Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حكم دفن الجندي الأمريكي المسلم في مقبرة الشهداء الوطنية

 

المجتمع المسلم في أمريكا جزء لا يتجزأ من عناصر تشكيل المجتمع الأمريكي؛ فقد وصل بعض المسلمين إلى هذه البلاد مع المهاجرين الأوائل الذين قدموا من أوروبا للعيش في القارة الجديدة، وتتابعت هجرات المسلمين عبر التاريخ الأمريكي من مختلف أنحاء العالم للعيش الدائم في أمريكا، وحافظت أجيال المسلمين في أمريكا على هويتها الدينية الإسلامية، وهناك بعض الدراسات والبرامج التي أوضحت هذه الحقيقة التاريخية.

المسلمون في أمريكا يسعون جاهدين –شأنهم في ذلك شأن أي مواطن أمريكي مخلص- على تأكيد انتمائهم للمجتمع الأمريكي الكبير، والتغلب على سائر عوامل الوحشة والعزلة التي قد تمنعهم عن الاندماج الإيجابي والمشاركة الفعالة في بناء وتطوير بلدهم أمريكا. وبذلك يثبت الإسلام للجميع أن المسلمين يستطيعون العيش والتأقلم في أية بيئة مع المحافظة على قيمهم وأخلاقهم والتزامهم الديني، وأن يكونوا مصدر خير ونور وهداية وسلام وأمن للمجتمع الذي يعيشون فيه.

تعتبر مقبرة الشهداء الوطنية في منطقة Arlington بالقرب من العاصمة واشنطن مكانا مهما في نظر الأمريكيين؛ حيث يدفن فيها أولئك الذين قدّموا لهذا الوطن خدمات جليلة وتضحيات كبيرة، فالدفن فيها يعتبر نوعا من التكريم الرمزي في مقابل الخدمات والتضحيات المبذولة في سبيل الوطن والأمة.

يعتبر الهدف الذي من أجله تأسست المقبرة الوطنية في Arlington هدفا معتبرا في جنسه من وجهة النظر الإسلامية؛ فقد ورد في كتب السيرة أنه بعد خسارة المسلمين في غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة قام الصحابة بحمل شهداء المعركة إلى المدينة المنورة ليدفنوهم فيها، ولما علم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بذلك أمر بإعادتهم إلى أرض المعركة ودفنهم فيها تكريما لتضحياتهم وتخليدا لذكراهم حتى يكونوا نبراسا لمن يأتي بعدهم. وبالتالي فإن تخصيص مثل هذا النوع من المقابر لدفن الشهداء وذويهم ممن قاموا بأعمال تحمد لهم ليس أمرا مستغربا في تاريخنا، بل هو أمر معهود ومقبول مع وجوب القيام بالشعائر الإسلامية الخاصة من تغسيل الجثة وتكفينها وأداء صلاة الجنازة والدفن الإسلامي بتوجيه الميت نحو اتجاه القبلة –ولو داخل الصندوق- وما إليها.

إن المسلمين اليوم أحوج ما يكونون –خاصة في ظروفهم الراهنة- إلى تأكيد حقيقة انتمائهم للوطن، وإظهار كل ما من شأنه أن يؤكد كون المسلمين الأمريكيين جزءا مهما من نسيج أبناء الوطن الأمريكي الواحد، وأحد مظاهر تأكيد الانتماء هو الدفاع عن الوطن والجهاد في سبيل قضاياه العادلة، وإرساء القيم العليا بين أبنائه.

إن دفن بعض المسلمين في  Arlington National Cemetery يحقق مصلحة مهمة للمسلمين، ويرسل رسالة طيبة إلى إخوانهم من أبناء الوطن تعبر عن صدق انتماء المسلمين الأمريكيين لوطنهم وإخلاصهم لقضايا شعبهم، ودليل واضح على تضحياتهم في خدمة الوطن والدفاع عنه. من هنا فإننا لا نرى بأسا من دفن المسلمين الذين قدموا من التضحيات ما جعل إدارة هذه البلاد ترغب بتكريمهم بهذا النوع من التكريم بعد الموت، ولا نجد ما يمنع شرعا من فعل ذلك إذا روعيت الأمور التي ذكرناها.

إن عيش المسلمين بين أفراد الشعب الأمريكي ومخالطتهم لهم في معظم شؤون حياتهم يجعل من قضية  دفن بعض موتى المسلمين في مقابر من هذا النوع شأنا عاديا. كذلك فإن دفن المسلم في مقابر المسلمين يعتبر تكريما للميت نفسِه وتأكيدا على انتمائه وهويته الإسلامية، وتعزيز الوجود الإسلامي في هذه البلاد يعدّ مصلحة راجحة ترجح القول بجواز الدفن.

إن المسلمين مأمورون بتكريم موتاهم والإحسان إليهم بعد مماتهم، وما دام عُرف البلاد قد جرى على القيام بالترتيبات والمراسم المتعارف عليها تكريما للأموات فإننا نرى أن هذا النوع من التكريم يندرج تحت التكريم العام لموتى المسلمين الذي أمروا به. أما عذاب القبر الذي ورد ذكره في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يقع على العصاة من المسلمين وسواهم؛ سواء دفنوا في مقابر المسلمين أو غيرها. وعليه فالعبرة هي في موقع النفس ومستقرها بعد مغادرتها الجسد؛ فهي إما أن تكون في عليين أو في سجين –والعياذ بالله. أما الجسد الميت فهو عرضة للتحلل والتفسخ بعد الدفن بأيام، فالاستمرار المعتبر للنفس لا للجسد.

جدير بالذكر أن ما عُرف في تاريخنا من الحرص على دفن الميت في مقابر المسلمين هو جزء من التدابير الوقائية التي اتخذها علماء المسلمين لزجر من تسوّل له نفسه الارتداد عن دين الإسلام إلى الكفر؛ حيث كان دفن الميت خارج مقابر المسلمين يعتبر نوعا من الإهانة والتشنيع على من وقعت منه جريمة الردة أو الخيانة وما إليها، وعلى ذلك تحمل الفتاوى التي صدرت من بعض علماء الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي التي تفيد عدم جواز دفن حملة التابعية / الجنسية الفرنسية من أهل الجزائر المسلمين في مقابر المسلمين سدا للذريعة؛ فهي توظيف سياسي لشأن يعد دينيا، وذلك في سبيل المحافظة على الهوية الوطنية للشعب الجزائري المسلم وغلقا لباب إدماج الجزائر في فرنسا، والله أعلم.

 

د. طه جابر العلواني

آب/أغسطس، 2003

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *