Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حكم التجنّس والإقامة في بلاد غير المسلمين

أ.د/ طه جابر العلواني

الحمد لله نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.

ثم أما بعد: فمنذ أن قررت الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية والسؤال حول الحكم الشرعي لهذه الإقامة بكل ما يتعلق بها يلحّ علي ويضغط على ذهني، فراجعت لمعرفة الجواب على هذا السؤال العديد من المراجع في التفسير والحديث والأصول الفقه، وكذلك العديد من كتب الفتاوى القديمة والحديثة وقرارات المجامع الفقهية ومجامع البحوث، وناقشت كثيرا من العلماء والمفتين، وكاتبت كثيرا من أهل العلم والفضل والاجتهاد سائلا عن الحكم الشرعي لإقامة المسلم في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا وغيرها من بلاد غير المسلمين، وتلقيت هذا السؤال مرات من كثير من المسلمين المقيمين في الغرب خاصة، وتتبعت الجدل الذي ثار حوله ما وسعني التتبع.

ولما عهد إليّ إخواني بمسؤولية رئاسة (المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية) شعرت بأن هذه القضية تصلح أن تقدم بكل ما تحصل لدي فيها لتكون نموذجا دراسيا ومدرسيا تمثل به لمتطلبات الفتوى المعاصرة و”الفقه الحضاري” الذي لا بد أن تستمد الفتوى المعاصرة منه، وتلاحظ جوانبه المختلفة، وإلا فلن نتمكن من تقديم فتاوي إسلامية معاصرة فضلا عن بناء “فقه حضاري إسلامي للأقليات”، ولعل هذا النموذج يعين أولئك الذين يقيمون الكليات والمعاهد الشرعية ومعاهد ودورات تدريب الأئمة والدعاة في الغرب خاصة على إدراك خطورة المهمة الجليلة التي يتصدون لها، وأهم متطلبات إنجازها وتحقيقها وكيفية دراسة وتدريس الفقه الإسلامي في الغرب. وليدرك المتصدّون للفتوى من طلبة العلم وأئمة المساجد والدعاة خطورة ما يتصدون له، ويدرك علماء الاجتماعيات المسلمون على اختلاف وتنوع تخصصاتهم دورهم في معالجة القضايا الفقهية المعاصرة، والمساعدات الجليلة التي يمكن أن يقدموها للفقه الحضاري الإسلامي للأقليات، وللفقيه المسلم المعاصر. فالفقيه أو المفتي المعاصر واحد من علماء الاجتماعيات المعاصرين، وهو بحاجة إلى الاستفادة بتخصصات أصناف من علماء الاجتماعيات في المسائل المختلفة الحالية والمستقبلية في كثير من القضايا التي يجري فيها الاستفتاء.

ولقد ورث المسلمون تراثا قيّما متنوعا في آداب الاستفتاء وآداب الفتيا والمفتي وآدات العالم والمتعلم والقاضي وغير ذلك من آداب لا بد للمعاصرين من الإدلاء بدلوهم ليستفيدوا من ذلك التراث ويضيفوا إليه ما استطاعوا.

إنه ليس من مهمة المفتي التشدّد أو التساهل، فتلك مهمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البيان، والله جل جلاله قد أراحنا من ذلك تماما فنصّ على أنه ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج﴾ (المائدة:6) وأنه ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ (البقرة:185) وبيّن (جل شأنه) أنه يريد أن يخفف عنا فقال: ﴿يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفا﴾ (النساء:28)، وقال أيضا: ﴿ذلك تخفيف من ربكم ورحمة﴾ (البقرة:178). ووصفت الشريعة الإسلامية بأنها تخفيف ورحمة وأنها الشريعة التي رفعت بها عن البشرية الآصار كلها، والأغلال جميعها لتكون شريعة البشرية العامة الدائمة الباقية، الناسخة لشرائع الإصر والأغلال فقال جل شأنه: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا، فلما أخذتهم الرجفة قال: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا! إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} [الأعراف:155]. لكن ليس من التخفيف تحليل حرام بيّن منصوص على تحريمه لا اختلاف فيه، أو تحريم حلال، فالتحريم والتشديد صفات تشريعية يختص بها الله تعالى وبيّنها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد هالني مرة سؤال سيدة ذكرت أن لابنتها صديقا نصرانيا هو زميلها في المدرسة وأنه بدأ يصحبها إلى المنزل ويخلو بها في غرفتها في بيت أهلها للمذاكرة، وأنها تخشى إن منعتها من الاجتماع به في بيتها أن يفعلا ما يشاءان خارج البيت، وأنها سألت أحد الأئمة فقال لها: لقاؤهما في بيتها أفضل من تلقائهما خارجه!!! وهذا القول من هذا الإمام قد يكون بناء على أن السؤال طرح عليه بشكل يقتضي مثل هذا الجواب، أو أنه قاله لا على سبيل الفتوى، بل باعتباره مجرد رأي شخصي على مثل الإجابات والنصائح التي يقدمها البعض لمن يبعث بأسئلة إلى بعض الصحف والمجلات، لكن من الواضح أن السائلة قد فهمت أنها قد سمعت من الإمام فتوى شرعية وهي تتصرف بمقتضاها، وهذا الإمام مسؤول شرعا عما يترتب على فتواه.

وليس من مهمة المفتي أو المجيب أن يفتي بما يعرف وما لا يعرف، فنصف العلم –كما يقولون- قول “لا أدري” و”من أخطأ قول لا أدري فقد أصيبت مقاتله”.

وليس من مهمة المفتي أن يلمّ بسائر العلوم التي تقتضيها الفتوى، بل إن مهمته أن يعرف كيف يستفيد من سائر المتخصصين في كل ما له علاقة بموضوع الفتيا ليكتمل به تصور لها، ثم يستعين بأهل الخبرة والمعرفة من علماء الشريعة والمتخصصين بفروع علوم النقل المختلفة ليعرف كيف يربط الحكم الشرعي بالواقعة، وإلا فإنه سيضل ويُضل. ولذلك وددت أن أقدم هذه المسألة نموذجا تعرف من خلاله صحة ما ذكرنا.

لقد صيغ السؤال في فقرتين ضمناهما إشارات إلى أهم ما يثار عادة حول هذه المسألة، فكان السؤال كالتالي:

ما حكم التجنّس بالجنسية الأجنبية؛ أمريكية كانت أو أوروبية، علما بأن معظم الذين قبلوا التجنّس بهذه الجنسيات أو يعتزمون الحصول عليها يؤكدون أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم قد أوذوا واضطهدوا في بلادهم الأصلية بالسجن أو التهديد ومصادرة الأموال وغيرها.

وبعضهم يرى أنه ما دامت الأحكام الشرعية والحدود في بلاده الأصلية غير مطبقة، فأي فرق بين أن يحمل جنسية ذلك البلد الذي اضطهده والبلد الذي اختار أن يستوطن فيه، وهو في بلد مهجره مصانة حقوقه الشخصية؛ دمه وماله وعرضه، ولا يمكن سجنه أو تهديده إلا إذا فعل ما يستوجب ذلك؟

لولادة الأبناء وتنشئتهم في أمريكا وأوروبا ونحوها من بلاد غير المسلمين مساوئ ومخاطر وبعض المحاسن، واحتمال اكتسابهم من عادات أبناء النصارى واليهود الكثير احتمال قائم خاصة في حالة انشغال الوالدين أو وفاه أحدهما أو كليهما. فما أثر هذا الضرر المظنون في حكم الهجرة إلى هذه البلدان والإقامة الدائمة فيها مع ملاحظة أن كثيرا من الناس هنا على الدوام يذكرون بأن أبناءهم في بعض البلدان الإسلامية التي كانوا يقيمون فيها يتعرضون لاحتمالات الردة باعتناق الشيوعية واللادينية أو نحوها من الأفكار الإلحادية التي تروّج لها حكومات بعض البلدان الإسلامية وتدخلها في برامجها التعليمية والتوجيهية، وتضطهد من يرفضها؟

ووجهنا السؤال إلى عدد كبير من الشخصيات العلمية ومن المشتغلين بالعلوم الشرعية من مختلف المذاهب، ومن هؤلاء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وهيئة كبار العلماء في المملكة، وسماحة شيخ الأزهر، ورئيس مجمع البحوث الإسلامية بمصر، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، ومجمع الفقه برابطة العالم الإسلامي، وعدد من المفتين من مختلف الأقطار، ومن أئمة المذهب الشيعي وجهنا الاستفتاء إلى الإمام الخميني –رحمه الله- والإمام حسين علي منتظري، والإمام الخوئي.

وقد تلقينا إجابات من معظم هؤلاء الأفاضل، واستفاد البحث بكل هذا الذي جاء من هؤلاء، وبعد أن ظننت أنني قد أصبحت قادرا على بيان الحكم الفقهي فيها ولو بطريق الترجيح وجدت أن كل تلك الفتاوى والأقوال –على أهميتها وما في بعضها من جهد واجتهاد معتبر- لا يغني عني القول بأي منها من الله في شيء. ففي كل فتوى من هذه الفتاوى أو رأي من هذه الآراء بُعد غائب أو أكثر لو اتضح في ذهن المجيب المفتي لغيّر جوابه، وأن المسألة من الخطورة بحيث لو عرضت على واحد من الخلفاء الراشدين لجمع لها سائر أهل الصفّة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فمن الأبعاد الغائبة –على سبيل المثال لا الحصر- البعد الذي لا يمكن أن يوضحه إلا علماء السياسة، فعلماء السياسة هم الذين يستطيعون أن يوضحوا القول بالجواز من عدمه في قضايا “الهوية والانتماء ومصالح الأمة المسلمة وشعوبها وحكوماتها ومنافعها وأضرارها وعلاقات الأمة بغيرها” وسوى ذلك مما له علاقة في الجانب السياسي، وكذلك البعد القانوني الدولي العام والخاص.

ومن الأبعاد الغائبة كذلك البعدُ الاقتصادي بالنسبة لسائر الأطراف وآثاره على الأمة.

ومن الأبعاد الغائبة البعد الفكري والثقافي.

ومن الأبعاد الغائبة البعد التاريخي وملاحظة التجارب التاريخية ودراستها وتحليلها. ومن كذلك البعد الأبعاد الحضارية.

ومن الأبعاد الغائبة البعد المتعلق بتحديد خصائص وطبيعة الإسلام ومراحله وعالميته.

فهذه الأبعاد كلها حين يقوم أصحاب كل تخصص بدراسة الأمر من زاوية تخصصهم ورؤيتهم لا شك أن ذلك سيضيف للمجتهد حيثيات تؤثر في تصوره للمسألة وبالتالي فإنها ستؤثر في قوله فيها وما فرق الأصوليون بين الحكمة والعلة والوصف المنضبط وغير المنضبط لمثل هذه الأمور.

وكذلك عمليات سبر الأوصاف وتقسيمها، وبيان ما هو معتبر وغير معتبر منها، فكل تلك الأمور ضرورية لاكتمال الفتوى. ومن هنا يتضح أن الفتوى الصحيحة لم تعد مجرد قول بالتحليل أو التحريم أو الجواز أو المنع يقول به رجل صالح فقيه أو مجموعة من الفقهاء، بل هي نتيجة جهود فريق متكامل من العلماء يضم مختلف التخصصات الفقهية واللغوية والإنسانية والاجتماعية والعلمية يساعده عدد كبير من الباحثين في جميع المجالات ولا يقول هذا الفريق الكامل في مسألة قولا بالتحليل أو التحريم أو الجواز أو المنع قبل أن يحيط بجوانب المسألة كلها، ويدرس أبعادها جميعها، وإلا فكثيرا ما تأتي الأعراض الجانبية بنقيض ما يأتي به الدواء، وقد تنعكس آثار الفتوى الناقصة على سمعة الإسلام ومصادره وإيمان الناس به وثقتهم بصلاحه وقدرته.

وفي مسألتنا هذه حاولت جهدي أن أقدمها لعلماء الاجتماعيات والإنسانيات بكل تخصصاتهم نموذجا للمسائل التي تتوقف على إبداعهم المعرفي بقدر ما تتوقف على اجتهادات الفقهاء.

وقد بذلت جهدي أن أحسن تصويرها فقها وقانونا مع بعض الإشارات التاريخية ثم آتي بأقوال الفقهاء المعاصرين منتظرا أبحاث ودراسات علماء الاجتماعيات ليقدموا أبحاثهم ودراساتهم لتغطية الأبعاد الغائبة، ولتجميع العقول المشاركة كلها بعد ذلك، فتقول في المسألة قولا سديدا يصلح الله تعالى به الأحوال إن شاء الله.

المواطنة والتجنس

عرف مصطلح “مواطن” في إطار المفاهيم التي تبلورت في منظومة الثورة الفرنسية الفكرية سنة 1778م. وضمّن معنى المنتمي إلى شعب وله كغيره حق التمتع بحقوق قانونية وسياسية، وشاع مفهوم “المواطنة” ليكون تعبيرا عن البديل الجديد لأنواع الانتماءات الأخرى في أوروبا مثل الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية الي كانت سائدة في أوروبا قبل الثورة الفرنسية.

وارتبط مفهوم “المواطنة” ومصطلح “المواطن” بأفكار جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي) فإرادات الأفراد التي تنجم عن الوعي على الأمور المشتركة فيما بينهم تلتقي لتحدث شيئا اسمه “الإرادة الجماعية” ثم تتلاشى عندها وتفنى أو تذوب فيها لتصبح هذه الإرادة الجماعية أو العامة هي التعبير عن الشعب أو الأمة، وهي صاحبة الحق في إعلان سيادتها على الأرض التي تعتبر وطنا لها، وتحديد حدود تلك الأرض، والحصول على اعتراف الآخرين بها. كما أنها وحدها – أي “الإرادة العامة” صاحبة الحق في وضع القواعد المنظمة لمختلف أنواع العلاقات في الجماعة لتكون “الدستور” كما أنها صاحبة الحق في وضع ما ينبثق عنه من قوانين تسنّها لتنظيم شؤونها المختلفة.

ثم تبلورت تلك الأفكار وتفاعلت مختلف المدارس الفكرية الغربية في بناء مفاهيمها لتتحول –بعد ذلك- إلى وثائق معلنة عن “حقوق الإنسان” و”حقوق الأمم والشعوب” ولتصبح هذه الحقوق موضع احترام الأمم كلها أو جلها فيشكل ذلك وسيلة لحمايتها والمحافظة عليها، وبناء بعض القواعد والقوانين عليها.

فمن حقوق الإنسان أن يختار بإرادته الحرة الدولة التي ينتسب إليها، إضافة إلى حقه الطبيعي في الانتساب إلى الدولة التي ولد على ترابها أو بعد التنازل عن هذا الحق، وله على الآخرين أن يحترموا إرادته.

ومن حقوق الأمم والشعوب أن تتساهل أو تتشدد بشروط الانتساب إليها بالنسبة لمن يرغبون بذلك من غير أولئك الذين ولدوا على ترابها، ولها على الآخرين أن يحترموا إرادتها وشروطها هذه.

فعرفت فكرة “الجنسية” –بمفهومها المعاصر- في أوروبا وبدأت تتبلور وتظهر وتنتشر القواعد التي تنظمها وفقا لذلك في العالم كله، ووفقا لتطلعات وأفكار ومبادئ الأمم المختلفة. فكلما تألفت مجموعة بعقد اجتماعي بينها نابع من إرادة حرة لها تكونت دولة، وأعلنت جنسية. كما تبلورت وتطورت –بعد ذلك- وسائل إثبات الانتساب لهذا البلد أو ذاك، وقواعد التنقل والسفر وغيرها بعد الحرب العالمية الأولى.

وزادت وضوحا وتحديدا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وقامت على إثر ذلك دول كثيرة، وقامت منظمات دولية مثل “منظمة الأمم المتحدة” والمنظمات الأخرى الدولية التي تنظم الدول إليها تأكيدا لهويتها واستقلالها وشخصيتها الدولية المستقلة.

الجنسية في القوانين الوضعية

ومن هنا صار للجنسية معنى اجتماعي هو انتماء الشخص إلى شعب أو أمة معينة، ومعنى سياسي وقانوني هو انتماؤه إلى دولة معينة قبلت أن يكون واحدا من رعاياها وعضوا فيها يخضع لقوانينها وأنظمتها المنظمة لشؤون رعاياها والمقيمين فيها. فالجنسية إذن: علاقة سياسية وقانونية ورابطة اجتماعية بين الفرد ودولة معينة. أو هي: رابطة قانونية تربط الإنسان بدولة ذات سيادة يعتبر قانونا واحدا من رعاياها.

وعلى هذا فالجنسية تقوم على دعائم ثلاثة تشكل أطرافها هي: الدولة والفرد والعلاقة القانونية والسياسية بينهما.

فالدولة شخصية معنوية دولية، وهذا احتراز عن المنظمات والمؤسسات التي لا تعتبر دولة مثل “هيئة الأمم المتحدة” ونحوها، فهذه المنظمات لا يمكن أن تعتبر طرفا في علاقة الجنسية، ولا تملك إعطاء الجنسية للأفراد.

أما الطرف الآخر في رابطة الجنسية فهو الفرد، أي الشخص الطبيعي الذي له شخصية قانونية.

وأما العنصر الثالث في الجنسية فهو العلاقة القانونية والسياسية التي تقوم بين الفرد والدولة، وهذه العلاقة توصف بأنها قانونية لما ينشأ عنها من آثار قانونية يعبر عنها بالحقوق والواجبات بالنسبة لطرفي العلاقة.

كما توصف بأنها سياسية لأن الدولة أحد طرفيها، الدولة مؤسسة سياسية، ولأن بعض الحقوق والواجبات بين الطرفين هي حقوق أو واجبات سياسية.

ويطلق على من يتمتع بجنسية الدولة اسم “الوطني” للتفريق بينه وبين غيره كالمقيم الأجنبي.

وأما مصطلح “المواطن” فيراد به الوطني الذي يتمتع بالحقوق السياسية مع تمتعه بجنسية الدولة فكل مواطن وطني، ولا عكس.

ما تثبت به الجنسية

قد ثتبت الجنسية للشخص بسبب ولادته على أرض دولة، وهذه هي التي يعبر عنها بالجنسية الأصلية، وقد تثبت له بعد ميلاده وهذه هي الجنسية اللاحقة أو المكتسبة.

وتختلف الدول في الأساس الذي تضعه للجنسية الأصلية، فبعض الدول تأخذ بأساس حق الدم، وذلك يعني أن المولود لوالد وطني تثبت له جنسية والده في لحظة ولادته. وبعض الدول تأخذ بأساس حق الإقليم ومعناه أن المولود في إقليم دولة تثبت له جنسيتها بغض النظر عن جنسية والده ترجيحا لرابطة الإقليم على رابطة الدم، وتعزز هذه الرابطة عادة بتوطن الأبوين في إقليم الدولة وقت الميلاد.

قواعد اكتساب الجنسية اللاحقة

أما الأسس التي تضعها الدولة لاكتساب الجنسية بعد الولادة والجنسية اللاحقة فهي:

الجنسية القانونية، أي كسب الجنسية بحكم القانون كأن يولد طفل على أرض دولة معينة لأبوين ليسا مواطنين، بل هما مقيمان إقامة مؤقتة. فالقانون يمنح المولود حق حمل جنسية الإقليم إذا رغب بعد بلوغه سنا معينة كما هو الحال في أمريكا الآن.

التجنس بأن يطلب الفرد من دولة معينة إعطاءه جنسيتها فتوافق الدولة على طلبه إذا استوفى الشروط المقررة في قانون تلك الدولة.

الزواج

تغيير السيادة أو ضم بلد –كلّا أو جزءا- فيكتسب القاطنون جنسية دولة السيادة الجديدة، أو جنسية الدولة الضامة، وفي عهود الاعتداءات الأوروبية التي عرفت بـ “الاستعمار” كانت الدول المعتدية المستعمرة تضم أبناء البلدان المحتلة المستعمرة إلى جنسيتها بشكل جماعي أو تيسير التجنس للراغبين وإعطاء مزايا كثيرة عليه، وذلك لإفقاد البلد المحتل المستعمر هويته الخاصة وتميزه وإنهاء أو إضعاف أصوات المطالبين بالاستقلال من أبناء البلاد. وهذا النوع من الاعتداء الذي سُمي بـ “الاستعمار” عرف بـ “الاستعمار الاستيطاني” حيث يستوطن المحتلون الأرض المحتلة ويكاثروا أهلها فيها ثم يبسطون جنسيتهم عليها، وسنرى عند تصنيف أقوال العلماء مدى تأثر أحكام التجنس لدى العلماء المتأخرين بهذه الحالة، حيث أطلق كثيرون من العلماء أحكام الكفر والردة وارتكاب الكبيرة في أقل الأحوال على المتجنسين بجنسية دولة الضم أو الاحتلال.

فقد الجنسية

لفقد الجنسية بعد استحقاقها أو اكتسابها نظم وقوانين. فبعض هذه النظم تعتبر الجنسية الأولى ساقطة عن الفرد الذي يكسب جنسية ثانية. وبعضها تخوّل مواطنيها الحق في اكتساب جنسية أخرى مع الاحتفاظ بجنسيتهم الأولى ومزاياها.

كما أن كثيرا من التطورات طرأت على نظم الجنسية وقوانينها في العالم الحديث كله، والظروف الاقتصادية المتغيرة أدت بكثير من الدول إلى إدخال التعديل تلو الآخر لتستجيب نظم وقوانين الجنسية لحاجاتها الاقتصادية والبشرية، وزادت الثورة الاتصالية المعاصرة والعلاقات الثقافية بين الشعوب ونظم القمع والاضطهاد في بعض أنحاء العالم من عمليات الانتقال والإقامة والتجنّس بين البلدان المختلفة.

ويعتبر هذا الأمر من دلائل عمق ومتانة وإعجاز التصور الإسلامي للبشرية الذي أعلن أخوة البشر وإلغاء كل وسائل وعوامل التمايز والاختلاف بينهم إلا التقوى والعمل الصالح، فما أظهره الإنسان المعاصر من قدرة على تجاوز الانتماء إلى العرق والتراب واللغة والمناخ مبشر بقدرته على تحقيق الاستجابة البشرية الشاملة لنداء الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين﴾ (البقرة:208).

الجنسية في الشريعة الإسلامية

يرى البعض أن الجنسية قضية من نوازل العصر وقضاياه الحادثة، حيث لم يكن في عصر النص ولا في عصور الاجتهاد لها ذكر. ففي عصر النص لم يكن من شرط للانتساب إلى الأمة المسلمة والتمتع بعضوية الجماعة المسلمة إلا إعلان الإيمان بعقيدة هذه الجماعة، وذلك بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، مع الموافقة على الالتزام بشريعتها، أو الدخول في ذمتها، وكلا من هذين الأمرين وإن كان يشبه نوعا من العقد الاجتماعي ولكن الحقيقة أن الدخول في الإسلام يمثل انتماءا إلى دين، وأما الذمة فهي نوع من الاستجارة أو الحماية يمنحها المنتمون إلى الدين لأولئك الذين يحبون التعايش معهم، وذلك غير الجنسية.

فقد تقدم أن الجنسية أداة للتعبير عن انتساب الفرد إلى دولة معينة، ذلك الانتساب يعني قيام رابطة قانونية وسياسية بين الفرد والدولة.

وهذا المفهوم قد عرف في الشريعة الإسلامية ولم يطلق عليه الفقهاء ذات المصطلح، وذلك أن الكيان الذي يطلق عليه “دولة” كان قد وجد مثله في عهد النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- في المدينة، كما وجد في عهد خلفائه الراشدين. كما عرفت الحكومة في عهود الخلفاء والسلاطين الذين جاؤوا بعدهم كالعهود الأموية والعباسية والعثمانية، وكانت هناك رابطة سياسية وقانونية بين هذا الكيان “الدولة” والناس الذين يعيشون في ظلها كما قامت بين أهل دار الإسلام والكيان السياسي الذي يحكمها “الخلافة” رابطة قانونية. فرابطة الجنسية بمفهومها الحديث عرفتها الشريعة الإسلامية وإن لم يستعملها الفقهاء أو يطلقوها على الرابطة المذكورة، والفوارق المذكورة لا تنفي الأركان الحقيقية لهذه الرابطة وتوافرها في علاقة المسلم بالكيان السياسي القائم بدار الإسلام.

مَن يتمتع بالجنسية الإسلامية

أولا: المسلمون

أساس هذه الرابطة المعروفة في عصرنا هذا بـ “رابطة الجنسية” بالنسبة للمسلم هو الإسلام، أي كون الشخص مسلما يجعله أهلا للانتماء إلى الدولة الإسلامية والتبعية لها والارتباط بها قانونا. فكل مسلم يتمتع بجنسية دار الإسلام على أساس توافر الصفة الإسلامية فيه. ولهذا فالإسلام يعتبر في وقت واحد عقيدة وجنسية، والمسلمون في أي مكان كانوا يعتبرون أخوة في العقيدة والجنسية.

ثانيا: الذميون

المسلمون في الأصل هم أهل دار الإسلام، ومن يساكنهم ويعايشهم في هذه الدار من غير المسلمين سواء ولدوا فيها على أديان أخرى أو قدموا إليها واختاروا الانتماء إليها على الانتماء إلى سواها – وهؤلاء هم الذميون.

وقد صرّح الفقهاء أن الذميين من أهل دار الإسلام، ففي البدائع “والذمي من أهل دار الإسلام”، ومعنى هذا أن الذميين يعتبرون من أفراد مواطني دار الإسلام ومن المنتمين إليها. فهم إذن مرتبطون بالدولة الإسلامية بما يسمى برابطة الجنسية. وهذا واضح، فكما أن قول الفقهاء أن المسلمين من أهل دار الإسلام يفيد أن المسلمين من تبعة هذه الدار ويحملون جنسيتها، فكذلك قولهم أن الذميين من أهل دار الإسلام يفيد أن الذميين من تبعة هذه الدار ويتمتعون بجنسيتها. وإذا كان أساس الجنسية بالنسبة للمسلم هو الإسلام، فإن أساس جنسية الذمي عقد الذمة وما يشتمل عليه.

وقد ادعى بعض الكاتبين أن الذميين لا يتمتعون بالجنسية الإسلامية، وحجته أن الذميين لا يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، ولا يلتزمون بنفس التزاماتهم. فالحقوق السياسية يتمتع بها المسلم ولا يتمتع بها الذمي، والجزية يلتزم بها الذمي دون المسلم، والزكان تجب على المسلم دون الذمي، وهذا كله يدل على أن الذمي لا يتمتع بالجنسية الإسلامية لأنه لو تمتع بها لترتبت له حقوق وفرضت عليه واجبات شبيهة بالتي للمسلم أو عليه، كما هو الحال في الدول الحديثة التي تساوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات.

والواقع أن هذا القول ضعيف، فالدولة الإسلامية تأخذ بقاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلم والذمي، ولكنها تستثني من هذه القاعدة بعض الحقوق والواجبات لابتنائها على العقيدة الدينية. ومن هنا جاء التفاوت ببعض الحقوق والواجبات بين المسلم والذمي. ولكن هذا لا يعني أن الذمي لا يتمتع بالجنسية الإسلامية، لأن الدولة –حتى في وقتنا الحاضر- قد لا تساوي بين رعاياها الوطنيين –وكلهم يتمتعون بجنسيتها- في بعض الحقوق لا سيما الحقوق السياسية. ومع هذا يظلون متمتعين بجنسية الدولة، ولم يقل أحد أن عدم تمتع هذا الفريق من رعايا الدولة ببعض الحقوق دليل على عدم تمتعه بجنسية الدولة. فالمواطنون في الدولة الحديثة هم الأفراد الذين يتمتعون بجنسية الدولة وذلك بغض النظر عما يكون يبين بعضهم البعض.

الجنسية الأصلية والجنسية اللاحقة

إذا اكتسب الذمي جنسية دار الإسلام في لحظة ولادته فهي جنسية أصلية. وإذا اكتسبها بعد ولادته فهي جنسية لاحقة. وتتصور الجنسية الأصلية للذمي في حالة ما إذا ولد للذمي ولد فإن هذا المولود يتبع أباه في الذمة من لحظة ولادته، فيكتسب جنسية دار الإسلام. وإذا كان للذمي ولد صغير عند ارتباطه بعقد الذمة فإن ولده الصغير هذا يتبعه في الذمة أيضا، فيكتسب جنسية دار الإسلام وتكون هذه الجنسية في حقه جنسية لاحقة. وكذلك الزوجة تدخل في الذمة تبعا لزوجها أو إذا تزوجت ذميا فتكتسب جنسية دار الإسلام وتكون هذه الجنسية بالنسبة لها جنسية لاحقة.

فقد الجنسية

يفقد الذمي جنسيته إذا قام بما تنتقض به الذمة كما لو لحق بدار الحرب، إلا أنه ما دام لم يظهر منه ما تنتقض به الذمة فإن الدولة الإسلامية لا تملك نزع الجنسية عنه.

جنسية المستأمن

المستأمن أجنبي عن دار الإسلام وليس من أهلها، لأن المستأمن هو من يدخل دار الإسلام بأمان مؤقت لقضاء حاجة ثم يعود إلى وطنه الأصلي، وبهذا صرح الفقهاء فقالوا: “المستأمن منت أهل دار الحرب وإن دخل دار الإسلام لا بقصد الإقامة بل لعارض حاجة ثم يعود إلى وطنه”. وفي شرح السير الكبير: “فأما المستأمن فلم يصر من أهل دارنا”.

وقبل أن نمضي في بيان ما بقي من حيثيات ومقدمات قضية الفتوى لا بد لنا من بيان المراد بـ “دار الإسلام” و”دار الحرب” توضيحا وتكميلا لأحكام الجنسية وتوطئة لبيان حكم الإقامة والتجنّس بجنسية غير المسلمين.

دار الإسلام ودار الحرب

قسم الفقهاء الأقدمون الأرض إلى قسمين: دار الإسلام ودار الكفر، وأضاف بعضهم قسما ثالثا سموه بدار العهد.

أما دار الإسلام فقد عرفها الفقهاء بتعاريف مختلفة، منها ما قاله السرخسي: “دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون”. وعرفها المرحوم عبد الوهاب خلاف بأنها “الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام ويأمن من فيها بأمان المسلمين سواء أكانوا مسلمين أو ذميين”.

والواقع أن لا اختلاف بين التعرفين لأن البلاد التي تكون تحت يد المسلمين تجري فيها أحكام الإسلام لأن المسلمين لا يجرون غير هذه الأحكام. كما أن التعريف الثاني وإن لم يذكر صراحة أن الدار تحت يد المسلمين، إلا أن هذا الأمر مفهوم بداهة ويتضمنه التعريف ما دامت أحكام الإسلام هي النافذة والأمان حاصل لمن فيها.

فالشرط الجوهري لاعتبار دار الإسلام هو كونها محكومة من قبل المسلمين وتحت سيادتهم وسلطانهم، فتظهر عند ذاك أحكام الإسلام. وليس من شرط هذه الدار أن يكون فيها مسلمون ما دامت تحت سلطانهم. وفي هذا يقول الإمام الرافعي: “ليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون، بل يكفي كونها في يد الإمام وإسلامه”.

وبلاد الإسلام كلها تعتبر دارا واحدة لو اختلف حكامها وصارت دولا شتى لنفوذ حكم الإسلام فيها، لأن هذه الفرقة لا تقضى على نفوذ حكم الإسلام فيها جميعا. والأصل في أهل دار الإسلام أن يكونوا مسلمين، ولكن قد يكون من سكانها غير المسلمين وهم الذميون.

ولأهل دار الإسلام؛ سواء منهم المسلمون والذميون العصمة في أنفسهم وأموالهم، المسلمون بسبب إسلامهم، والذميون بسبب ذمتهم، فهم جميعا آمنون بأمان الإسلام، أي بأمان الشرع بسبب الإسلام بالنسبة للمسلمين، بسبب عقد الذمة بالنسبة للذميين.

دار الحرب: وهي الدار التي لا سلطان للمسلمين عليها، وفي هذا يقول الزيدية: “واعلم أن دار الحرب هي الدار التي شوكتها لأهل الكفر، ولا ذمة من المسلمين عليهم”. ومن الواضح أن هذه الدار لا تطبق فيها أحكام الإسلام، لأن حكامها غير مسلمين، وبهذا صرّح الإباضية.

وعرف بعض الفقهاء المحدثين هذه الدار بقوله: “هي الدار التي لا تجري فيها أحكام الإسلام ولا يأمن من فيها بأمان المسلمين” أو هي الدار “التي لا سلطان للإسلام عليها، ولا نفوذ لأحكامه فيها بقوة الإسلام ومنعته”. والواقع أن لا اختلاف بين هذه التعاريف، وإنما ذكر في كل منها صفات يلزمها ما ذكر في التعاريف الأخرى كما يظهر بادئ النظر.

وأهل دار الحرب هم الحربيون، والحربي لا عصمة له في نفسه ولا في ماله بالنسبة لأهل دار الإسلام، لأن العصمة في الشريعة الإسلامية تكون بأحد أمرين: الإيمان أو الأمان. وليس الحربي بأي منهما.

ما به تصير الدار دار إسلام أو دار حرب

قال الأحناف والزيدية: تصير دارُ الحرب دارَ إسلام بإظهار أحكام الإسلام فيها. وتصير دار الإسلام دار حرب عند أبي حنيفة بثلاثة شروط:

أولا: ظهور أحكام الكفر فيها

ثانيا: أن تكون متصلة بدار الحرب بحيث لا يكون بينهما بلد من بلاد الإسلام

ثالثا: أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول

وعند أبي يوسف ومحمد والزيدية تصير دارُ الإسلام دارَ حرب بإظهار أحكام الكفر فيها.

هل تصير دارُ الإسلام دارَ حرب إذا استولت عليها دولة كافرة؟

تعرض الإمام الإسبيجابي لهذه المسألة وذلك بعد إغارة التتار على البلاد الإسلامية واستيلائهم على أجزاء منها. والذي رآه الإمام هن بقاء تلك البلاد المحتلة من قِبل التتار من جملة بلاد الإسلام لعدم اتصالها بدار الحرب، ولأن الكفرة لم يظهروا فيها أحكام الكفر، فقد ظل القضاة من المسلمين، ثم قال: “وقد تقرر أن بقاء شيء من العلة يبقي الحكم، وقد حكمنا بلا خلاف بأن هذه الديار قبل استيلاء التتار عليها كانت من ديار الإسلام، وأنه بعد الاستيلاء عليها بقيت شعائر الإسلام، كالأذان والجُمع والجماعات وغيرها، فتبقى دار إسلام”. وقال الإمام الحلواني: “إنما تصير دارُ الإسلام دارَ حرب بإجراء أحكام الكفر فيها، وألا يحكم فيها بحكم من أحكام الإسلام، وأن تتصل بدار الحرب، وألا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول، أي بأمان أثبته الشرع بالإيمان أو بعقد الذمة، فإذا وجدت الشرائط كلها صارت دارَ حرب، وعند تعارض الدلائل أو الشرائط فإنه يبقى ما كان على ما كان أو يترجح جانب الإسلام احتياطا، ألا ترى أن دار الحرب تصير دار إسلام بمجرد إجراء أحكام الإسلام فيها إجماعا”.

والذي يخلص لنا من رأي الإمامين الإسبيجابي والحلواني أن دار الإسلام لا تكون دار حرب بمجرد استيلاء دولة كافرة عليها مادام يجري فيها بعض أحكام الإسلام. ويبدو أن رأي هذين الإمامين هو الراجح نظرا لما استدلوا به. وعليه فإن بعض بلاد المسلمين التي تخضع اليوم للسيطرة الأجنبية تعتبر من دار الإسلام لجريان بعض أحكام الإسلام فيها، كأحكام النكاح وغيرها مما يتعلق بالأحوال الشخصية ولظهور بعض شعائر الإسلام فيها أيضا وللبقاء على حكم الأصل.

وهذا التقسيم فيما ذهب إليه بعض العلماء بعد الهجمات المغولية وسقوط بعض بلاد المسلمين بأيديهم إلى أن تم سقوط بغداد نفسها سنة 656هـ وتعدد الدول التي تنتمي إلى الإسلام، فذهب بعض الأئمة أن الأرض قد صارت إلى دارين: دار إسلام ودار دعوة. فدار الإسلام هي ما قد مرّ تعريفه، ودار الدعوة هي سائر نواحي الأرض الأخرى التي تعتبر محلا للدعوة. وقد تمسك بهذا التقسيم الإمام فخر الدين الرازي (606هـ) وبعض من وافقه من العلماء، وذلك لرفع الحرج عن أولئك الذين صاروا بالفتح والضم والاحتلال تحت سلطان غير المسلمين ولتنبيه هؤلاء إلى واجبات إسلامية لا يزال في مقدورهم القيام بها ولو في ظل غير المسلمين – وهو الدعوة. وأظنه -والله أعلم- هو التقسيم المناسب في عصرنا هذا. فالديار التي ارتضى أهلها أحكام الإسلام أو الأحكام المستمدة من الفقه الإسلامي وسائل لتنظيم شؤونهم يمكن أن نطلق عليها دار الإسلام. وكل ما عداها دار دعوة، والمسلمون مطالبون بتوصيل دعوة الإسلام إليها. وهذا التقسيم هو الذي ينسجم مع اتجاه العالمية الإسلامية الثانية المنتظرة التي يظهر فيها دين الله على الدين كله.

أما ما يتعلق بأحكام انتقال المسلم من موطن إقامته إلى مواطن غير المسلمين وإقامته الدائمة بين ظهرانيهم وحمله لجنسية غير المسلمين فهي مسألة طويلة متشعبة اختلفت فيها مقالات الإسلاميين وفتاوى علمائهم قديما وحديثا اختلافا كبيرا.

التجنّس بجنسيات البلاد اللادينية المعاصرة

أما أقوال الأقدمين فلم تتعرض إلى أحكام التجنّس بجنسيات بلاد غير المسلمين بشكل مباشر، حيث لم يعرف التجنّس بلفظه ومصطلحه – كما أسلفا. ولكن مذاهبهم في هذه المسألة نصّت على بيان أحكام السفر غلى بلاد غير المسلمين والإقامة فيها، وهما من لوازم التجنس وبعض آثاره، ويمكن تصنيف أقاويل علمائنا الأقدمين في أحكام السفر إلى بلاد غير المسلمين في مجموعات أربعة هي:

القسم الأول:

من كان سفره مأمورا به شرعا ويعتبر صاحبه في عبادة حتى يرجع، وذلك كالسفر بقصد الدعوة إلى الله، أو تعلم ما هو وسيلة إلى مرضاة الله ونفع المسلمين من حرف وصناعات لا بد منها، أو القيام بسفارة. ودليل مشروعية هذا النوع من سفر رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أهل الطائف لعرض الإسلام عليهم، وكذلك إرساله بعض أصحابه –صلى الله عليه وآله وسلم- إلى ملوك أهل الأرض ومن حولهم، فقد بعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر، وشجاع بن وهب بن أسد بن خزيمة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك نصارى العرب، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة.

وهؤلاء يجب ويستحب لهم الذهاب إلى بلاد غير المسلمين –كل بحسب مهمته- ويشترط فيهم أن يكونوا عارفين بأمور دينهم بأدلته الشرعية، متمكنين في عقيدتهم، مأمونا عليهم في ظاهر حالهم من الوقوع في الفتنة بكل أنواعها، قاصدين من سفرهم وسكناهم في ديار غير المسلمين إظهار دين الله والدعوة إليه ومعرفة ما يعينهم على ذلك، وإخراج أولئك الناس من ظلمات الشرك والوثنية إلى نور التوحيد.

القسم الثاني:

من أقسام السفر والإقامة مع غير المسلمين ما يكون مباحا، وهو ما كان سفره لحاجة دنيوية كتجارة أو علاج أو سياحة مباحة، وهو عارف بأمور دينه وأدلته، آمن من الفتنة بكل أنواعها، مظهر لدينه غير خجل أو مستح من إظهار شعائره، قادر على التأثير في الآخرين، آمن من التأثّر السلبي بهم وأذدد مساوئهم. ولم يؤثر منع ذلك عن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- ولا منع منه أيضا أحد من خلفائه بعد وفاته –صلى الله عليه وآله وسلم-. فقد كان المسلمون يسافرون في فك الأسرى وحمل الرسائل إلى ملوك أهل الأرض، كما كانوا يسافرون للتجارة والعمل، وقد أرسل الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم- عثمان بن عفان –رضي الله عنه- إلى أهل مكة وهم أهل حرب ذلك الوقت، فدلّ على أن السفر لغرض مباح يكون مباحا، كما أن السفر لغرض مستحب يكون مستحبا.

وقد كان للتجار المسلمين تأثير عظيم على كثير من البلدان التي ارتحلوا إليها فحملوا معهم الدعوة إلى الله بجانب البضائع الدنيوية، ففتحت على أيديهم بلاد لم تطأها أقدام المجاهدين المسلمين بفضل الله ثم بفضل أولئك الذي حملوا الإسلام بأقوالهم وأفعالهم فكانوا قدوة حسنة ومثلا أعلى يقتدى بهم. ومن هذه البلاد أندونيسيا وماليزيا ومعظم الدول الواقعة في شرق وجنوب آسيا ووسط وشرق أفريقيا، مثل تشاد ونيجيريا وأوغندا والسودان والصومال وما حولها,

القسم الثالث:

من كان سفره وإقامته في بلاد غير المسلمين حراما وكبيرة من كبائر الذنوب، وذلك من كان سفره لحاجة دنيوية وهو عارف لدينه، آمن من الفتنة ولكنه غير قادر على إظهار وتأدية شعائر الإسلام بحرية تامة من فعل للواجبات وترك المحرمات، وذلك كمن سافر إلى بلاد تسيطر عليها سلطات ملحدة أو لا تسمح للمسلمين بممارسة وتطبيق أوامر الله تعالى، فيؤدي ذلك إلى توقف المسلم عن ممارسة ما فرض عليه أو الوقوع فيما حرم عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *