “بكفر” كما جاء في روايات أخرى ترسى مبدأ منهجيّاً مقاصديّاً جعل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم -يتوقف عن فعل شيء يؤمن بضرورة فعله ولكنّه كان يريد أن يحمي إيمان هؤلاء الناس الذين هم حديثو عهديه من أن ينهار.

قال البخاري بعد رواية الحديث السابق : فذلك الذي حمل ابن الزبير – رضي الله عنهما – على هدمه قال يزيد : وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل. قال جرير : فقلت له : أين موضعه؟ قال : أريكه الآن…..”.

فإذا نظرنا إلى قضية التصوير مع ملاحظة المستوى العقليّ للعرب الذي وصل إلى درجة تقديس الأحجار إن لم يجدوا تماثيل يعبدونها فكانوا ينتقون الحجر يتحنثون إليه ما شاؤوا فإذا وجدوا حجراً أحسن منه ألقوا به وأخذوا الحجر الآخر بل كانوا كما ورد في بعض الروايات التاريخية يصنعون أصناماً من التمر فإذا جاعوا أكلوها.

فعقلية كهذه لا يمكن بحال من الأحوال. أن يعتمد عليها ويطلق لها العنان في تلك المرحلة للعناية بصناعة التصاوير والتماثيل فلو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تسامح وتساهل مع قوم حديثي عهد بكفر وعقولهم بهذا المستوى لأرتد كثير من الناس أو عادوا إلى تقديس التماثيل وخاصَّة بعد أن فتحت عليهم بلاد الفرس والروم – التي تكثر بها التماثيل والتصاوير!! فكان لابد من غلق جميع الذرائع التي تؤدي إلى ذلك. ونحن ندرك أن العقليَّة البسيطة تميل إلى المجسّد أكثر من ميلها إلى المجرّد!! وقصة بني إسرائيل شاهد على ذلك.

فكان لابد من التريث إلى أن تزول هذه العقلية الضعيفة وتنتقل إلى مرحلة التوحيد المجرد، فالإيمان بالمجرد ليس أمراً سهلاً على عامة الناس وخاصة من كان منهم حديث عهد بالوثنية من ناحية وبالإسلام من ناحية أخرى. فمن أجل ذلك كان التحريم فلو وجد قوم اليوم بهذه العقليّة وبهذا المستوى من التفكير المتدنيّ لوجب تحريم صناعة الصور عليهم؛ لأنّها ستكون مدخلاً إلى فتنة جذورها حيّة في نفوسهم؛ ولكن واقع الحال يشهد – الآن – أنّ الناس يتعاملون مع الصور بشتى أنواعها وأشكالها تعاملاً أبعد ما يكون عن التقديس أو العبادة، بل هو أقرب إلى تعاملهم مع الجماليّات الجامدة سواء منها المسموع أو المرئيّ والتي تثير في النفس معاني الشعور بالمتعة النفسيَّة والعقليّة والإحساس الغنيّ المرهَف والتأملّ الفكريّ العميق، والوقوف على ما أودعه الله في الإنسان من طاقات وإمكانات هائلة والتي لو أحسن توظيفها لأتى بكثير من الفنون النافعة ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (سورة الأعراف : 138).

من كل هذا نعلم أن كل ما يمكن أن يكون معكراً لصفاء التوحيد ويكون مغرماً بالوثنية والشرك فهو من الممنوعات في كل الشرائع المنبثقة من أصل الإسلام الذي جاء به الأنبياء والرسل من عند الله (تعالى) ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (سورة البقرة : 133).

وعندما يقول شعيب عليه السلام : ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (سورة الأعراف : 85). فهو يتحدث عن قيم مطلقة لا تخضع لخصوصيَّة الزمان والمكان وهو تشريع منبثق من أصل الإسلام.

وعندما يقول الحق  (تبارك وتعالى)  في وصف النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم –  في التوراة والإنجيل : ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سورة الأعراف : 157)، فحليَّة الطيبّات وتحريم الخبائث هي من القواسم المشتركة بين الشرائع السماوية لا يمكن أن يقال إنَّه انفردت به شريعة دون الأخرى وبناء على هذا فلا يمكننا القول دون أي دليل معتبر بأن التماثيل كانت مباحة في شريعة النبي سليمان – عليه السلام -؛ ولو كانت ذريعة للشرك. وأنَّ الشريعة الإسلامية جاءت بتحريمها لكونها كانت ذريعة للإشراك. فإنّ في ذلك قدحاً ظاهراً في عصمة سليمان. فما كان معبّراً عن هذه الطبيعة المعكرة لصفاء العقيدة من باب أولى أن تشترك الشرائع – جميعاً – في تحريمه، وأن لا يمتن الله ( تعالى ) به على نبيّه سليمان. لاسيما وأنّ الشرك في كثير من تلك الأزمنة كان الأقوى تأثيراً والأكثر انتشاراً.

ولقائل أن يقول : كيف يستقيم هذا الرأي مع قول من قال : إن تحريم الصور ليس فقط من أجل أنها تؤدي إلى الشرك ولكن لأنها “مضاهاة لخلق الله” كما جاء في الحديث؟ والمضاهاة هي المشابهة.

والجواب : إنّ ذلك يتعلّق بالنيَّة والقصد؛ فإذا قصد المصوّر ذلك؛ فإن ذلك يعني أنّه داعية من دعاة الشرك. فيمنع أمّا إذا لم يكن ذلك مراداً فمجرد التصوير لا مضاهاة لخلق الله فيه؟ ونقل الصورة من الواقع إلى الورق أو على الأفلام أو البطاقات أو غير ذلك لا يعدُّ مضاهاة لخلق الله يستحق فاعله الوعيد بالنار والعياذ بالله؟

ولنرَ ماذا قال القرآن في هذه القضية لنختبر ما جاء في الرواية في ضوء تصديق القرآن وهيمنته.

قال تعالى : ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ (سورة فاطر : 40)، في معرض الخطاب للمشركين يتحداهم الله (تبارك وتعالى) أن يظهروا ماذا خلق شركاؤهم أو أيّ دليل يدل على ذلك. وما ذلك إلا لأنَّ الخالق لكل الموجودات وأسبابها هو الله (تعالى)  فما يملك غيره من شيء يخلقه، إنما تستثمر المخلوقات كل ما هو موجود من خلق الله ( تعالى)  فمهما فعل الفنّان أو اتقن فإنه لا يصل إلى ذرة من عظمة صنع الله (تعالى) ، فالمضاهاة هذه بعيدة كل البعد من التصورُّ، إذ ليست هناك قدرة للمخلوقين على مضاهاة خلق الله على الإطلاق، لأنَّهم غير قادرين على إيجاد الأشياء من العدم، فهم يستثمرون ما يوجد في الكون من طاقات وخامات فحسب. فالمراد من المضاهاة المذكورة في الحديث – والله أعلم – هو المضاهاة المقصودة أي من قصد ذلك، فيكون القصد سبباً في تحريم الفعل والمؤاخذة عليه وليس التحريم متجهاً إلى الفعل بذاته فالأمور بمقاصدها وإنّما الأعمال بالنيات.

 فخلاصة الأمر أن التصاوير من جملة الفنون المقبولة، والقدرات التي تستوجب الشكر من العباد. ومن مستلزمات هذا الشكر استعمالها فيما يخدم الإنسان، ويرضي المنعم  (تبارك وتعالى). وهذا الرأي مستفاد من الرؤية القرآنيّة للتصوير التي تنتظم في إطار منهجي جميع ما ورد في ذم التصوير أو النهي عنه، وتظهر بذلك حكمة التشريع ومقاصده السامية.   

 

([1]) رواه البخاري في كتاب اللباس باب عذاب المصورين يوم القيامة (5494) وسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم صورة الحيوان واتخاذ ما فيه صورة (3941).

([2]) البخاري (5495) ومسلم (3942).

([3]) رواه البخاري في الكتاب نفسه باب نقض الصور (5497) ومسلم في الكتاب والباب نفسهما (3947).

([4]) رواه البخاري في الكتاب نفسه باب ما وطني من التصوير (5498) ومسلم في الكتاب والباب نفسهما (3937).

([5]) رواه البخاري في كتاب اللباس باب من كره القعود على الصورة (5500).

([6]) رواه مالك في الموطأ في كتاب الطهارة باب جامع الوضوء (29) والآية من سورة هود (114).

([7]) رواه البخاري في كتاب الحج باب فضل مكة وبنيانها (1483).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *