Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حوار حول جدلية الفقه والواقع

جدلية الفقه والواقع

حوار مع  أ. د./ طه جابر العلوانى عن العلاقة بين الفقه والواقع، وأ. منال الشيمي.

المحاور:  الحوار هو عن علاقة الفقه بالواقع، و نقصد بالواقع ما هو عكس (الرؤية الاسلامية ) الناتج عن تغيرات ناتجة عن أجندة معينة، فهناك  نوعان من الواقع، واقع ناتج عن تطور طبيعى للأمور، كاختراع السيارة مثلا ، وواقع غير طبيعى ناتج عن تغيرات نابعة  من أجندة معينة، ونتاج للفصام بين ما هو على الأرض وما هو داخل الرؤية الإسلامية، أصبحنا نجد فئتان من الناس ، فئة تتمسك بالرؤية (المثال) فتبتعد تماما عن الواقع وتنعزل، وفئة تتصالح مع الواقع بحيث تتوائم مع سلبياته وتبتعد تماما عن المثال والرؤية الصحيحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المحاور: نشهد كثيراً تغيير الواقع على الأرض أولا ثم  يتحرك الفقه والفكر بعد ذلك ، قنجد أن الفقه يتعامل مع هذا التغير كأمر واقع ومعطى عليه أن يتعامل معه، وإذا أردتم مثالاً على ذلك، نضرب المثل بقضية المرأة. فقبل طرح هذه القضية فكرياً وفقهياً، نجد أن التغيرات الاجتماعية التى تشمل نمط  الحياة والسلوك ، قد تمت على أرض الواقع ، وهكذا الأمر عند الحديث عن مواجهة قضايا الرشوة والفساد فى بلد كمصر، حيث من المعروف أن الدفع قد أضحى أسلوباً متبعاً وعرفياً لقضاء المصالح، فى مثل هذه الحالات يتعامل الفقه مع أوضاع شاذة وكأنها أمر واقع. فما السبيل لمواجهة هذه المعضلة؟   

د/ طه: أولاً، إذا أردنا رصد معالم واقعنا نحن بوصفنا بقايا أمة مسلمة، سيكون من الصعب جداً توصيف الواقع، لماذا؟، لأن الأصل فى الواقع أنه نمط حياة وسلوك ونظام وروابط تمت صياغتها وفقاً لنموذج ما و انطلاقاً من رؤية كلية للكون، للإنسان، للحياة، ولدور أصحاب ذلك الواقع فى هذه المنظومة الكلية. وهذا مالم يتحقق لأى جزء من أجزاء الأمة المسلمة اليوم. فكل بلد وكل جزء وكل واقع قد أخضع لجملة من المؤثرات قليل منها جداً هو داخلى أو بأيدى أهله، وأكثره بأيدى الخارج، هو الذى يرسم الصورة ، الذى يضعها لهؤلاء الناس، وبعد رسمه للصورة، يقرر أن يسلط كل شئ فى إمكاناتهم ومن إمكاناته، لتحقيق ذلك الواقع الذى رسمه هو أو رسم نموذجه هو. فمثلاً، واقعنا يقول أننا أبناء (شرق أوسط) وصرنا أبناء الشرق الأوسط، بعد أن كنا أجزاء من الدولة العثمانية ترتبط برابطة الإسلام، وعلائق معينة. غير لنا هذا الواقع بسايكس بيكو ، وهزيمة العثمانيين فى الحرب العالمية الأولى، و رسم واقع جديد لم نسهم فيه بأى شئ من الأشياء، إلا بحركة المنفعل، والمنفعل لا يخلق واقعاً، ولا يؤسس لواقع، الفاعل هو الذى يفعل ذلك كله، وحين وجدنا أنفسنا فى ما سمى واقعاً وهو ما يزال مهزوز لأن رفض فطرتنا وعلاقتنا ورؤيتنا الكلية له لا يعطيه الاستقرارولا يمنحه الشرعية ولا يمنحه الدافعية الكافية للاستمرار، وبالتالى بقى واقعاً ليس ذا أصل ثابت، ولكن القوى المستفيدة منه تحاول تثبيته بشكل أو بآخر  أو تبقيه أو أن تطيل فى عمره أو أن تدخل عليه من التعديلات بحسب ما تراه مناسباً لمتغيرات الظروف. وعرفنا بعد أن سمينا بالشرق الأوسط أن هناك وعد بلفور وأن هناك كيان دولة طارئة وهى إسرائيل ستوجد فى المنطقة وتلعب الدور الأكبر فى المنطقة، وبعد أن كنا أمة مسلمة ـ أو عالماً إسلامياً أو دار الإسلام أو جزء منسلخ من الدولة العثمانيه، انتهى كل ذلك ولم يعد له فى تكوين هذا الواقع تأثير.           

المحاور: هل ُرفض هذا الواقع بالفطرة فقط أو بالانفعال، ام كان للفقه دورا في هذا الرفض؟

د/طه: أساساً  هذا الرفض هو بالانفعال حيث أن قدرات الفعل قد سلبت منا، فأصبح الآخر يقوم بالفعل ونحن ننفعل معه. أما الفقه فقد أسس من قبل أعاظم الفقهاء أبو حنيفة مالك الشافعى أحمد بن حنبل وسواهم وذلك للاستجابة لكل المتغيرات الطارئة، وحين أسسوه على هذا الأساس لم يدر بخلدهم أن الأمة ستتحول إلى أمة منفعلة وليست فاعلة ، حيث كانت الأمة الإسلامية هى الأمة والقوة العظمى فى العالم كله، ولم تكن لتتخيل إلى فرق وأجزاء ممزقة الأوصال ومشوهة التكوين، فكان التحدى المطروح هو كيف يجعل المسلم غير منفصل عن الإسلام؟، وكيف يجعل النظام غير منقطع الصلة بالإسلام، وعندما تحولت الخلافة من خلافة راشدة إلى مُلك، انتبه الفقيه إلى هذا وخشى من أن يُحول طغيان الطغاة وزعمات القبائل وطالبى الملك الدين ضحية لمطالبهم، فأوجد مواءمة تكون بإهماله النظام السياسى فى مقابل التركيز على النظام القضائى على أساس إسلامى، فتسامح وتساهل فى النظام السياسى فى مقابل التركيز على القضاء، ففى ظن المجتهد والفقيه أن النظام القضائى هو المسؤول الأول عن إيجاد المشترك الثقافى للأمة، فإذا حافظنا عليه، سنحافظ على ثقافة الأمة التى من الممكن فى لحظة تاريخية معينة أو فى مجال من المجالات أن تؤدى إلى توحد ونهوض الأمة، فأفتى بإمامة المتغلب وقبلها وأفتى بالصلاة خلف أئمة الجور وقبلها وتجاوز لهم عن أشياء كثيرة، إلى أن أصبح الإسلام من الاتساع بحيث يقبل كل أنظمة السياسة التى وجدت فى البوذية والنصرانية واليهودية وغيرها، والتى وجدت الطريق لها فى التاريخ الإسلامى، فالفقهاء كان همهم الأكبر الحفاظ على المشترك بين الأمة وعلى رأسه الثقافة.

المحاور: هل كان  الحفاظ على المشترك الثقافي للأمة مبررا كافيا  للتصالح مع الواقع والاستسلام له ؟

د/طه: لم يكن استسلاماً أو تصالحاً، وإنما كانت التركيبة الفقهية قد جعلت الفقيه يلاحظ مبادئ وأصول الفقه المتمحورة حول المصلحة فى الواقع، حيث لاحظ سد الذرائع ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وغيرها من المبادئ والتى فى إطارها تكونت عقليته، فنجده تحت ضغط موقف ما يقدم (المصلحة) حسبما يتخيل أنها مصلحة، فقد أسس الفقه للإجماع ولم يخلق آلياته، فلم تكن هناك مجامع فقهية تجتمع لتقرير ما تراه مصلحة وما تراه غير ذلك، فأصبح الفقيه-وحده- يفتى ويرى المصلحة من وجهة نظره، ونجد أن هذه العقلية الفقهية قد كونتها مؤثرات مختلفة بعضها منسجم والآخر متناقض، وجعلت الفقيه من المرونة بحيث يقبل الشئ ونقيضه حتى أضحى الأمر بمثابة النكتة؛ فقيل مثلاً أنه ما من شئ إلا وللفقيه عنده حل وفتوى يرجع إليها فيه.

المحاور: تقولون أن هناك قصوراً فى تقويم الفقه للمصلحة، وبالتحديد فى إيجاد آليات وأدوات لتقويمها وتحديدها.

د/طه: نعم فالفقيه قد يصل إلى مصلحة متخيلة، في النهاية المصلحة الحقيقية لا يعلمها إلا الله، فقيل أن الفقه هو ما غلب على الظن.

المحاور: ألا يعنى هذا أن هناك حالة تراجع مستمر عن الرؤية الاسلامية ، طالما أن الفقيه، يتواءم مع الواقع باستمرار دون حد ادنى لهذا التواؤم؟

الأمر محكوم بالوظائف، فالقاضى يتحاكم لديه المتخاصمون وهو يقضى على حسب ظاهر الحجة، وهو مأمور بذلك حتى لو هناك بواطن لا يعلمها، وهكذا الفقيه يفتى حسب السؤال الموجه إليه، أما المعلم الأكاديمى أو الباحث فهو يعرض للآراء ويقررها دون أن يتبنى أياً منها، والحاكم هو الذى يتبنى الأراء التى يقررها الباحث أو يتبنى غيرها فى شكل سياسات، فقضية الصلح مع إسرائيل مثلا ، يقوم الباحث بعرض وإيضاح المصالح والمضار من ورائها، والحاكم يقرر، وهكذا يفعل القاضى حيث يتبنى رأياً فقهياً دون غيره، ونجد أن الباحث  هو وحده الحر حيث يطرح الآراء ويطرح الاحتمالات بشكل حر بحيث يقدم مادة خام للفقيه والقاضى والمفتى يتصرفون حسبها طبقاً للاحتياجات، ومن ثم يقوم هو بصياغة الحلول لقضايا الواقع لا الفقيه.

المحاور: لقد قصرتم دور الفقيه على تقديم الفتوى، أليس هو مسؤولاً أيضاً عن تشكيل الرؤية وصياغة العقول  مثله مثل الباحث الحر؟

د/طه: تشكيل الرؤية وصياغة العقول هو دور الفقيه فى إطار مرجعية ورؤية وكيان وبيئة إسلامية، ففى هذه الحال يصبح الفقيه مرجعية، فالإطار الإسلامى يضعه فى هذه المثابة مثابة المرجع، أما فى واقعنا الحالى الفقيه هو مجرد وكيل فى وزراة العدل أو ما يشبه ذلك ..يقوم بالتصديق على الإعدامات، أما القاضى فينظر فى الأحوال الشخصية وإذا ما نظر فى غيرها يقال أنه يحكم بغير الاختصاص، أما القضايا المرجعية الحقيقية المتعلقة بالأمة كقضايا فلسطين وقضايا الحكم والدولة والقانون فلا يمارس دوراً فى تشكيلها، ودوره المرجعى هو دور تاريخى، فحينما يطالب المفتى بلعب دورالمرجع بسبب الصورة التاريخية له حينما كانت الأمة موحدة والدولة الإسلامية هى الأولى عالمياً وتعطى الفقيه الدور الأكبر وتسميه شيخ الإسلام والصدر الأعظم تمنحه الألقاب وتحمله سلطة البرلمانات اليوم، فكان برلماناً عندما يمارس دوره، فحينما نطالبه بما كان عليه فهو لا يملك هذا الآن، فالفقهاء الآن يتظاهرون لأن مرتباتهم لا تكاد تكفيهم شراء الخبز وحده.

المحاور: أعتقد أنكم تتحدثون عن الفقهاء المؤطرين بإطار السلطة أو الموظفين لديها، ولكن هناك فقهاء خارج الإطار وهم يمارسون دوراً أكبر من مجرد الإفتاء!، مثل هؤلاء العلماء يتحركون بحرية أكبر وقادرين على القيام بدورهم فى تشكيل الثقافة وصياغة العقول.

د/طه: نعم هناك خطباء يتمتعون بقدر من الجرأة يتناولون  موضوعات ساخنة لا تقدر على تناولها الصحف ووسائل الإعلام العادية  فيذكِّرون المستمعين  بشئ من الصورة التاريخية للفقيه المرجع فيكسبون احترام الناس وتتعلق بهم الآمال . ولكن عندما تحدث مواجهة مع السلطة يتخلى عنهم الجميع، على عكس الحال عند الشيعة لننظر إلى السيستانى مثلاً فى العراق، السلطة ترجع إليه والقادة يأخذون رأيه، وولاية الفقيه جعلت من الفقهاء سلطة فوق السلطة، أما الفقيه السنى لا يملك مرجعية ولا بطيخ، فهو مجرد إمام مسجد راتبه بضع مئات من الجنيهات .. يزيد قليلاً لو أصبح إمام مسجد كبير ويخضع للرقابة والتفتيش.

المحاور:  اذن لقد وضعت مسؤلية تكوين المرجعية على الأمة.

د/طه: نعم بالطبع  فالأمة هى التى تقوم ببناء قياداتها، وهناك جدلية تفاعلية بين القيادة والأمة، فإذا كان لدى شخص ما الاستعداد للقيام بعبء القيادة فعلى الأمة أن تدعمه، أما الآن فالأمة تتخلى عن دورها والفقيه الجرئ هو مجرد فرد، إذا ما تحدث فى الشأن العام لا أحد يدعمه ..بمقدور مدير الشرطة أن يطيح به فيدمر مستقبله وتشرد عائلته ولا أحد من الناس يعولهم أو يتكفل بهم، وبعد قضاء فترات الاعتقال يعود مثل هذا الفقيه وقد تبدل إلى شخص آخر نادم على حديثه فى الشأن العام.

المحاور: ولكن تاريخنا الإسلامى مليئ بمن يقف فى مواجهة السلطة ويجد عنتاً واضطهاداً.

د/طه: كان هناك الوقف، وعندما كانت مالية الفقيه الذى كان له بيت ومال وخدم من وقف على مدرسته يقوم بتمويله التجار الموسرين وأهل الخير، بحيث يعيش الفقيه معززاً مكرماً لا يمد يده للسلطة بل يمد قدميه، كما حدث مع أحد علماء الشام والحاكم الفرنسى فى دمشق الذى استدعى العلماء إليه، فجاؤوا كلهم إلا بعضهم، فسأل عن الغائبين وذهب إلى أحدهم فوجده فى مدرسة يديرها ويجلس بين تلاميذه ماداً رجله، وعندما مثل أمامه الحاكم الفرنسى ظلت رجله ممدودة، ولما سأله الأخير عن أحواله وعرض عليه مالاً قال له الشيخ: خذ معك مالك فمن يمد قدميه لا يمد يديه.                                             

 أما الآن وقد أخذ الوقف من الفقهاء وأصبحت أحوالهم وأسرهم مزرية وقد قطعت صلاتهم بالناس فالحال مغاير، فقد كان الوقف هو ما يربى الاستقلالية عند العالم. الآن تقدر ثروة السيستانى بما يتراوح من 10 إلى 15 بليون يستثمرها فى كافة مجالات الأعمال، وله جامعتان فى قم والنجف ينفق على طلابها وتغطى ثروته نفقاتهم  وذلك من خمس الزكاة، أما العالم السنى فلا يملك هذه الميزة بعد أن سلبت منه أوقافه.

المحاور: هل كان هذا الحال فى قضية أحمد بن حنبل

د/طه: نعم فالوقف والمحسنون هم من وقف وراءه وقد استقوى بتلاميذه الذى كانوا يرابطون عند محبسه ينتظرون كلمة منه يدونونها.

المحاور: بالفعل هى جدلية تفاعلية، فإذا كانت الأمة بحاجة إلى مرجعية يجسدها الفقهاء، فهى من يكوِّن ويدعم هذه المرجعية، وهى الآن غير قادرة على القيام بهذا الأمر.

د/طه: الأمر يحتاج فى النهاية إلى أمة عندها تصميم على أن يكون لها مرجعية وتحيط هذه المرجعية بما ينبغى لها من احتياجات وتقدير.

المحاور: ومن عليه إذن الدور فى بث  هذه الروح فى الأمة إذا ما فترت كما تصفون

د/طه:  في جميع الأحوال لن يكون الفقيه ..فالفقيه هو موظف فى وزارة الأوقاف أو ديوان الوقف السنى أو الشيعى و هو فى النهاية محكوم بالدولة التى تعلو وتعلو تلاميذه وباستطاعتها أن تحجم دوره وتقمعه.

المحاور: هناك نماذج قامت بتكوين تيار خاص بها والتأثير فى محيطها من خارج إطار الفقهاء، كعمرو خالد مثلا الذى خلق حالة مست الواقع بقدر كبير.

د/طه: كما قلت فى بداية الحديث أن الواقع الذى نعيشه لم نخلقه نحن، وجزء مما يقتضيه هذا الواقع عمليات تنفيس، وعمرو خالد ليس مرجعاً وإنما شاب جيد يتحدث ويتواصل مع الشباب ولو حدث و وقف موقفاً واحداً وتم اقتلاعه لن يدافع عنه أحد وهو ما حدث بالفعل، فهذا واقع يخلقه آخرون. ومثل هذه الحالات هى لمجرد التنفيس عن الواقع المأزوم والمختنق. والمثل على المرجعية دور السيستانى، فأزمة العراق حالياً هى فى تشكيل الوزارة والكل ينتظر بركة السيستانى ويقبل يده ليأخذ منه الموافقة، إلا أنه يقف بمسافة متقاربة من الجميع، هذه هى المرجعية عندما تلجأ السلطة السياسية للفقيه، وهو ما شاهدنه أيام بريمر الحاكم الأمريكى للعراق بعد الحرب الذى كثيراً ما لجأ للسيستانى وجلس على الأرض أمامه ليتدخل فى الأزمة المتلاحقة، أقول أن الذى أعطى هذا الدور للسيستانى هم الناس الذى يدعمونه ويلتفون حوله.

المحاور: نود أن نسأل عن قاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، هل تؤدى مثل هذه القاعدة الفقهية إلى شيوع السلبية فى الأمة؟  فهي  تعبير عن  العقلية المنسحبة ؛ عقلية المسلم الذى يكتفى بعدم ارتكاب المحرمات ولكنه لا يقوم بما هو مأمور به وما يجب عليه فعله.

د/طه: هذه القاعدة في المواقف التي يحدث فيها تعارض بين جلب المصالح ودرء المفاسد فيقدم درء المفاسد على جلب المصالح . أما بالنسسبة لشيوع السلبية   فنعم.. المسلم بشكل عام  فاقد للفاعلية، و لكن دور الفقه فى هذا محدود للغاية، فهذا الفقدان هو نتيجة لتربية طويلة ساهم فيها علم الكلام والجدال عن الجبر والقدر الذى جعل من الفعل الإنسانى فعلاً مضطرباً ومشوشاً، وهناك أيضاً دور يتعلق بالعقيدة والرؤية، أما الفقه فقد سوغ هذا الفقدان، فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مرتبط بقدرات معينة فإذا لم تتوافر لدى الفرد فهو غير مطالب به، وهكذا كان الحال إذا ارتكب السلطان جريمة أو اجترح محرمة، والفقه يحمل دوراً أقل بكثير من دور علم الكلام فى هذا الصدد إلى جانب دور التفسير والحديث والتربية والأسرة والتعليم وغيرها من عوامل، والفقيه دوره محدود ومهمش، ولكنه يظل جزءاً من المنظومة التى تحرك الفاعلية فى الأمة.

المحاور: إذن مرة اخرى انتم  تجعلون الدور الأكبر فى الفاعلية للأمة كلها بكافة فئاتها.

د/طه: إيجاد الأعذار للأمة أسوأ من إيجاد الأعذار للفقهاء، فهم مجرد فصيل فى الأمة، والأمة هى التى تحتاج إلى عمليات إيقاظ وهذا الإيقاظ لا يحتاج مجرد فتى وفتوى، فأحسن أحوال التعليم لا يلعب فيها المعلم دوراً يزيد عن 10% وبقية العملية تتوزع على وسائل التعليم والإيضاح والأسرة والكتاب وغيرها من العوامل، فالمسؤولية موزعة على هذا وذاك، وإذا ما تحدثنا عن عملية إعادة بناء وعى الأمة؛ نجد أن الفقهاء يلقون 50 خطبة جمعة فى السنة وهى وفقاً لمقرر، وإذا ما حضر المرء فى حياته 5000 خطبة فى حياته كلها، سيكون هذا المقرر كفيلاً بجعله كمن يدرس فى الدراسات العليا، ورغم هذا نجد أن المنظومة المحيطة بها خلل.( ولا تأثير يذكر لهذه الخطب)

المحاور:   خطبة الجمعة مؤثرة : بعض المفكرين كمصطفى محمود تحدث عن دور خطبة الجمعة فى حياته وأثرها فى أفكاره.

د/طه: هناك حالة تأثير والخطبة قد تمثل شرارة، هذه الشرارة إذا ما التقت مع منظومة متكاملة وصالحة تنتج حالة تفاعل وفعل.

المحاور: تعنى أن عملية إيقاظ وعى الأمة عملية تضامنية وأن للفقيه مجرد دور، فماذا عليه أن يفعل؟

د/طه: سأضرب لك مثلاً،قضية مياه النيل التى ثارت مؤخراً بين مصر ودول المنبع، إذا ما تناولتها أستاذ متخصصة فى العلاقات الدولية ، فإنها ستتحدث عن الأمر يتعلق فى المقام الأول بفشل مصر فى بناء علاقاتها الدولية مع دول المنبع وهنا يأتى دور وزارة الخارجية ومؤسسة الرئاسة، فعلى هذه الأجهزة أن تعيد النظر فى هذه العلاقات لتتحاشى مصر الخطر القادم على الأجيال القادمة وزراعتها وصناعتها ومعيشتها، أما الفقيه فلن يتحدث من هذا المنظور، وإنما عليه أن يؤيد الرأى المتخصص، وأن يدعمه وذلك من خلال تقديم الحكم الشرعى المساند لهذا الرأى المتخصص وذلك من منطلق أن شيئاً ضرورياً إذا لم يفعل بطريقة معينة سيشكل تهديداً لحياة الإنسان والنبات والحيوان.

المحاور: ولكن، ألا توجد رؤية موحدة  للنهوض الحضارى لدى الفقهاء؟

د/طه: لا توجد مثل هذه الرؤية، لأنهم موظفون، فالفقهاء فى مصر يشكل رؤيتهم شيخ الأزهر، وعندما يتخرجون تتلقفهم وزارة الأوقاف وتضع أمامهم رؤية، ولا يستطيع الخروج عن إطارها.

المحاور: إذا لم تكن هناك رؤية فكرية موحدة لدى الفقهاء، ألا توجد مدرسة فكرية إسلامية حضارية متفقة على أهداف نهضوية.

د/طه: للأسف، أغلب المدارس الإسلامية منخرطة فى الإسلام السياسى لا الثقافى والحضارى والاجتماعى الهادف لإعادة بناء الأمة، والأخوان المسلمون والتيار السياسى بصورة عامة يعتقدون أنه إذا ما تسلموا السلطة ستنصلح كل الأمور، إلا أنهم إذا ما حازوا السلطة سيصبحون أسوأ من النماذج الموجودة فى الحكم. أما الإسلام الثقافى فهو منقسم بين اتجاهات السلفية والصوفية والإصلاحية وغيرها، وكل منها ينفرد برؤية خاصة.

المحاور: هل  ترى أن هذا التشتت بين الاتجاهات الفكرية كل على حدى هو الذى سبب التشتت فى طريقة تعاملنا مع الواقع. وما السبيل لتكوين مثل تلك الرؤية؟

د/طه:  نعم . لا يوجد بالأساس هم فكرى لتكوين رؤية موحدة للمستقبل ، والحل هو أن الأمة كلها عليها أن تستعيد تعاليم القرآن الكريم التى تُجمع عليها، فلا أحد يعمل الآن على استخلاص حلول للمشكلات المعاصرة من القرآن . رغم أن القرآن  فيه تبيان لكل شئ ، والعلاقة بين الأمة والقرآن علاقة فاترة، ونحن بحاجة إلى إعادة الصلة بينهما، فالذي يعيد للامة فاعليتها هو القرآن الكريم ؛ عندما نعرض عليه المشكلة ونقول : هذه امتك أصابها الفتور ونريد ان نحييها بك هل سيعطينا حلول ؟ أقول نعم .. سيعطينا بدايات ويعطينا نهايات؛ ومن البدايات الأولى : ادراك قيم القرآن العليا والأساسية وبناء مشروع (رؤية) نهضوي عليها وليس على التراث الاسلامي ؛ فالتراث ادى دوره ويبقى رصيد لنا نرجع اليه وننتقي منه ، نحن نحتاج ان نعود للتعامل مع القرآن مباشرة وبتدبر؛ مثلاً: هل يسأل أحدنا  نفسه لماذا أسهب القرآن فى الحديث عن بنى إسرائيل وبأدق التفاصيل العقلية والنفسية والحياتية ، حتى أكثر من الحديث عن المسلمين أنفسهم، أعتقد أن القرآن يقول لنا أن هذه الأمة هى التى سنصترع معها عبر التاريخ إلى يوم القيامة، وأيضاً ألا يمكننا استخلاص مؤشرات لكيفية الانتصار على إسرائيل من القرآن ، إن أحداً من علماء السياسة لم يعنى بهذه المؤشرات، فقط كتب الشيخ محمد سيد طنطاوى عن بنى إسرائيل فى القرآن، وقدم عبد الوهاب المسيرى موسوعته عن اليهود واليهودية، وأعتبر أن ما توصل إليه هو ذو جذور قرآنية، والدكتور حامد ربيع انطلق فى كتاباته عن الحروب بين العرب وإسرائيل من التراث، وكتاباته هذه تعد من أفضل ما كتب، أما ما امتازت به منى أبو الفضل عن حامد ربيع أنها اعتمدت على القرآن الكريم وكتبت من خلاله عن مصادر التنظير وكيفية الاعتماد على القرآن فى بناء النظرية السياسية والعلوم السياسية، لكن أحداً لم يبن على ما بدأته أو يقوم بإتمامه، وكذلك الحال مثلاً فى النظم السياسية هل استطعنا ان نقدم بدائل من القرآن  للنظم السياسية التي ننتقدها فالقرآن يوجد به نموذج الظاهرة الفرعونية فى الحكم .

المحاور: اذن تدعون إلى تقديم رؤية  نهضوية نابعة من القرآن . فما رأي سيادتكم في  تجربة تركيا؟ ألا تبدو هذه الرؤية واضحة في ذلك النموذج ؟

أفضل ما عملته تركيا أو مدرسة جول هو خلخة أركان النظام العلماني . . ولم يكن ذلك ممكنا لولا الحفاظ على القرآن في الصدور طيلة فترة العلمانية .

المحاور: ما دور الفقه تحديداً فى  الخروج من حالة السكون والفتور في ظل عدم الفاعلية للأمة؟

د/طه: الفقهاء أنفسهم  هم جزء من  هذا الواقع المنقسم الذي نعيشه وننتقده ، فقد وضعوا فى دائرة العلماء التراثيين الغارقين فى التراث، وعلماء الاجتماعيات في الجانب الآخر غارقون فى المعاصرة، ولكن لا يوجد علماء القرآن الذين يتعاملون مع القرآن ككتاب هداية واستخلاف وبناء للكون، فالقرآن أُنزل ليكون قائداً فى الاستخلاف، والاستخلاف يشمل السياسة والدولة وكل شيء.

المحاور: نعم يشمل هذا كله ولكن ليس كل الفقهاء يقولون هذا ؛ ففي احيان كثيرة نجد الفقه يأخذ دورا تبريرياً للواقع وتابعا له.

 نعم هذا يحدث .. و لكن متى صار له هذا الدور التبريري ؟ عندما غابت الامة ..هناك مثال على ذلك في القرآن عندما تحدث عن اهل الكتاب :

  “ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى وإنهم  إلا يظنون ، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.”[1] ، ألا ينطبق هذا على علماء السلطان ؟ ومثلاً هؤلاء الفقهاء الذين يشغلون المجتمع بقضايا رضاع الكبير والصغير وغيرها من القضايا ألا يعدون من هؤلاء، والله يقول  في بنى إسرائيل أنهم “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا اله إلا هو سبحانه عما يشركون “[2]، هذه إشارة إلى ضرورة عدم اتخاذ الفقهاء مرجعاً يشرع، وعندما يكون الأمر هكذا سيكون له اعتبار شيطانى، الأمة هي حامية الشريعة وليس الفقهاء وحدهم.   

المحاور:  إلى أن يحدث أن تقوم كل فئة من الأمة بواجبها ، هل سيظل دور الفقيه يقوم بدوره الطبيعى فى مجرد الاستجابة للمتغيرات دون تجاوز هذا؟

د/طه: دعك من الفقه، انظرى مثلاً إلى المحامين والقضاة، يساهمون فى تغيير القانون؛ فالقانون يستجيب إلى المتغيرات الواقعية الجديدة، وهذه هى مهمة الفقه فى العصر الحالى.

المحاور: ولكن دور الفقيه تاريخياً كان يتجاوز دور الموائمة ومجرد الاستجابة للمستحدثات.

فى الأصل، كل ما تحتاجه الأمة الآن هو الموائمات، فمثلاً: إذا احتاج شخص ما إلى شراء بيت أو سيارة وذهب إلى الفقيه ليسأله عن القرض البنكى سيجد أن الجواب سلبياً دون أن يطرح أمامه الفقيه حلاً بديلاً، إلى أن تحدث ضغوطات من المجتمع والسلطة ويضطر الفقيه إلى تحليل الفوائد البنكية، وقديماً، كانت الأمة تقوم بالإقراض الحسن والإحسان والمنح، أما الآن فالأفراد لا يساعدون بعضهم البعض والمشاعر الإسلامية بينهم غائبة، لذلك يلجأ الأفراد إلى البنوك، وفى النهاية هذه موائمة لا يختارها الفرد، أى أن الواقع الذى يتحرك فيه الفقيه ليس من صنعه وهو لا يفهم مفاهيم الاقتصاد والتضخم والفوائد والربا، فهذه مفاهيم من خارج ثقافته، والموائمة التى يصنعها ليست من اختياره أو إرداته.

المحاور: وفي ظل هذه البيئة الضاغطة  ألا يبقى هناك أي دور مقاوم  للفقه؟

د/طه: هذا الدور المقاوم قليل وضعيف، وغالباً ما تستغله الجماعات الجاهلة والمتطرفة والمتعصبة ، ونحن نعيش حالياً حالة من الافتئات على الأمة، فلم تعد الأمة كمحضن نرجع إليه وإنما صار أى شخص قادر على الصراخ والقول أنه يتحدث باسم الأمة.

المحاور: فى النهاية كيف يمكننا الوصول إلى وضع المقاومة وعدم الاستسلام التام للمتغيرات المفروضة علينا؟

د/طه: علينا العمل على جعل بعض الناس يستغنون عن السلطة ومال السلطة، وأعنى بهؤلاء الرموز من الفقهاء.

المحاور: أى أن هذه المعادلة تتحق عندما يكون للفقهاء استقلالية مادية ومعنوية عن السلطة؟

د/طه: هذا صحيح، وهنا يأتى دور الوقف وتغطيته للعلماء والفقهاء والدارسين والمدارس والأربطة.

المحاور: ولكن الوقف مادى بالأساس، فهل هو كافٍ؟

د/طه نعم الوقف مادىّ، ولكنّه يؤكد الشعور بالاستغناء والاستقلال عن السلطة والفقيه من خلاله لا يكون مجبراً على الخضوع للسلطة، والإرادات الخارجة عن فقهه ووعيه. لقد أحصيت عددًا هائلا من الفتاوى التي صدرت خلال القرون الثلاثة الأخيرة فوجدت فيها العجب العجاب من الفتاوى التي يسميها بعضهم حكمة واستجابة للواقع والمتغيرات ويسميها آخرون تراجعًا وخضوعًا للضغوط ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ (السجدة: 25).

    

                                              

[1] سورة البقرة ، 78،79

[2] سورة التوبة ، 31

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *