المشهد الثقافي والفكري الراهن
لا يقل مأساويةً واضطراباً عن نهاية القرن التاسع عشر
د. طه جابر العلواني
أجرى الحوار الأستاذ صبحي غندور مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
كيف تقوّمون المشهد الثقافي العربي الراهن؟ وهل استطاع المفكّر العربي أن يتغلّب على أسئلة وسجالات سلفه في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أم أنّه لمّا يزل يكرّر ذاته عبر إعادة إنتاج تلك الاستفهامات من دون أن يلج عتبة الإبداع والتأسيس؟!
هذا السؤال، أجاب عنه الدكتور طه جابر العلواني (رئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فرجينيا) في إطار جوابٍ فكري شامل، نقتطف منه لهذا العدد ما يلي:
الواقع العربي الراهن واقع مأساويّ، والحقائق الموضوعيّة التي تحيط به لا تسمح بإزاحة دواعي اليأس وعوامل الإحباط من طريق العقل والنفس، والمفكّر ابن بيئته لا ينفصل عنها حتى لو اتجه نحو اللاانتماء لا سمح الله. والأمّة القطب التي تكوّنت وتشكّلت بنور هداية القرآن المعجز الخالد تعيش حالة أزمة حقيقية لم يعد جانبها البرّاني إلا أخفّ جوانبها. أمّا جانبها الجوّاني فهو قاتم مظلم يحتاج إلى حفر ذهني عميق، وبعيد الغور في تجاويف الدماغ العربي والعقل العربي والنفس العربية ليصل إلى أعماق الأزمة ويحيط بها لعلّه يتمكّن بعد ذلك من تبيّن معالم الخروج منها أو تجاوزها.
والمشهد الثقافي والفكري الذي يمكن لواقعٍ كهذا أن يفرزه لا شكّ أنّه مشهد لا يقل عنه مأساويةّ واضطراباً. فبعد سائر ضروب الإخفاق التي شهدتها الأمة في الساحات المختلفة، شهدت إفلاساً فكريا تمثّل بفشلٍ ذريع لما يلي:
فشل النظريات القومية التي اقتُبست من الغرب – حيث أخفقت فكرياً وعمليّاً في بناء دولة عربية أو دول لها من الخصائص ما يجعل منها كيانات متينة سواء منها تلك التي لاحظت بعض الخصوصيات العربية والإسلامية، أو تلك التي تجاوزت تلك الخصوصيات.
فشل النظريات الاشتراكية ماركسية كانت أو غيرها، حيث أخفقت وفشلت كلها في إيجاد أي نموذج مقبول، وحطّمت وهي في طريقها إلى الصعود ثم الهبوط كثيراً ممّا كان قائماً من البنى التحتية، وحطّمت جملة من العلاقات التي كانت تربط بين أجزاء مجتمعاتنا القديمة.
كما أنّ محاولات تطبيق ليبرالية محدودة في إطار رأسمالي فشلت فشلاً لم يكن بأقل من فشل الماركسية وغيرها وسرعان ما أفسحت المجال إلى انقلابات عسكرية أتت على مقدّرات البلاد والعباد، وحوّلت فصائل الأمّة إلى ما يشبه القطعان السائمة تحمل عقلية عوام وطبيعة قطيع ونفسية عبد.
بعد تلك الإخفاقات كلها بدت “الحركات الدينية” المنطلقة من تحت مظلّة “الصحوة” تنادي بأنّ “الإسلام هو الحل”، وأقبلت الجماهير عليها منتظرة ذلك الحل. وقدّمت أفكاراً كثيرة ركّز بعضها على تطبيق الشريعة وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود. وبدأ البعض الآخر يبحث عن صِيَغٍ توفيقية مع ما كان يرفضه من قبل جملةً وتفصيلا. وحُطِّمت بعض المحاولات قبل أن تبدأ. وبعض المحاولات استطاعت أن تقف على قدميها في حدودٍ وحتى حين. وبقي الواقع العربي التقليدي واقفاً في الوحل بثبات يتضاحك ساخراً من سائر المحاولات التغييرية ومنطلقاته، ويعلن للجميع أنّه قادر على استلاب أيّة أفكار إصلاحية وتحويلها إلى وسائل تعزّزه. فواقعنا كمن يحمل مكروباً ضخماً متوحشاً يلتهم كلّ شيء يقدّم له حتى الدواء فإنّه يغيّر طبيعته ويستولي عليه ويحيله إلى غذاء له يعزّز وحشيته وعنفوانه؛ لأنه واقع لم تكتشف حقيقته بعد، ولم تعرف مركّباته، ولا القوانين التي صاغت تلك المركّبات. فالمركّبات الطائفية والعشائرية والإقليمية، والأيديولوجيات الموروثة والحادثة تعزّز من الانحرافات وعوامل التفكيك في الواقع الاجتماعي والتاريخي بشكل ما يجعل هذا الواقع المرير أقوى وأعتى من كل ما يقدم له من حلول. فما الحلّ؟
قبل أن تدفعنا عقلية “التقليد” إلى البحث عن الحلّ الجاهز –كما فعلت في السابق- أودّ أن أؤكد بأننا، جميعا، مهما كانت انتماءاتنا الفكرية والأيديولوجية أو العشائرية أو المذهبية أو الإقليمية وحتى القومية: مطالبون برفع درجة التوتر والقلق في نفوسنا إلى مستوى يسمح بالقيام بمراجعات جادة ومخلصة لمحاولاتنا وآرائنا وأفكارنا، وإعادة طرح السؤال العتيد “أين الخطأ وأين الحل” من جديد، إذ قد أثبت الواقع أنْ لا أحد أحاط بالحقيقة. فذلك من أكثر الأمور المساعدة فاعليّة في تبيّن معالم المشهد الذي نعيش فيه ورسم مختلف أبعاده.
لننتقل إلى الفقرة الثانية من السؤال، وهي المتعلقة بمدى استطاعة المفكر العربي المعاصر التغلب على أسئلة وسجالات سابقيه من مفكري القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهل لا يزال يكرّر أسئلة سابقيه أو أنّه أجاب عنها ودخل في مرحلة إبداع وتأسيس؟
وللإجابة عن هذا الشق من السؤال نقول:
إنّ المفكر العربي المعاصر كثيراً ما نقد فكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وزملائهما ونظائرهما واعتبره فكراً قاصراً قائماً على المقاربة والتوفيق، وأحياناً يتّسم بالتلفيق، وأنّه لذلك قد عجز عن إحداث نقلة نوعية. وقبل الدخول في مناقشة هذا الرأي وتحليل أفكار الشيخين لمعرفة ما إذا كان فكرهما وفكر زملائهما توفيقاً مقارباً أم لا، أود أن أبادر إلى القول بأنّ ممّا يلفت النظر، ويستدعي الفِكَر، أنّ “خطاب النهضة” أو التجديد –في الواقع العربي الراهن- لم تكتفِ نخبة شعوبنا بترديد أسئلته وتكرار إشكالاته، واجترار قضاياه فحسب، بل إنّ هناك تراجعاً ملموساً، لا على مستوى الإجابة عن تلك الأسئلة والإشكالات فقط أو على مستوى تقديم أفكار بديلة، بل على مستوى صياغة الأسئلة نفسها وبلورة الإشكالات ذاتها.
فالأسئلة التي أثارها الإصلاحيون أمثال النائيني والكواكبي والأفغاني
ومحمد عبده ورشيد رضا ونحوهم، ثمّ الجيل الذي جاء بعدهم أمثال شكيب أرسلان وحسن البنّا والكاشاني وأمثالهم، لم تعد الأجيال المعاصرة قادرة على صياغتها بالمستوى نفسه الذي عهدناه من جيل الإصلاحيين. وما أخطر الأزمة حين يبلغ فيها ما يسمّى “بالاستبسال الدائري” حدّ الاضطراب في إعادة السؤال والعجز عن ترديده كما هو، إذ أنّ ممّا لم يعد فيه مجال للشك أنّ استفحال الأزمة قد بلغ من الانتشار والعمق حدّاً جعلها أزمة غير مفهومة لمن هو مصاب بها وغير واضحة بحيث لم يعد قادراً على صياغة أسئلته حولها!!
إنّ الجيل الذي مهّد للإصلاحيين صاغ “سؤال التجديد والاجتهاد” ثم جاء الإصلاحيون فصاغوا سؤال “الاستبداد والإخفاق التربوي”، ثم جاء شكيب أرسلان ليصوغ ذلك كلّه في سؤال واحد:” لِمَ تأخّر المسلمون ولِمَ تقدّم غيرهم”؟، ثم جاء حسن البنّا ليقدّم لحاكم مصر في وقته “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي”، وليقدم للأمّة “الأصول العشرين”، أمّا من جاءوا بعد ذلك (عدا الإمام الخميني الذي يمكن أن يُخصّ ببحث خاص) فقد تلعثموا في صياغة تلك الأسئلة التي كانت واضحة عند السابقين. إنّني أبادر وأقول ليس التشاؤم أو النظرة السوداوية هما اللذان يفرضان عليّ هذا القول، بل هو الواقع الذي سأدلّل عليه بما لا يدع في نفسك قارئي العزيز مجالاً للشك فيما أقول.
لقد أشرت إلى أنّ الأستاذ البنّا قد صاغ “الأصول العشرين” فما الذي أضافه أو حذفه خلفاؤه من بعده؟. أربعة من كبار علماء الحركة والمتصلين بها، أكنّ لهم كلّ الحب والتقدير، لم يجدوا إلا أن يشرحوا حول هذه الأصول لتصبح متناً له شرح. فقد شرحها شيخنا الحبيب الراحل الشيخ محمد الغزالي في كتابه “دستور الوحدة الثقافية”، وشرحها أخونا الحبيب الشيخ يوسف القرضاوي –أمدّ الله في عمره- في كتابه “شرح الأصول العشرين”، وكثير من كتبه عالجت هذه الأصول وبنيت عليها، كما شرحها الشيخ سعيد حوى، رحمه الله، ثم الصديق العزيز الدكتور علي عبد الحليم محمود.
ولا تزال أفكار “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي” التي قدمت إلى مصطفى النحاس باشا في الأربعينات مسيطرة على مفاصل الخطاب الأخواني إلى عبد الناصر والسادات ثم حسني مبارك. “فالإسلام هو الحل” –في نظري المتواضع- هي العبارة المطورة ل”مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي”، بل إنّ “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي” للشيخ البنّا أدق وأحوط ، وأرجو أن أفهم جيداً: إنني هنا لست في معرض نقد ولا تقييم لفرد أو جماعة، بل في معرض إجابة عن سؤال محدد هو ما ذُكر في بداية هذه الدراسة – فإنّني باعتباري باحثاً متواضعاً أحاول أن أجيب عن هذا السؤال بقدر فهمي له وللإشكال الذي يثيره، وإعطاء الأمثلة إنّما هو للتوضيح لا للنقد أو الانتقاص من أحد. وهو لوصف حالةٍ قائمة أولاً وأخيراً، كلّنا معنيّون بها.
=====================================================
(يتبع في العدد القادم)
[في الجزء الثاني، ينشر الدكتور طه جابر العلواني محضر “الاجتماع السابع” من اجتماعات جمعية “أم القرى”، والذي لخّص المجتمعون فيه ما سمّوه بسبب “الفتور” في هذه الأمّة. وهذا النص منقول عن كتاب “أم القرى” للكواكبي].
“مأساوية المشهد الثقافي والفكري الراهن” – 2
المشهد الثقافي والفكري الراهن لا يقل مأساويةً واضطراباً عن نهاية القرن التاسع عشر
(د. طه جابر العلواني)
كيف تقوّمون المشهد الثقافي العربي الراهن؟ وهل استطاع المفكّر العربي أن يتغلّب على أسئلة وسجالات سلفه في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أم أنّه لمّا يزل يكرّر ذاته عبر إعادة إنتاج تلك الاستفهامات من دون أن يلج عتبة الإبداع والتأسيس؟!
هذا السؤال، أجاب عنه الدكتور طه جابر العلواني (رئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فرجينيا) في إطار جوابٍ فكري شامل، نقتطف منه الآتي:
الواقع العربي الراهن واقع مأساويّ، والحقائق الموضوعيّة التي تحيط به لا تسمح بإزاحة دواعي اليأس وعوامل الإحباط من طريق العقل والنفس، والمفكّر ابن بيئته لا ينفصل عنها حتى لو اتجه نحو اللاانتماء لا سمح الله. والأمّة القطب التي تكوّنت وتشكّلت بنور هداية القرآن المعجز الخالد تعيش حالة أزمة حقيقية لم يعد جانبها البرّاني إلا أخفّ جوانبها. أمّا جانبها الجوّاني فهو قاتم مظلم يحتاج إلى حفر ذهني عميق، وبعيد الغور في تجاويف الدماغ العربي والعقل العربي والنفس العربية ليصل إلى أعماق الأزمة ويحيط بها لعلّه يتمكّن بعد ذلك من تبيّن معالم الخروج منها أو تجاوزها.
والمشهد الثقافي والفكري الذي يمكن لواقعٍ كهذا أن يفرزه لا شكّ أنّه مشهد لا يقل عنه مأساويةّ واضطراباً. فبعد سائر ضروب الإخفاق التي شهدتها الأمة في الساحات المختلفة، شهدت إفلاساً فكريا تمثّل بفشلٍ ذريع لما يلي:
فشل النظريات القومية التي اقتُبست من الغرب – حيث أخفقت فكرياً وعمليّاً في بناء دولة عربية أو دول لها من الخصائص ما يجعل منها كيانات متينة سواء منها تلك التي لاحظت بعض الخصوصيات العربية والإسلامية، أو تلك التي تجاوزت تلك الخصوصيات.
فشل النظريات الاشتراكية ماركسية كانت أو غيرها، حيث أخفقت وفشلت كلها في إيجاد أي نموذج مقبول، وحطّمت وهي في طريقها إلى الصعود ثم الهبوط كثيراً ممّا كان قائماً من البنى التحتية، وحطّمت جملة من العلاقات التي كانت تربط بين أجزاء مجتمعاتنا القديمة.
كما أنّ محاولات تطبيق ليبرالية محدودة في إطار رأسمالي فشلت فشلاً لم يكن بأقل من فشل الماركسية وغيرها وسرعان ما أفسحت المجال إلى انقلابات عسكرية أتت على مقدّرات البلاد والعباد، وحوّلت فصائل الأمّة إلى ما يشبه القطعان السائمة تحمل عقلية عوام وطبيعة قطيع ونفسية عبد.
بعد تلك الإخفاقات كلها بدت “الحركات الدينية” المنطلقة من تحت مظلّة “الصحوة” تنادي بأنّ “الإسلام هو الحل”، وأقبلت الجماهير عليها منتظرة ذلك الحل. وقدّمت أفكاراً كثيرة ركّز بعضها على تطبيق الشريعة وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود. وبدأ البعض الآخر يبحث عن صِيَغٍ توفيقية مع ما كان يرفضه من قبل جملةً وتفصيلا. وحُطِّمت بعض المحاولات قبل أن تبدأ. وبعض المحاولات استطاعت أن تقف على قدميها في حدودٍ وحتى حين. وبقي الواقع العربي التقليدي واقفاً في الوحل بثبات يتضاحك ساخراً من سائر المحاولات التغييرية ومنطلقاته، ويعلن للجميع أنّه قادر على استلاب أيّة أفكار إصلاحية وتحويلها إلى وسائل تعزّزه. فواقعنا كمن يحمل مكروباً ضخماً متوحشاً يلتهم كلّ شيء يقدّم له حتى الدواء فإنّه يغيّر طبيعته ويستولي عليه ويحيله إلى غذاء له يعزّز وحشيته وعنفوانه؛ لأنه واقع لم تكتشف حقيقته بعد، ولم تعرف مركّباته، ولا القوانين التي صاغت تلك المركّبات. فالمركّبات الطائفية والعشائرية والإقليمية، والأيديولوجيات الموروثة والحادثة تعزّز من الانحرافات وعوامل التفكيك في الواقع الاجتماعي والتاريخي بشكل ما يجعل هذا الواقع المرير أقوى وأعتى من كل ما يقدم له من حلول. فما الحلّ؟
قبل أن تدفعنا عقلية “التقليد” إلى البحث عن الحلّ الجاهز –كما فعلت في السابق- أودّ أن أؤكد بأننا، جميعا، مهما كانت انتماءاتنا الفكرية والأيديولوجية أو العشائرية أو المذهبية أو الإقليمية وحتى القومية: مطالبون برفع درجة التوتر والقلق في نفوسنا إلى مستوى يسمح بالقيام بمراجعات جادة ومخلصة لمحاولاتنا وآرائنا وأفكارنا، وإعادة طرح السؤال العتيد “أين الخطأ وأين الحل” من جديد، إذ قد أثبت الواقع أنْ لا أحد أحاط بالحقيقة. فذلك من أكثر الأمور المساعدة فاعليّة في تبيّن معالم المشهد الذي نعيش فيه ورسم مختلف أبعاده.
لننتقل إلى الفقرة الثانية من السؤال، وهي المتعلقة بمدى استطاعة المفكر العربي المعاصر التغلب على أسئلة وسجالات سابقيه من مفكري القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهل لا يزال يكرّر أسئلة سابقيه أو أنّه أجاب عنها ودخل في مرحلة إبداع وتأسيس؟
وللإجابة عن هذا الشق من السؤال نقول:
إنّ المفكر العربي المعاصر كثيراً ما نقد فكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وزملائهما ونظائرهما واعتبره فكراً قاصراً قائماً على المقاربة والتوفيق، وأحياناً يتّسم بالتلفيق، وأنّه لذلك قد عجز عن إحداث نقلة نوعية. وقبل الدخول في مناقشة هذا الرأي وتحليل أفكار الشيخين لمعرفة ما إذا كان فكرهما وفكر زملائهما توفيقاً مقارباً أم لا، أود أن أبادر إلى القول بأنّ ممّا يلفت النظر، ويستدعي الفِكَر، أنّ “خطاب النهضة” أو التجديد –في الواقع العربي الراهن- لم تكتفِ نخبة شعوبنا بترديد أسئلته وتكرار إشكالاته، واجترار قضاياه فحسب، بل إنّ هناك تراجعاً ملموساً، لا على مستوى الإجابة عن تلك الأسئلة والإشكالات فقط أو على مستوى تقديم أفكار بديلة، بل على مستوى صياغة الأسئلة نفسها وبلورة الإشكالات ذاتها.
فالأسئلة التي أثارها الإصلاحيون أمثال النائيني والكواكبي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ونحوهم، ثمّ الجيل الذي جاء بعدهم أمثال شكيب أرسلان وحسن البنّا والكاشاني وأمثالهم، لم تعد الأجيال المعاصرة قادرة على صياغتها بالمستوى نفسه الذي عهدناه من جيل الإصلاحيين. وما أخطر الأزمة حين يبلغ فيها ما يسمّى “بالاستبسال الدائري” حدّ الاضطراب في إعادة السؤال والعجز عن ترديده كما هو، إذ أنّ ممّا لم يعد فيه مجال للشك أنّ استفحال الأزمة قد بلغ من الانتشار والعمق حدّاً جعلها أزمة غير مفهومة لمن هو مصاب بها وغير واضحة بحيث لم يعد قادراً على صياغة أسئلته حولها!!
إنّ الجيل الذي مهّد للإصلاحيين صاغ “سؤال التجديد والاجتهاد” ثم جاء الإصلاحيون فصاغوا سؤال “الاستبداد والإخفاق التربوي”، ثم جاء شكيب أرسلان ليصوغ ذلك كلّه في سؤال واحد:” لِمَ تأخّر المسلمون ولِمَ تقدّم غيرهم”؟، ثم جاء حسن البنّا ليقدّم لحاكم مصر في وقته “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي”، وليقدم للأمّة “الأصول العشرين”، أمّا من جاءوا بعد ذلك (عدا الإمام الخميني الذي يمكن أن يُخصّ ببحث خاص) فقد تلعثموا في صياغة تلك الأسئلة التي كانت واضحة عند السابقين. إنّني أبادر وأقول ليس التشاؤم أو النظرة السوداوية هما اللذان يفرضان عليّ هذا القول، بل هو الواقع الذي سأدلّل عليه بما لا يدع في نفسك قارئي العزيز مجالاً للشك فيما أقول.
لقد أشرت إلى أنّ الأستاذ البنّا قد صاغ “الأصول العشرين” فما الذي أضافه أو حذفه خلفاؤه من بعده؟. أربعة من كبار علماء الحركة والمتصلين بها، أكنّ لهم كلّ الحب والتقدير، لم يجدوا إلا أن يشرحوا حول هذه الأصول لتصبح متناً له شرح. فقد شرحها شيخنا الحبيب الراحل الشيخ محمد الغزالي في كتابه “دستور الوحدة الثقافية”، وشرحها أخونا الحبيب الشيخ يوسف القرضاوي –أمدّ الله في عمره- في كتابه “شرح الأصول العشرين”، وكثير من كتبه عالجت هذه الأصول وبنيت عليها، كما شرحها الشيخ سعيد حوى، رحمه الله، ثم الصديق العزيز الدكتور علي عبد الحليم محمود.
ولا تزال أفكار “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي” التي قدمت إلى مصطفى النحاس باشا في الأربعينات مسيطرة على مفاصل الخطاب الأخواني إلى عبد الناصر والسادات ثم حسني مبارك. “فالإسلام هو الحل” –في نظري المتواضع- هي العبارة المطورة ل”مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي”، بل إنّ “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي” للشيخ البنّا أدق وأحوط ، وأرجو أن أفهم جيداً: إنني هنا لست في معرض نقد ولا تقييم لفرد أو جماعة، بل في معرض إجابة عن سؤال محدد هو ما ذُكر في بداية هذه الدراسة – فإنّني باعتباري باحثاً متواضعاً أحاول أن أجيب عن هذا السؤال بقدر فهمي له وللإشكال الذي يثيره، وإعطاء الأمثلة إنّما هو للتوضيح لا للنقد أو الانتقاص من أحد. وهو لوصف حالةٍ قائمة أولاً وأخيراً، كلّنا معنيّون بها.
وليتضّح ما أحاول توضيحه أودّ أن أعود بقرّائي الكرام لنرى كيف صاغ الكواكبي سؤال النهضة في (“أمّ القرى” ثمّ “طبائع الاستبداد”)، ثمّ نبحث في الصياغات المعاصرة لنرى ما إذا كانت يمكن أن تقاس به أو إليه؟ وما إذا كانت يمكن أن تتجاوزه وتأتي بالبديل الجديد.
ولنقرأ معاً محضر “لاجتماع السابع” من اجتماعات جمعية “أم القرى” التي لخّص المجتمعون فيه ما سمّوه بسبب “الفتور” في هذه الأمّة. هذا الفتور الذي أدّى –في نظرهم- إلى تراجع أمتنا وتقاعسها عن تحقيق أسباب النهوض والتجديد، وسأورده بنصّه لئلا يتكلّف القارئ عناء الذهاب إلى المصدر المذكور للبحث في تفاصيل السؤال والجواب من ناحية، ولأنني أودّ التعليق على المحضر واستصحاب القارئ معي في رحلةٍ فيه وحوله.
“الاجتماع السابع” يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 1316 هجرية (منقول عن كتاب الكواكبي “أم القرى”).
في صباح اليوم المذكور انتظمت الجمعية وقرِىء الضبط السابق حسب القاعدة المرعيّة.
قال الأستاذ الرئيس مخاطباً السيد الفراتي: إنّ الجمعية لتنتظر منك فوق همّتك في عقدها وقيامك بمهمّتها التحريرية، أن تفيدها أيضاً رأيك الذاتي في سبب الفتور المبحوث فيه، وذلك بعد أن تقرّر لها مجمل الآراء التي أوردها الأخوان الكرام حيث أحطت بها علماً مكرّراً بالسمع والكتابة والقراءة والمراجعة فأنت أجمعنا لها فكرا.
هذا والجمعية ترجو الفاضل الشاميّ والبليغ الاسكندريّ لأن يشتركا في ضبط خطابك بأن يتعاقبا في تلقي الجمل الكلاميّة وكتابتها، لأنّهما كباقي الأخْوان لا يعرفان طريقة الاختصار الخطّي المستعمل في مثل هذا المقام. (يشير إلى الاختزال).
نظر الفاضل الشاميّ إلى رفيقه واستلمح من القول ثم قال: إنّنا مستعدان للتشرّف بهذه الخدمة.
قال السيد الفراتي: حبّاً وطاعة وإن كنت قصير الطول، كليل القول، قليل البضاعة. ثم انحرف عن المكتبة فقام مقامه الفاضل الشاميّ والبليغ الاسكندريّ، وما لبث أن شرع في كلامه، فقال:
يستفاد من مذكّرات جمعيتنا المباركة أنّ هذا الفتور المبحوث فيه ناشئ عن مجموع أسبابٍ كثيرة مشتركة فيه، لا عن سببٍ واحد أو أسباب قلائل تمكن مقاومتها بسهولة. وهذه الأسباب منها أصول، ومنها فروع لها حكم الأصول. وكلّها ترجع إلى ثلاثة أنواع: وهي أسباب دينية، وأسباب سياسية، وأسباب أخلاقية. وإنّي أقرأ عليكم خلاصاتها من جدول الفهرست الذي استخرجته من مباحث الجمعية رامزاً للأصول منها بحرف (الألف) وللفروع منها بحرف (الفاء)، وهي:
النوع الأول: الأسباب الدينية:
تأثير عقيدة الجبر في أفكار الأمّة (أ).
تأثير المزهدات في السعي والعمل وزينة الحياة (ف).
تأثير فن الجدل في العقائد الدينية (أ).
الاسترسال في التخالف والتفرّق في الدين (أ).
الذهول عن سماحة الدين وسهولة التديّن به (أ).
تشديد الفقهاء المتأخرين في الدين خلافاً للسلف (أ).
تشويش أفكار الأمّة بكثرة تخالف الآراء في فروع أحكام الدين (ف).
فقد إمكان مطابقة القول للعمل في الدين بسبب التخليط والتشديد (ف).
إدخال العلماء المدلسين على الدين مقتبسات كتابية وخُرافات وبِدَعاً مضرّة (أ).
تهوين غلاة الصوفية الدين وجعلهم إياه لهواً ولعبا (ف).
إفساد الدين بتفنن المداجين بمزيدات ومتْروكات وتأويلات (ف).
إدخال المدلسين والمقابريّة على العامّة كثيراً من الأوهام (أ).
خلع المنجمين والرمّالين والسّحرة والمشعوذين قلوب المسلمين بالمرهبات (ف).
إيهام الدّجالين والمداجين أنّ في الدين أموراً سرّية وأنّ العلم حجاب (أ).
اعتقاد منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين (أ).
تطرّق الشرك الصريح أو الخفيّ إلى عقائد العامّة (ف).
تهاون العلماء العاملين في تأييد التوحيد (ف).
الاستسلام للتقليد وترك التبصّر والاستهداء (ف).
التعصب للمذاهب ولآراء المتأخرين وهجر النصوص ومسلك السلف (ف).
الغفلة عن حكمة الجماعة والجمعة وجمعيّة الحج (أ).
العناد على نبذ الحرية الدينية جهلاً بمزيّتها (ف).
التزام ما لا يلزم لأجل الاستهداء من الكتاب والسنّة (ف).
تكليف المسلم نفسه ما لم يكلفه به الله وتهاونه فيما هو مأمور به (ف).
النوع الثاني : الأسباب السياسية:
السياسة المطلقة من السيطرة والمسؤولية (أ).
تفرّق الأمّة إلى عصبيّات وأحزاب سياسية (ف).
حرمان الأمّة من حرية القول والعمل وفقدانها الأمن والأمل (ف).
فقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمّة (ف).
ميل الأمراء طبعاً للعلماء المدلسين وجهلة المتصوفين (ف).
حرمان العلماء العاملين وطلاب العلم من الرزق والتكريم (أ).
اعتبار العلم عطيّة يحسن بها الأمراء على الأخصاء وتفويض خدمة الدين للجهلاء (أ).
قلب موضوع أخذ الأموال من الأغنياء وإعطائها للفقراء (أ).
تكليف الأمراء القضاة والمفتين أموراً تهدّم دينهم (ف).
إبعاد الأمراء النبلاء والأحرار وتقريبهم المتملقين والأشرار (أ).
مراغمة الأمراء السراة والهداة والتنكيل بهم (ف).
فقد قوة الرأي العام بالحجر والتفريق (ف).
حماقة أكثر الأمراء وتمسّكهم بالسياسات الخرقاء (ف).
إصرار أكثر الأمراء على الاستبداد عناداً واستكباراً (ف).
انغماس الأمراء في الترف ودواعي الشبهات وبعدهم عن المفاخرة بغير الفخفخة والمال (ف).
حصر الاهتمام السياسي بالجباية والجندية فقط (أ).
النوع الثالث: الأسباب الأخلاقية:
الاستغراق في الجهل والارتياح إليه (أ).
استيلاء اليأس من اللحاق بالفائزين في الدين والدنيا (ف).
الإخلاد إلى الخمول ترويحاً للنفس (ف).
فقد التناصح وترك البغض في الله (أ).
انحلال الرابطة الدينية الاحتسابيّة (أ).
فساد التعليم والوعظ والخطابة والإرشاد (ف).
فقد التربية الدينية والأخلاقية (أ).
فقد قوّة الجمعيات وثمرة دوام قيامها (أ).
فقد القوّة المالية الاشتراكية بسبب التهاون في الزكاة (أ).
ترك الأعمال بسبب ضعف الآمال (ف).
إهمال طلب الحقوق العامة جبناً وخوفاً من التخاذل (ف).
غلبة التخلّق بالتملّق تزلّفاً وصغارا (ف).
تفضيل الارتزاق بالجندية والخدم الأميرية على الصنائع (ف).
توهّم أنّ علم الدين قائم في العمائم وفي كلّ ما سطّر في كتاب (ف).
معاداة العلوم العالية ارتياحاً للجهالة والسفالة (أ).
التباعد عن المكاشفات والمفاوضات في الشئون العامة (أ).
الذهول عن تطرّق الشرك وشآمته (أ).
ثمّ قال السيد الفراتيّ: هذه هي خلاصات أسباب الفتور التي أوردها أخوان الجمعيّة، وليس فيها مكرّرات كما يُظن. وحيث كان للخلل الموجود في أصول إدارة الحكومات الإسلامية دخل مهم في توليد الفتور العام، فإنّي أضيف إلى الأسباب التي سبق البحث فيها من قبل الأخوان الكرام الأسباب الآتية، أُعدّدها من قبيل رؤوس مسائل فقط، حيث لو أردت تفصيلها وتشريحها لطال الأمر ولخرجنا عن صدد محفلنا هذا.
والأسباب التي سأذكرها هي أصول موارد الخلل في السياسة والإدارة الجاريتين في المملكة العثمانية، التي هي أعظم دولة يهمّ شأنها عامّة المسلمين. وقد جاءها أكثر هذا الخلل في الستين سنة الأخيرة، أي بعد أن اندفعت لتنظيم أمورها، فعطّلت أصولها القديمة ولم تحسن التقليد ولا الإبداع، فتشتّت حالها ولا سيّما في العشرين سنة الأخيرة التي ضاع فيها ثلثا المملكة؛ وخرب الثلث الباقي وأشرف على الضياع لفقد الرجال وصرف السلطان قوة سلطنته كلّها في سبيل حفظ ذاته الشريفة وسبيل الإصرار على سياسة الانفراد.
وأمّا سائر الممالك والإمارات الإسلامية فلا تخلو أيضاً من بعض هذه الأصول، كما أنّ فيها أحوالاً أخرى أضرّ وأمرّ يطول بيانها واستقصاؤها. والأسباب المراد إلحاقها ملخّصة هي:
الأسباب السياسية والإدارية العثمانيتين:
توحيد قوانين الإدارة والعقوبات، مع اختلاف طبائع أطراف المملكة واختلاف الأهالي في الأجناس والعادات 1 (أ).
تنويع القوانين الحقوقية وتشويش القضاء في الأحوال المتماثلة (أ).
التمسّك بأصول الإدارة المركزية مع بعد الأطراف عن العاصمة وعدم وقوف رؤساء الإدارة في المركز على أحوال تلك الأطراف المتباعدة وخصائص سكانها (ف).
التزام ؟؟؟؟؟؟؟ على رؤساء الإدارة والولاة عن أعمالهم مطلقا 2 (ف).
تشويش الإدارة بعدم الالتفات لتوحيد الأخلاق المسالك في الوزراء والولاة والقواد، مع اضطرار الدولة لاتخاذهم من جميع الأجناس والأقوام الموجودين في المملكة بقصد استرضاء الكلّ (ف).
التزام المخالفة الجنسية في استخدام العمّال بقصد تعسّر التفاهم بين العمال والأهالي، وتعذّر الامتزاج بينهم لتأمن الإدارة غائلة الاتفاق عليها (ف).
التزام تفويض الإمارات المختصّة عادةً ببعض البيوت، كإمارة مكد وإمارات العشائر الضخمة في الحجاز والعراق والفرات لمن لا يحسن إدارتها، لأجل أن يكون الأمير منفوراً ممّن ولّي عليهم مكروهاً عندهم فلا يتفقون معه ضدّ الدولة (أ).
التزام توليد بعض المناصب المختصّة ببعض الأصناف كالمشيخة الإسلاميّة والسر عسكرية لمن يكون منفوراً في صنفه من العلماء أو الجند، لأجل أن لا يتفق الرئيس والمرؤوس على أمرهم 3 (ف).
التمييز الفاحش بين أجناس الرعية في “الغنم والغرم”4.
التساهل في انتخاب العمال والمأمورين والإكثار منهم بغير لزوم، وإنّما بقصد إعاشة العشيرة والمحاسيب والمتملّقين الملحين.
التسامح في المكافأة والمجازاة تهاوناً بشؤون الإدارة حسنت أم ساءت، كأنّ ليس للملك صاحب.
عدم التفات لرعاية المقتضيات الدينية كوضع أنظمة مصادمة للشرع بدن لزوم سياسي مهم، أو مع اللزوم ولكن بدون اعتناء بتفهيمه للأمّة والاعتذار لها جلباً للقناعة والرضا5.
تضييع حرمة الشرع وقوة القوانين بالتزام عدم اتباعها وتنفيذها والإصرار على أن تكون الإدارة نظامية اسماً، إدارية فعلاً6.
التهاون في مجاراة عادات الأهالي وأخلاقهم ومصالحهم استجلاباً لمحبّتهم القلبية فوق طاعتهم الظاهرية.
الغفلة أو التغافل عن مقتضيات الزمان ومباراة الجيران وترقية السكان بسبب عدم الاهتمام بالمستقبل.
الضغط على الأفكار المتنبّهة بقصد منع نموّها وسموّها وإطلاعها على مجاري الإدارة، محاسنها ومعايبها، وإن كان الضغط على النمو الطبيعي عبثاً محضا،، ويتأنى منه الإغراء والتحفز وينتج عنه الحقد على الإدارة.
تمييز الأسافل أصلاً وأخلاقاً وعلماً وتحكيمهم في الرقاب الحرّة وتسليطهم على أصحاب المزايا، وهذا التهاون بشأن ذوي الشؤون يستلزم تسفل الإدارة.
إدارة بيت المال إدارة إطلاق بدون مراقبة، وجزاف بدون موازنة، وإسراف بدون عتاب، وإسلاف بدون حساب، حتى صارت المملكة مديونة للأجانب بديون ثقيلة توفى بلاداً ورقاباً ودماءً وحقوقا.
إدارة المصالح المهمة السياسية والملكية بدون استشارة الرعية ولا قبول مناقشة فيها. وإن كانت إدارة مشهودة المضرّة في كل حركة وسكون.
إدارة الملك إدارة مداراة وإسكات للمطلعين على معايبها حذراً من أن ينفثوا ما في الصدور فتعلم العامة حقائق الأمور، والعامّة من إذا علموا قالوا فعلوا وهناك الطامّة الكبرى.
إدارة السياسة الخارجية بالتزلّف والإرضاء والمحاباة بالحقوق والرشوة بالامتيازات والنقود، تبذل الإدارة ذلك للجيران بقابلة تعاميهم عن المشاهد المؤلمة التخريبيّة، وصبرهم على الروائح المنتنة الإدارية. ولولا تلك المشاهد والروائح لما وجد الجيران وسيلة للضغط مع ما ألقاه الله بينهم من العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
ثم قال السيد الفراتيّ: إنّ بعض هذه الأسباب التي ذكرتها، هي أمراض قديمة ملازمة لإدارة الحكومة العثمانية منذ نشأتها أو منذ قرون، وبعضها أعراض وقتية تزول بزوال محدثها، وربما كان يمكن الصبر عليها لولا الخطر قرب والعياذ بالله من القلب كما أشار إليه الأستاذ الرئيس في خطابه الأول7.
ثم قال: ويلتحق بهذه الأسباب بعض أسباب شتى أفصلها بعد تعدادها إلحاقاً بالخلاصات، وهي:
أسباب شتّى:
– عدم تطابق الأخلاق بين الرعية والرعاة.
– الغرارة أي الغفلة عن ترتيب شؤون الحياة.
– الغرارة عن لزوم توزيع الأعمال والأوقات.
– الغرارة عن الإذعان للإتقان.
– الغرارة عن موازنة القوة والاستعداد.
– ترك الاعتناء بتعليم النساء.
– عدم الالتفات للكفاءة في الزوجات.
– الخور في الطبيعة، أي سقوط الهمّة.
– الاعتزال في الحياة والتواكل.
أمّا عدم التطابق في الأخلاق بين الرعاة والرعيّة، فله شأن عظيم كما يظهر للمتأمّل المدقّق في تواريخ الأمم من أنّ أعاظم الملوك الموفقين والقواد الفاتحين كالاسكندرين، وعمر وصلاح الدين رضي الله عنهما، وجنكيز والفاتح وشرلكان الألماني وبطرس الكبير وبونابرت، لم يفوزوا في تلك العظائم إلا بالعزائم الصادقة مع مصادقة تطابقهم مع رعاياهم وجيوشهم في الأخلاق والمشارب تطابقاً تاماً، بحيث كانوا رؤوسا حقاً لتلك الأجسام لا كرأس جمل على جسم ثور أو بالعكس. وهذا التطابق وحده يجعل الأمّة تعتبر رئيسها رأسها، فتتفانى دون حفظه ودون حكم نفسها بنفسها، حيث لا يكون لها في غير ذلك فلاح أبداً كما قال الحكيم المتنبي:
إنّما الناس بالملوك وهل يفلح عرب ملوكها عجم
وممّا لا خلاف فيه أنّ من أهمّ حكمة الحكومات أن تتخلّق بأخلاق الرعية، وتتّحد معها في عوائدها ومشاربها ولو في العوائد غير المستحسنة في ذاتها. ولا أقل من أن توفق لاجتذابهم إلى لغتها فأخلاقها فجنسيتها، كما فعل الأمويون والعباسيون والموحّدون، وكما تهتم به الدول المستعمرة الإفرنجية في هذا العهد، وكما فعل جميع الأعاجم الذين قامت لهم دول في الإسلاميّة كآل بويه والسلجوقيين والغوريين والأمراء الجركسة وآل محمد علي، فإنهم ما لبثوا أن استعربوا وتخلّقوا بأخلاق العرب، وامتزجوا بهم وصاروا جزءاً منهم. وكذلك المغول التاتار صاروا فرساً وهنودا، فلم يشذّ في هذا الباب غير المغول الأتراك أي العثمانيين، فإنهم بالعكس يفخرون بمحافظتهم على غيريّة رعاياهم لهم، فلم يسعوا باستتراكهم كما أنهم لم يقبلوا أن يستعربوا، والمتأخرون منهم قبلوا أن يتفرنسوا أو يتألمنوا. ولا يعقل لذلك سبب غير شديد بغضهم للعرب كما يستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم مجرى الأمثال في حق العرب:
كإطلاقهم على عرب الحجاز (ديلنجي عرب) أي العرب الشحاذين.
وإطلاقهم على المصريين (كور فلاح) بمعنى الفلاحين الأجلاف.
و(عرب جنكنه سي) أي نَوَر العرب. و(قبطي عرب) أي العرب المصريين.
وقولهم عن عرب سوريا (نه شامك شكري ونه عربط يوزي) أي دع الشام وسكرياتها ولا ترَ وجوه العرب.
وتعبيرهم بلفظة (عرب) عن الرقيق وعن كل حيوان أسود.
وقولهم (بس عرب) أي عربي قذر.
و(عرب عقلي) أي عقل عربي أي صغير. و(عرب طبيعتي) أي ذوق عربي أي فاسد. و(عرب جكه سي) أي حنك عربي أي كثير الهزر.
وقولهم (بوني يبارسه م عرب أوله يم) أي أنّ العرب من الطنبور.
هذا والعرب لا يقابلونهم على كل ذلك سوى بكلمتين، الأولى هي قول العرب فيهم: (ثلاث خلقن للجور والفساد: القمل والترك والجراد).
والكلمة الثانية تسميتهم بالأورام كناية عن الريبة في إسلاميتهم، وسبب الريبة أنّ الأتراك لم يخدموا الإسلامية بغير إقامة بعض جوامع لولا حظ نفوس ملوكهم بذكر أسمائهم على منابرها لم تقم.(انتهى) بنصه حتى على مستوى الهوامش والتعليقات من “أم القرى” للكواكبي.
إنّ تصور الكواكبي ومعاصريه للأزمة يبدو أفضل بكثير من تصوّر من جاءوا بعده:
فالكواكبي حاول أن يضع في جمعيته (المتخيّلة أو المتمنّاة) ما يمثّل سائر أقاليم الأمّة وفصائلها بقدر الإمكان، بل لقد تجاوز ذلك إلى حد تمثيل الأقليّات المسلمة في الخارج. أما من جاءوا بعد ذلك فقد ألفوا القومية بمفهومها الأوروبي الضيق، وكذلك ألفوا الإقليمية، بل لم يعد بعضهم يحاول أن يتفهم الفوارق بين الخاص والعام لا على المستوى الإسلامي ولا على المستوى العربي.
أمّا الكواكبي فقد جهد ذهنه في معرفة الخاص بكل إقليم أو مجموعة بشرية وكذلك العام بشكل يستحق التقدير خاصةً إذا لاحظنا أن السقف المعرفي في عهده وثورة المعلومات لم تكن قائمة بالشكل الذي هي عليه الآن بحيث يمكن للمعاصرين أن يعرفوا على وجه الدقة والتحديد الخاص والعام فلا يقعون بالخلط الذي يتخبط الكثيرون من المعاصرين فيه حيث يعمّمون الخاص ويخصّصون الخاص دون قيود.
لقد بلغ وضوح الرؤية للأزمة في عصر الكواكبي مستوىً جعله قادراً على التمييز بين الكليّ من عناصر الأزمة ثمّ يصنّفها إلى الفرعي والجزئي وإلى الأصلي بشكل لا نراه وارداً لدى معاصرينا من الذين ملأوا الدنيا حديثاً عن الأزمة والمأزومين، وأنّ كان هناك مجال للملاحظة في بعض ما عدّ فرعياً وهو أصلي أو ما عدّ أصلياً وهو فرعي.
كذلك كان الكواكبي صريحاً في التعبير عن شعور كل من العناصر المشتركة في الكيان الاجتماعي الإسلامي في تلك المرحلة: فأبرز المشاعر المريضة التي بثّها الطورانيّون وأتباع سياسة التتريك بين الأتراك، وذكر ردود الأفعال التي حصلت لدى العرب وغيرهم تأثّراً بتلك الأمور دون مواربة، وحذّر من استفحال ذلك الشر. أمّا معاصرونا فكثيراً ما يدفنون رؤوسهم في الرمال ليخفوا كثيراً من المشاعر المرضية والاتجاهات السلبية السائدة اليوم بين العرب.
طريقة رصد الكواكبي للأزمة لم تركّز على النخبة كما فعل ويفعل من جاء بعد جيله، بل أشرك الأمّة كلها، وجعل لها بكل فصائلها أدواراً في فهم الأزمة والعمل على حلّها، بحيث يمكن للأزمة في إطار تصوره أن تستنفر –كلها- بطاقاتها كلّها لفهم الأزمة والتعاون على معالجتها، لذلك لا نستطيع أن نفتقد في طرحه عملية تغييب الأمّة وتحضير أرواح “النخبة” في الاصطلاح الغربي أو “أُولي الأمر منكم” في المصطلح الإسلامي، كما نفتقد ذلك في خطاب المعاصرين.
هذه بعض المعالم الهامة التي يمكن ملاحظتها بسرعة في طرح الكواكبيّ وجيله لسؤال النهضة وإشكالية الأزمة، يوضح لنا التقهقر الذي شهدناه بعد ذلك، لا على مستوى حل المشكلات والجواب عنها، بل على مستوى فهم الأزمة وصياغة السؤال.
وبعد نموذج الكواكبيّ أودّ أن أقدّم نموذجاً آخر من خطاب السيّد الأفغانيّ في مقالة من أهم مقالاته التي تصلح أن تكون نموذجاً مناسباً لبيان فهمه –رحمه الله- لحقيقة الأزمة وكيفية صياغته لسؤالها. لقد عنون السيد الأفغانيّ مقالته بعنوان “الشرق والشرقيّون”، وهو عنوان له دلالته، وارتباطه بما عُرف ب”المسألة الشرقية” –آنذاك- التي تمّ تطويرها من كون الشرق الإسلامي العثماني خطراً على أوروبا إلى كيفية اقتسام هذا الشرق بين دول أوروبا، وأياً كان فهو مصطلح يستدعي إلى الأذهان سائر المصطلحات التي شاعت قبله وشاعت بعده حول ما كان يعرف “بدار الإسلام” وصار يعرف بعد ذلك بما يرغب الآخر أن يعرفه به وبالنسبة إليه فهو “شرق أوسط” و”شرق أدنى” وهو “العالم العربي” و”العالم الإسلامي” وهو “العالم الثالث” و”العالم النامي”.
ومقالة “الشرق والشرقيون”: قد نشرها السيد في جريدة (أبو نظارة زرقاء) التي كانت تصدر بباريس أيام وجوده فيها سنة 1300 ه (1883م) وهي مصدرة بمقدمة حِكَميّة أو فلسفية في العقل والنفس والأخلاق، التي يتفاضل بها البشر أفراد أو جماعات، وبمقدار التحلي يعلو بعض الأمم بعضاً في ارتقاء الحضارة، ويتسابقون في حلبة السعادة والسيادة. – يلي المقدمة المقصد في شعبتين إحداهما بيان ما كان للشرقيين من حظ ارتقاء العقل في العلم والبصيرة، وعلو النفس بالأخلاق العالية، ثم بها ما انتهى إليه حالهم من إهمال النعمتين، والتدهور عن القمتين. والشعبة الثانية في الشواهد التاريخية على ذلك بما كان من إضاعتهم لممالكهم، وتخريب بيوتهم بأيديهم- قال رحمه الله.
(المقدمة):
الإنسان إنسان بعقله وبنفسه، ولولا العقل والنفس لكان الإنسان أخس جميع الحيوانات وأشقاها، لأنه في حياته أضيق مسلكاً وأصعب مجازاً وأوعر طريقاً منها، قد حفت به المكاره، وأحاطت به المشاق، واكتنفت به الآلام، لا يمكنه أن يقوم بمعاشه وهو منعزل عن أبناء نوعه، ولا يطيق الحرّ ولا يتحمّل ألم البرد ولا يقدر على الذود عن نفسه، وليس له من الآلات الطبيعية ما يثقّف يه معيشته، وهو محتاج في ضروريات حياته ومفتقر في الكمال فيها إلى الصناعة، ولا يمكن الحصول عليها إلا بإجالة الفكرة والتعاون بمن يشاركه في العقل من النوع البشري إدارة، والعقل أن نستنبط المسببّات من أسبابها، ويستدل بالعلل على معلولاتها، وينقل من الملزومات إلى لوازمها، وتستكشف الآثار حين ملاحظة مؤثراتها، وتعرف العواقب ضارّها ونافعها، وتقدّر الأفعال بمقاديرها، على حسب ما يمكن أن يطرأ عليها من الفوائد والخسائر في عاجلها وآجلها، ويتميز الحق من الباطل في الأعمال الإنسانية نظراً إلى عواقبها.
العقل (أي بهذا المعنى) هو الهادي إلى مهيع السعادة، ومنهج الأمن والراحة، لا يضل من استرشده، ولا يغوي من استهداه، ولا يحوم الشقاء حول من ركن إليه، ولا يعثر في المداحض من اعتمد عليه، ولا يلتبس الحق بالباطل على من استنار بنوره. وأنّ الخير به وليس الشر إلا بالحيدان عن صراطه القويم، من فقده فاتته السعادة لا محالة، ولو أخرجت له الأرض أفلاذها، وأسبغت عليه الدنيا نعيمها. وأنّ الأمم ما سادت إلا بهدايته، وما ذلّت بعد رفيع مقامها وعظم منزلتها إلا بعد أن عرضت عن خالص نصحه، وتوغلت في بيداء غوايتها، واستعملته في مسالك ضلالتها، واستخدمته لقضاء أوطار طبائعها الخسيسة، التي تجلب عليها الشنار، وتوجب المعرة والصغار.
والنفس هي منشأ أخلاق كريمة وأوصاف عقلية، هي قوام المجتمعات المدنية والمنزلية، وأساس التعادل وميزان التكافؤ في المناورات، ومقياس التوافق في المعاونات، ولا يمكن التأليف بين القوى المتفرقة لاقتناء ما تقوم به حياة الإنسان إلا بها، ولا تلتئم أهوية النفوس المختلفة لاكتساب ضروريات معاشها إلا بسببها، وهي التي تجعل الأفراد الإنسانية مع تضادّ طبائعها، بمنزلة شخص واحد يسعى بأعضائه المتخالفة في أشكالها، وجوارحه المتباينة في هيآتها، إلى مقصد واحد لا يمكن الوصول إليه إلا باستعماله، بحركات قد اختلفت مع وحدة وجهتها أو صناعتها. وسيادة الأمم الغابرة والحاضرة هي من أخص نتائجها، لأنها لا يمكن حصولها إلا باتفاق كلمة آحادها، واجتماع آراء أفرادها، ولا تتفق الكلمة ولا تجتمع الآراء إلا بالتكافؤ في المساعي، والتوازن في تحمّل المشاق، والاشتراك في المنافع، والمساواة في الحقوق، والتعادل في التمتع بثمرات الأعمال، بلا تفاضل ولا استئثار، وكل هذه في وجودها وبقائها تحتاج إلى الأخلاق الكريمة والأوصاف العقلية التي بها يعرف الإنسان حقه ويقف عنده. ولا تشتت أمّة أو اضمحلّت سلطة ولا تفرقت جمعية إلا بفساد أخلاقها وتطرق الخلل فيها لأنها بفسادها، وتطرق الخلل فيها؛ توجب تخالف الأيدي وتباعد الأهواء، وتشتت الآراء وتباين الأفكار، فيستحيل حينئذ الاجتماع ويمتنع الاتفاق.
وإذا أمعن البصير في حقيقة الأخلاق الرذيلة يعلم أنها بذاتها تبعث على التفرق والاختلاف، وتمنع من الاجتماع والائتلاف، وما ينشأ من ذات الشيء يمكن زواله ما دامت ذاته باقية، فإذا تمكنت الأخلاق الرذيلة من أمّة فلا نجاح، ولا يحصل لها فلاح، ما لم تسعَ في تعديلها، وتدأب في تقويمها.
ويمكن أن يقال أن بين كمال العقل وطهارة النفس وتخلقها بالأخلاق الفاضلة تلازماً، لأن العقل إذا بلغ كماله يقهر الطبيعة فحينئذ تسلم النفس من سوراتها عن عكر قذفاتها، فتنقاد للعقل مستسلمة له، خاضعة لحكمه، ويستعملها وفق نهج الحق والعدل. وليست الأخلاق الفاضلة إلا أن تزن النفس أعمالها وفق العدل ولا تحيد في هواها عن صراط الحق.
الشعبة الأولى من المقصد في أسباب انحطاط الشرق:
وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن نقول إنّ الشرق بعدما كان له من الشأن الرفيع، والمقام المنيع، والسلطنة العظيمة، وبسطة الملك وعظم الشأن في الصنائع والبدائع، ووفور الأمتعة والبضائع، ورواج سوق التجارة، والمعارف، وشيوع الآداب والفنون – ما هبط عن جليل مرتبته، ورفيع منزلته، ولا استولى الفقر والفاقة على ساكنيه، ولا غلب الذل على عامريه، ولا تسلّطت عليه الأجانب، ولا استعبدت أهله إلا لإعراض الشرقيين عن الاستنارة بنور عقولهم، وتطرّق الفساد إلى نفوسهم، فإنّك تراهم في سيرهم كالبهائم، لا يتدبّرون أمراّ، ولا يتّقون في أفعالهم شرّاً، ولا يكدّون لجلب المنافع ولا يجتنبون عن الضار8. طرأ على عقولهم السبات، ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح شؤونهم، وعميت بصائرهم عن إدراك النوازل التي أحاطت بهم، يقتحمون المهالك، ويمشون المداحض9، ويسرعون في ظلمات أهوية نفوسهم التي نشأت عن أوهامهم المضلّة، ويتّبعون في مسالكهم ظنوناً قادهم إليها فساد طبائعهم، لا يحسّون المصائب قبل أن تمس أجسادهم، وينسونها كالبهيمة بعد زوال آلامها، واندمال جراحها، ولا يشعرون لاستيلاء الغباوة على عقولهم، واكفهرار ظلمات غشاوة الجهل على بصائرهم، باللذائذ التي خصّ الإنسان بها من حبّ الفخار في طلب المجد والعزّ، وابتغاء حسن الصيت وبقاء الذكر، بل لاستيلاء الغفلة على عقولهم يحسبون أن يومهم دهرهم، والتقمقم كالسارحة10 شأنهم، لا يدرون عواقبهم، ولا يدركون مآل أمرهم، ولا يتداركون ما فاتهم، ولا يحذرون ما يتربصهم11 من أمامهم ومن خلفهم، ولا يفقهون ما أكمن لهم الدهر من الشدائد والمصاعب. ولذا تراهم قد رئموا الذل، وألفوا الصغار، وأنسوا الهوان، وانقادوا للعبودية، ونسوا ما كان لهم من المجد والمؤتل والمقام الأمثل. وبعد انحدارهم عن ذروة العقل الذي لا كرامة للإنسان إلا به، غلبت عليهم الخسّة والنذالة، ورانت على قلوبهم القسوة والجفاء وتمكن من نفوسهم الظلم والجور، واستولى عليهم العجب، لا عن جاه يدعو إليه، ولا عن فضيلة تبعث عليه، وتظاهروا مع الذل المتمكن من قلوبهم بالكبر والعظمة، وفشا بينهم الشقاق والنفاق، وتلبّسوا بالغدر والخيانة، واستشعروا الحسد والنميمة، وتسربلوا بالحرص والشره، وتجاهروا بالوقاحة والشراسة، واتسموا بالخشية والجبانة، وانهمكوا في الشهوات الدنيّة، وخاضوا في اللذات البدنية، وتخلقوا بالأخلاق البهيمية، متوسدين الكسالة والفشل، واتصفوا بصفات الحيوانات الضارية، يأكل قويّهم ضعيفهم، ويستعبد عزيزهم ذليلهم، يخونون أوطانهم، ويظلمون جارهم، ويسرقون أموال ضعفائهم، ويخوسون بعهودهم 12، ويسعون في خراب بلادهم، ويمنحون الأجانب ديارهم، لا يحمون ذماماً ؟؟، ولا يخشون عاراً، عالمهم جاهل، وأميرهم وقاضيهم خائن، ليس لهم هادٍ فيرشدهم إلى سبيل نجاتهم، ولا زاجر فيكفّوا عن التمادي في غيّهم، ولا وزاع يقدع الجائرين عن نهش عظام فقرائهم، وصاروا بسخافة عقولهم وفساد أخلاقهم عرضة للهلاك.
الشعبة الثانية من المقصد:
في الشواهد التاريخية، على إضاعة الممالك الشرقية:
تأمّل فيما أقصّ عليك من أعمال الشرقيين من قبل حتى تعلم أنهم بحيدانهم عن سنّة العقل قد أوقعوا أنفسهم في الذلّ الدائم، وجلبوا بعد العزّ في عواقب أمورهم الخراب والدمار إلى بلادهم، وأضعفوا بسوء سياستهم بلادهم القوية، ومكّنوا أعداءهم من بلادهم جهلاً منهم بنتائج أعمالهم. وها هو الحال إنّ العثمانيين قد اتفقوا مع الروس على مقاسمة البلاد الإيرانية. الأفغانيون على أصفها ؟؟ أيام (شاه سلطان حسين) ولو نظروا بمنظار – الأمّة الروسية وما لها من العلاقات مع اليونانيين والرومانيين والسربيّين وغيرهم من رعايا السلطنة العثمانية وما يمكنها أن تحوزه في مستقبل القوة والبسطة- لما اختلجت ببالهم محالفتها، ولا خطرت في أذهانهم ما كانوا يسعون في قلع أسها قبل استحكامه، وقطع شجرتها قبل أن تنمو. وأنهم جاهروا الإيرانيين بالحرب من طريق بيزيد إذ كان عباس وجنوده يقاومون الروسية ويدافعون عن بلادهم، فوهنت قوتهم، وضعفت مريرتهم، واستملك الروس بسبب هذا الاقتحام أكثر بلاد آذربيجان، ولو استشار العثمانيون عقولهم وقتئذ لأشارت عليهم بأنّ ضعف الإيرانيين وقوة الروس هما معاً علة تزعزع أركان السلطنة التركية، ولكنهم اتبعوا خطرات أنفسهم وزيّنت لهم أوهامهم، وظنّوا أنهم يحسنون صنعا، فأسرعوا في هلاك أنفسهم وهم لا يشعرون، وكان عليهم اهتداءً بنور العقل، وسلوكاً في مسلك السياسة الحقة23 أن يلاحظوا الجامعة القوية، التي بينهم وبين السلطنة الإيرانية، فيتفقوا معها على كبح شره الروسية وإضعاف قوتها، أمناً من غوائلها، وحذراً من آفات مطامعها.
وإنهم أي العثمانيين جبهوا سفير (تيبو سلطان) سلطان (ميسور) بالرد حين عرض عليهم من طرف سيده استبدال البصرة ببعض البلاد الهندية14 التي كانت في حوزته، وامتعضوا من هذا الطلب وردوا السفير خائباً. وكان غرض (تيبو سلطان) من طلبه هذا أن يكسر سورة الإنجليز ببسط السلطة العثمانية في الهند وتمكينها منها.
وذهل العثمانيون تهاوناً منهم عن العلاقات التامة بينهم وبين الهنديين وأنّ سلطنتهم لو امتدت إلى تلك الممالك لدخل جميع حكامها بلا معارضة تحت لوائهم وقدروا حينئذٍ على قدع الحكومة الإنجليزية عن تطاولاتها في الهند، وسدّوا عليها طرق فتوحاتها في المشرق وما شعروا تساهلاً في السياسة وتغافلاً عن منهج العقل أنّ بسطة الحكومة الإنجليزية في آسيا توجب تحكّمها في بلادهم وطمعها في الاستيلاء عليها كما وقع الآن حتى مكنوا عساكرها مدة طويلة من شق الأراضي المصرية ذاهبة إلى أقاصي المشرق للتغلب عليها.
وأنّ شاه إيران (فتح علي شاه) إرضاءً للإنجليز هدد الأفغانيين بالحرب وقتما أرادوا أن يزحفوا على الهند لانتزاعها من أيدي الإنجليز ولو استنار الإيرانيون وقتئذ عقولهم لانكشف لهم أن قوّة الإنجليز بالهند إذلال لهم وخطر على بلادهم ولعلموا أنهم والأفغانيين غصنا شجرة الإيران25 وقد تشعّبوا من أصلٍ واحد ونش ؟؟ أرضٍ واحدة، تجمعه وحدة الجنسية، وتؤلفهم الأخوة الحقيقية، وأنّهم متساوون في العزّ والشرف، ومتشاركون في الذلّ والهوان، وما فرّقت كلمتهم إلا أوهام نشأت عن الظنون الدينية وليست منها شيء. ولو راجع كلٌّ عقله لرأى ضرورة اتفاقهم تحت الوحدة استرجاعاً لمجدهم السابق، وتداركاً لما فاتهم بسبب الشقاق من الشرف والفخار وعلو الكلمة بين الأمم.
وأنّ الأمير (دوست محمد خان) أمير الأفغان قد جعل بلاده تعامياً منه عرضة للهجمات الإنجليزية فإنّه بعد المحالفة مع (ريخت سنكت)16 ومعاهدته على مناصرته ضد الإنجليز قد تركه اغتراراً بالمواعيد الإنجليزية في ميدان الحرب وحيداً وتقهقر فانهزمت جيوش (ريخت) وتغلّب الإنجليز على جميع أراضي البنجاب المتاخمة للأفغان. ولو استهدى الأمير (دوست محمد خان) إذ ذاك عقله وسلك في سياسته سلوك من يتدبر نتائج أفعاله قبل أن يتسرّع فيها لتحقق لديه أن صيانة بلاده من هجمات الإنجليز إنما يكون ببقاء الحكومة البنجابية حريزة حتى تكون سدّاً مانعاً بين أفغانستان وبين الحكومة الإنجليزية فكان يدافع عنها كما كان يدافع عن حدوده.
وإنّ نواب البنجالة ونواب (الكرناتكر) قد مهدوا للإنجليز سبيل دخولهم في الأراضي الهندية. وأنّ نواب لكهنو أيد مقاصدهم في إذلال السلطة التيمورية وأنّ نواب دكن قد أعانهم على إبادة حكومة تيبو سلطان وإذلال راجة (؟؟).
إضاعة أمراء المصريين لاستقلال بلادهم وعاقبتهم:
وأنّ اسماعيل باشا حباً بالاستقلال وعمى عن نتائج أفعاله السيئة التي نشأت عن حرصه على اسم الملك قد ألقم الإفرنج جميع أموال مصر وما استدانه من صرافي الأوروبا (؟) بالأرباح الباهظة. ثم سعى الإفرنج إلى خلعه عن الملك ونفيه عن الديار المصرية إرادة استملاكها ووضع اليد عليها – ولو تروّى في حال الشرقيين وتأمّل فيما أصابهم من الذل والصغار لأجل تفرق كلمتهم لازداد خضوعاً لسلطانه، وسعى صيانة لنفسه في تشييد مباني سلطنته، ونزع من قلبه حبّ الاستقلال، وعلم أنّ الذين لا يفترون عن السعي في فتح الممالك لا يمكن أن يساعدوه في مقاصده.
وأنّ وزراء توفيق باشا جهلاً بمقدار أنفسهم، وعجباً بآرائهم الفاسدة، واتباعاً لأوهامهم الباطلة قد جلبوا الإنجليز بغاية جهدهم إلى القطر المصري وملكوهم إياه، وهم يظنون أنهم يستظهرون بهم على أعداء الخديوي، فلو تدبروا في سياسة الحكومة الإنجليزية ورأوا أطماعها في أرض مصر لما جلبوا هذه المصيبة على أنفسهم وعلى خديويهم وعلى سلطانهم، ولما ألقوا أنفسهم في فم الأسد خوفاً من وعوعة الكلب.
فقد ظهر من كلّ ما ذكرته من سير الشرقيين قدحاً في معاملاتهم أنّهم ما سلكوا في سياستهم سبيل الرشد والهدى، وما استفادوا من عقولهم شيئا، ولا تدبّروا في عواقب أفعالهم ونتائج أعمالهم، ولا نظروا بنور البصيرة في حالهم ومآلهم، بل تاهوا جهلاً منهم بمنافعهم في بيداء الغواية، وحادوا عمى عن غاية مسيرهم في تيه الضلالة، حتى خربوا بأيديهم ديارهم، وأبادوا بسوء تصرفهم بلادهم، ومكّنوا الأجانب بمساعيهم الفاسدة من رقابهم. وكان الواجب على أحفادهم الذين احترقوا بنارهم، وتدنّسوا بعارهم، أن يعتبروا بالمصائب التي جلبتها عليهم غفلات أسلافهم، وأن يتّقوا البليّات التي قادتها الغباوة إلى آبائهم، وأن يسعوا في جمع الكلمة، وأن يتحذّروا عن الشتات والتفرقة، ويجتنبوا الأغراض الشخصية، ويعرضوا عن دارعي ؟ الخطوات الوهمية، ويتنحّوا عن مضال الاستبداد والاستئثار.
ولكن تراهم لسبات عقولهم يقتفون آثارهم ويتبعون أغلاظهم، معرضين عن العقل وإرشاده، جاحدين للحق وآياته، ارتفعت عنهم الأمانة، وفشت بينهم الخيانة، وانقطعت بينهم عرى الوداد، وانحلت عقدة الجنسية، كلّ ينظر إلى نفسه، ويسعى لمنفعة شخصه، جهلاً منه أن سعادته منبثّة في جميع آحاد الأمّة ولا يمكنه أن يفوز بها إلا بسعادة الكل، ولذلك قد صاروا فقراء لا يملكون شيئاً، حائرين في معاشهم، ضالين عن رشدهم في مبدئهم ومعادهم، وكاد أن يقضي عليهم بذل أبدي وموت دائمي، بتلاشي جنسيتهم، وتناثر جمعيتهم.
ومع كل هذا ما فاتهم أوان التدارك، ولا ضاق عليهم زمان التلاقي، ولا أوصدت عليهم الأبواب، ولا انقطعت دونهم الأسباب، ولكن قد تمكن منهم القنوط، وغلب عليهم اليأس، وفترت هممهم، وضعفت عزائمهم، واستكت آذانهم عن استماع النصائح، وعميت أبصارهم عن رؤية الحق، وقست قلوبهم عن الإذعان له، فتراهم امتداداً في غيهم يريقون دماء هداتهم، ويتبعون آراء غواتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
انتهى مقال السيد الأفغاني.
وهنا نلحظ أن السيّد الأفغاني قد ربط كلّ مظاهر الجمود والتدهور والانحراف إلى سبب أساسي- هو: انهيار الشخصية، وقوام الشخصية عقل ونفس، والعقلية تبنيها العلوم والمعارف والخبرات والتجارب والرؤية الكلية ووضوح الأهداف والغايات والمقاصد، ومناهج توخيها وتحقيقها، والنفسية قوامها الفنون الشريفة والآداب العالية التي تجعل من الإنسان إنساناً سويّاً يشعر بمزاياه وبإنسانيته وكرامة نوعه وجنسه، فإذا انهارت العقلية أو النفسية أو كلاهما فقد انهارت الشخصية، ودمّرت. وانهيار الشخصية ينعكس على سائر جوانب الحياة بسلبياته ومشاكله. والسيد يضرب الأمثلة التي تهز القلوب والمشاعر، ويسوق النماذج المختلفة لكلّ أجزاء العالم الإسلامي عربية وغيره، وبشكل تحريضي ليدفع الناس دفعاً، ويسوقهم بشدة إلى إعادة بناء “العقلية والنفسية” ليتم بعد ذلك تركيب الشخصية المفككة من جديد، فيعاد بناء الحياة والنظم، وإرساء دعائم الاجتماع والتمدّن.
ومن الغريب أنّنا في بدايات سنة 1419 ه أي أنّنا تجاوزنا تاريخ هذه المقالة بتسعة عشر عاماً ومائة، ولو رفعنا أسماء الحكومات والحاكمين ووضعنا العناوين المعاصرة لظنّ القارئ أنّ المقالة كُتبت وأعدّت هذه الأيام، لا قبل مائة وتسع عشر عام .
(يتبع)
(1) من أهم الضروريات أن يحصل كل قوم من أهالي تركيا على استقلال نوعي إداري يناسب عاداتهم وطبائع بلادهم، كما هي الحالة في إمارات ألمانيا وولايات أمريكا الشمالية، وكما يفعله الإنكليز في مستعمراتهم والروس في أملاكهم.
(2) ولذلك كانت الحالة في الدولة قبل التنظيمات الخيرية خيراً منها بعدها، حيث كان العمال مسئولين لدى حضرة السلطان ثم أطلق سراحهم في عهدنا من كل مسئولية، إلا في الأفعال بل الأقوال بل الخواطر التي تتعلق بحقوق السلطنة.
(3) هكذا تكون احتياطات الحكومات العاجزة.
(4) كهضم الدولة العثمانية حقوق العرب في المناصب والارتزاق من بيت المال هضماً لا نسبة فيه، لأنها مميزة عليهم، خل كونهم ثلثي رعيتها، كلاً من الجركس والبشناق والأكراد والأرناؤط والروم والأرمن والخروات والبلغار والعربكير.
وكاستثناء أهل العاصمة والحجاز وغيرهم حتى بعض البيوت من الخدمة العسكرية والتكاليف الشرعية والعرفية.
وكاستثناء غير المسلمين من الخدمة العسكرية لمجرد كونهم حالة الضنك التي عليها جيشاً.
(5) كاستخدام اليهود قابضي مال أي أمناء صناديق، وقابضي أعشار السوائم، وفي ذلك عدم رعاية المذاهب التي تستوجب أن لا تسقط الزكاة عن الدافعين، وكاستخدام قضاة بالرسوم أو برواتب جزئية جداً.
(6) تعطيل بعض أحكام الشرع كافٍ لخرق حرمته، وأمّا الأحكام النظامية فمع كسرتها البالغة عشرات ألوف قضايا لم يتفق إلى الآن إجراء شيء منها إلا بعض ما يتعلّق بسلب الأموال.
(7) أشار حضرة الرئيس وهو الأستاذ المكّيّ في خطابه الأول للحالة السيئة في الحجاز من فقد الأمن في بلد الله الأمين، والجور الفظيع الذي يقطع على أهل الحرمين وزوارهما من تنازع السلطات الثلاث الأمارة والولاية والعسكرية، وغير ذلك من الأحوال التي لا تطاق وصار يتشكّى منها عامة الحجاج، ولا سيما الداخلين تحت سلطة الأجانب وهم السواد الأعظم من المسلمين. ولا غرو أنّ هذه الحال تستدعيهم لأن يدعوا حكوماتهم للمداخلة في شؤون إدارة الحجاز، لأجل حصولهم على الأمن والراحة، وحينئذ لا قدّر الله يتفانى العرب دون حفظ بيضة الإسلام كما تفانوا قبلاً وحدهم في دفع الصليبيين عن المسجد الأقصى.
(8) اجتنب يتعدّى بنفسه، قال تعالى “الذين يجتنبون كبائر الإثم” الآية.
(9) أي فيها وهي جمع مدحضة حيث تدحض الرجل أي تزل.
(10) السارحة البهيمة التي تسرح للمرعى، والتقمقم والتقمم أخذ الشاة ما على وجه الأرض بمقمتها وأكله وكذلك تتبع الإنسان ما على المائدة وأكله كله.
(11) تربص الأمر: انتظره، وتربصه به: توقع نزوله به ومنه (نتربص به ريب المنون).
(12) خاس يخيس خيساً: كذب – وخاس بالعهد خيساً وخيساناً: غدر.
(13) الصواب أن يقال الحق لأنه مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع على السواء.
(14) الصواب أن يقال: استبدال بعض البلاد الهندية بالبصرة أي يأخذونها بدلاً من البصرة التي قاتلوا أهلها للاستيلاء عليها وأعانهم بعض العرب على بعض.
(15) كان السيد رحمه الله على سعة مادته في اللغة العربية يعرّف بعض ال— بلا مسوغ، فيقول الإيران والأوروبة ويظهر ذلك في قلمه أحيانا.
(16) ضبط ربخت بفتح فكسر فسكون، وضبط سنك بكسر السين المهملة وسكون —
“مأساوية المشهد الثقافي والفكري الراهن” (3)
أسباب انحطاط الشرق كما حددها جمال الدين الأفغاني
د. طه جابر العلواني
كيف تقوّمون المشهد الثقافي العربي الراهن؟ وهل استطاع المفكّر العربي أن يتغلّب على أسئلة وسجالات سلفه في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أم أنّه لمّا يزل يكرّر ذاته عبر إعادة إنتاج تلك الاستفهامات من دون أن يلج عتبة الإبداع والتأسيس؟!
هذا السؤال، أجاب عنه الدكتور طه جابر العلواني (رئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فرجينيا) في إطار جوابٍ فكري شامل، ننشر فيما يلي الجزء الثالث والأخير منه:
============================================================================
.. بعد نموذج الكواكبيّ أودّ أن أقدّم نموذجاً آخر من خطاب السيّد الأفغانيّ في مقالة من أهم مقالاته التي تصلح أن تكون نموذجاً مناسباً لبيان فهمه – رحمه الله – لحقيقة الأزمة وكيفية صياغته لسؤالها. لقد عنون السيد الأفغانيّ مقالته بعنوان “الشرق والشرقيّون”، وهو عنوان له دلالته، وارتباطه بما عُرف ب”المسألة الشرقية” –آنذاك- التي تمّ تطويرها من كون الشرق الإسلامي العثماني خطراً على أوروبا إلى كيفية اقتسام هذا الشرق بين دول أوروبا، وأياً كان فهو مصطلح يستدعي إلى الأذهان سائر المصطلحات التي شاعت قبله وشاعت بعده حول ما كان يعرف “بدار الإسلام” وصار يعرف بعد ذلك بما يرغب الآخر أن يعرفه به وبالنسبة إليه فهو “شرق أوسط” و”شرق أدنى” وهو “العالم العربي” و”العالم الإسلامي” وهو “العالم الثالث” و”العالم النامي”.
ومقالة “الشرق والشرقيون”: قد نشرها السيد في جريدة (أبو نظارة زرقاء) التي كانت تصدر بباريس أيام وجوده فيها سنة 1300 هجرية (1883م) وهي مصدرة بمقدمة حِكَميّة أو فلسفية في العقل والنفس والأخلاق، التي يتفاضل بها البشر أفراداً أو جماعات، وبمقدار التحلي يعلو بعض الأمم بعضاً في ارتقاء الحضارة، ويتسابقون في حلبة السعادة والسيادة. – يلي المقدمة المقصد في شعبتين إحداهما بيان ما كان للشرقيين من حظ ارتقاء العقل في العلم والبصيرة، وعلو النفس بالأخلاق العالية، ثم بها ما انتهى إليه حالهم من إهمال النعمتين، والتدهور عن القمتين. والشعبة الثانية في الشواهد التاريخية على ذلك بما كان من إضاعتهم لممالكهم، وتخريب بيوتهم بأيديهم- قال رحمه الله.
(المقدمة):
الإنسان إنسان بعقله وبنفسه، ولولا العقل والنفس لكان الإنسان أخس جميع الحيوانات وأشقاها، لأنه في حياته أضيق مسلكاً وأصعب مجازاً وأوعر طريقاً منها، قد حفت به المكاره، وأحاطت به المشاق، واكتنفت به الآلام، لا يمكنه أن يقوم بمعاشه وهو منعزل عن أبناء نوعه، ولا يطيق الحرّ ولا يتحمّل ألم البرد ولا يقدر على الذود عن نفسه، وليس له من الآلات الطبيعية ما يثقّف يه معيشته، وهو محتاج في ضروريات حياته ومفتقر في الكمال فيها إلى الصناعة، ولا يمكن الحصول عليها إلا بإجالة الفكرة والتعاون بمن يشاركه في العقل من النوع البشري إدارة، والعقل أن نستنبط المسببّات من أسبابها، ويستدل بالعلل على معلولاتها، وينقل من الملزومات إلى لوازمها، وتستكشف الآثار حين ملاحظة مؤثراتها، وتعرف العواقب ضارّها ونافعها، وتقدّر الأفعال بمقاديرها، على حسب ما يمكن أن يطرأ عليها من الفوائد والخسائر في عاجلها وآجلها، ويتميز الحق من الباطل في الأعمال الإنسانية نظراً إلى عواقبها.
العقل (أي بهذا المعنى) هو الهادي إلى مهيع السعادة، ومنهج الأمن والراحة، لا يضل من استرشده، ولا يغوي من استهداه، ولا يحوم الشقاء حول من ركن إليه، ولا يعثر في المداحض من اعتمد عليه، ولا يلتبس الحق بالباطل على من استنار بنوره. وأنّ الخير به وليس الشر إلا بالحيدان عن صراطه القويم، من فقده فاتته السعادة لا محالة، ولو أخرجت له الأرض أفلاذها، وأسبغت عليه الدنيا نعيمها. وأنّ الأمم ما سادت إلا بهدايته، وما ذلّت بعد رفيع مقامها وعظم منزلتها إلا بعد أن عرضت عن خالص نصحه، وتوغلت في بيداء غوايتها، واستعملته في مسالك ضلالتها، واستخدمته لقضاء أوطار طبائعها الخسيسة، التي تجلب عليها الشنار، وتوجب المعرة والصغار.
والنفس هي منشأ أخلاق كريمة وأوصاف عقلية، هي قوام المجتمعات المدنية والمنزلية، وأساس التعادل وميزان التكافؤ في المناورات، ومقياس التوافق في المعاونات، ولا يمكن التأليف بين القوى المتفرقة لاقتناء ما تقوم به حياة الإنسان إلا بها، ولا تلتئم أهوية النفوس المختلفة لاكتساب ضروريات معاشها إلا بسببها، وهي التي تجعل الأفراد الإنسانية مع تضادّ طبائعها، بمنزلة شخص واحد يسعى بأعضائه المتخالفة في أشكالها، وجوارحه المتباينة في هيآتها، إلى مقصد واحد لا يمكن الوصول إليه إلا باستعماله، بحركات قد اختلفت مع وحدة وجهتها أو صناعتها. وسيادة الأمم الغابرة والحاضرة هي من أخص نتائجها، لأنها لا يمكن حصولها إلا باتفاق كلمة آحادها، واجتماع آراء أفرادها، ولا تتفق الكلمة ولا تجتمع الآراء إلا بالتكافؤ في المساعي، والتوازن في تحمّل المشاق، والاشتراك في المنافع، والمساواة في الحقوق، والتعادل في التمتع بثمرات الأعمال، بلا تفاضل ولا استئثار، وكل هذه في وجودها وبقائها تحتاج إلى الأخلاق الكريمة والأوصاف العقلية التي بها يعرف الإنسان حقه ويقف عنده. ولا تشتت أمّة أو اضمحلّت سلطة ولا تفرقت جمعية إلا بفساد أخلاقها وتطرق الخلل فيها لأنها بفسادها، وتطرق الخلل فيها؛ توجب تخالف الأيدي وتباعد الأهواء، وتشتت الآراء وتباين الأفكار، فيستحيل حينئذ الاجتماع ويمتنع الاتفاق.
وإذا أمعن البصير في حقيقة الأخلاق الرذيلة يعلم أنها بذاتها تبعث على التفرق والاختلاف، وتمنع من الاجتماع والائتلاف، وما ينشأ من ذات الشيء يمكن زواله ما دامت ذاته باقية، فإذا تمكنت الأخلاق الرذيلة من أمّة فلا نجاح، ولا يحصل لها فلاح، ما لم تسعَ في تعديلها، وتدأب في تقويمها.
ويمكن أن يقال أن بين كمال العقل وطهارة النفس وتخلقها بالأخلاق الفاضلة تلازماً، لأن العقل إذا بلغ كماله يقهر الطبيعة فحينئذ تسلم النفس من سوراتها عن عكر قذفاتها، فتنقاد للعقل مستسلمة له، خاضعة لحكمه، ويستعملها وفق نهج الحق والعدل. وليست الأخلاق الفاضلة إلا أن تزن النفس أعمالها وفق العدل ولا تحيد في هواها عن صراط الحق.
الشعبة الأولى من المقصد في أسباب انحطاط الشرق:
وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن نقول إنّ الشرق بعدما كان له من الشأن الرفيع، والمقام المنيع، والسلطنة العظيمة، وبسطة الملك وعظم الشأن في الصنائع والبدائع، ووفور الأمتعة والبضائع، ورواج سوق التجارة، والمعارف، وشيوع الآداب والفنون – ما هبط عن جليل مرتبته، ورفيع منزلته، ولا استولى الفقر والفاقة على ساكنيه، ولا غلب الذل على عامريه، ولا تسلّطت عليه الأجانب، ولا استعبدت أهله إلا لإعراض الشرقيين عن الاستنارة بنور عقولهم، وتطرّق الفساد إلى نفوسهم، فإنّك تراهم في سيرهم كالبهائم، لا يتدبّرون أمراً، ولا يتّقون في أفعالهم شرّاً، ولا يكدّون لجلب المنافع ولا يجتنبون عن الضار8. طرأ على عقولهم السبات، ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح شؤونهم، وعميت بصائرهم عن إدراك النوازل التي أحاطت بهم، يقتحمون المهالك، ويمشون المداحض9، ويسرعون في ظلمات أهوية نفوسهم التي نشأت عن أوهامهم المضلّة، ويتّبعون في مسالكهم ظنوناً قادهم إليها فساد طبائعهم، لا يحسّون المصائب قبل أن تمس أجسادهم، وينسونها كالبهيمة بعد زوال آلامها، واندمال جراحها، ولا يشعرون لاستيلاء الغباوة على عقولهم، واكفهرار ظلمات غشاوة الجهل على بصائرهم، باللذائذ التي خصّ الإنسان بها من حبّ الفخار في طلب المجد والعزّ، وابتغاء حسن الصيت وبقاء الذكر، بل لاستيلاء الغفلة على عقولهم يحسبون أن يومهم دهرهم، والتقمقم كالسارحة10 شأنهم، لا يدرون عواقبهم، ولا يدركون مآل أمرهم، ولا يتداركون ما فاتهم، ولا يحذرون ما يتربصهم11 من أمامهم ومن خلفهم، ولا يفقهون ما أكمن لهم الدهر من الشدائد والمصاعب. ولذا تراهم قد رئموا الذل، وألفوا الصغار، وأنسوا الهوان، وانقادوا للعبودية، ونسوا ما كان لهم من المجد والمؤتل والمقام الأمثل. وبعد انحدارهم عن ذروة العقل الذي لا كرامة للإنسان إلا به، غلبت عليهم الخسّة والنذالة، ورانت على قلوبهم القسوة والجفاء وتمكن من نفوسهم الظلم والجور، واستولى عليهم العجب، لا عن جاه يدعو إليه، ولا عن فضيلة تبعث عليه، وتظاهروا مع الذل المتمكن من قلوبهم بالكبر والعظمة، وفشا بينهم الشقاق والنفاق، وتلبّسوا بالغدر والخيانة، واستشعروا الحسد والنميمة، وتسربلوا بالحرص والشره، وتجاهروا بالوقاحة والشراسة، واتسموا بالخشية والجبانة، وانهمكوا في الشهوات الدنيّة، وخاضوا في اللذات البدنية، وتخلقوا بالأخلاق البهيمية، متوسدين الكسالة والفشل، واتصفوا بصفات الحيوانات الضارية، يأكل قويّهم ضعيفهم، ويستعبد عزيزهم ذليلهم، يخونون أوطانهم، ويظلمون جارهم، ويسرقون أموال ضعفائهم، ويخوسون بعهودهم 12، ويسعون في خراب بلادهم، ويمنحون الأجانب ديارهم، لا يحمون ذمارا، ولا يخشون عاراً، عالمهم جاهل، وأميرهم وقاضيهم خائن، ليس لهم هادٍ فيرشدهم إلى سبيل نجاتهم، ولا زاجر فيكفّوا عن التمادي في غيّهم، ولا وزاع يقدع الجائرين عن نهش عظام فقرائهم، وصاروا بسخافة عقولهم وفساد أخلاقهم عرضة للهلاك.
الشعبة الثانية من المقصد:
في الشواهد التاريخية، على إضاعة الممالك الشرقية:
تأمّل فيما أقصّ عليك من أعمال الشرقيين من قبل حتى تعلم أنهم بحيدانهم عن سنّة العقل قد أوقعوا أنفسهم في الذلّ الدائم، وجلبوا بعد العزّ في عواقب أمورهم الخراب والدمار إلى بلادهم، وأضعفوا بسوء سياستهم بلادهم القوية، ومكّنوا أعداءهم من بلادهم جهلاً منهم بنتائج أعمالهم. وها هو ذا:
إنّ العثمانيين قد اتفقوا مع الروس على مقاسمة البلاد الإيرانية حينما تغلّب الأفغانيون على أصفهان أيام الشاه سلطان حسين. ولو نظروا بنظارة التدبر إلى الأمّة الروسية، وما لها من العلاقات مع اليونانيين والرومانيين والسربيّين وغيرهم من رعايا السلطنة العثمانية، وما يمكنها أن تحوزه في مستقبل أمرها من القوة والبسطة، لما اختلجت ببالهم محالفتها، ولا خطرت في أذهانهم مؤامرتها. بل كانوا يسعون في قلع أسها قبل استحكامه، وقطع شجرتها قبل أن تشج عروقها. وإنهم جاهروا الإيرانيين بالحرب من طريق بيزيد إذ كان عباس وجنوده يقاومون الروسية ويدافعون عن بلادهم، فوهنت قوتهم، وضعفت مريرتهم، واستملك الروس بسبب هذا الاقتحام أكثر بلاد آذربيجان، ولو استشار العثمانيون عقولهم وقتئذ لأشارت عليهم بأنّ ضعف الإيرانيين وقوة الروس هما معاً علة تزعزع أركان السلطنة التركية، ولكنهم اتبعوا خطرات أنفسهم وزيّنت لهم أوهامهم، وظنّوا أنهم يحسنون صنعا، فأسرعوا في هلاك أنفسهم وهم لا يشعرون، وكان عليهم اهتداءً بنور العقل، وسلوكاً في مسلك السياسة الحقة23 أن يلاحظوا الجامعة القوية، التي بينهم وبين السلطنة الإيرانية، فيتفقوا معها على كبح شره الروسية وإضعاف قوتها، أمناً من غوائلها، وحذراً من آفات مطامعها.
وإنهم أي العثمانيين جبهوا سفير (تيبو سلطان) سلطان (ميسور) بالرد حين عرض عليهم من طرف سيده استبدال البصرة ببعض البلاد الهندية14 التي كانت في حوزته، وامتعضوا من هذا الطلب وردوا السفير خائباً. وكان غرض (تيبو سلطان) من طلبه هذا أن يكسر سورة الإنجليز ببسط السلطة العثمانية في الهند وتمكينها منها.
وذهل العثمانيون تهاوناً منهم عن العلاقات التامة بينهم وبين الهنديين وأنّ سلطنتهم لو امتدت إلى تلك الممالك لدخل جميع حكامها بلا معارضة تحت لوائهم وقدروا حينئذٍ على قدع الحكومة الإنجليزية عن تطاولاتها في الهند، وسدّوا عليها طرق فتوحاتها في المشرق وما شعروا تساهلاً في السياسة وتغافلاً عن منهج العقل أنّ بسطة الحكومة الإنجليزية في آسيا توجب تحكّمها في بلادهم وطمعها في الاستيلاء عليها كما وقع الآن حتى مكنوا عساكرها مدة طويلة من شق الأراضي المصرية ذاهبة إلى أقاصي المشرق للتغلب عليها.
وأنّ شاه إيران (فتح علي شاه) إرضاءً للإنجليز هدد الأفغانيين بالحرب وقتما أرادوا أن يزحفوا على الهند لانتزاعها من أيدي الإنجليز ولو استنار الإيرانيون وقتئذ عقولهم لانكشف لهم أن قوّة الإنجليز بالهند إذلال لهم وخطر على بلادهم ولعلموا أنهم والأفغانيين غصنا شجرة الإيران25، قد تشعّبوا من أصلٍ واحد ونشأوا في أرضٍ واحدة، تجمعهم وحدة الجنسية، وتؤلفهم الأخوة الحقيقية، وأنّهم متساوون في العزّ والشرف، ومتشاركون في الذلّ والهوان، وما فرّقت كلمتهم إلا أوهام نشأت عن الظنون الدينية وليست منها في شيء. ولو راجع كلٌّ عقله لرأي وجوب اتفاقهم تحت الوحدة استرجاعاً لمجدهم السابق، وتداركاً لما فاتهم بسبب الشقاق من الشرف والفخار وعلو الكلمة بين الأمم.
وإنّ الأمير (دوست محمد خان) أمير الأفغان قد جعل بلاده تعامياً منه عرضة لهجمات الإنجليز. فإنّه بعد المحالفة مع (رنجيت سنك)16 ومعاهدته على مناصرته ضد الإنجليز قد تركه اغتراراً بالمواعيد الإنجليزية في ميدان الحرب وحيداً وتقهقر فانهزمت جيوش (رنجيت سنك)، وتغلّب الإنجليز على جميع أراضي البنجاب المتاخمة للأفغانستان. ولو استهدى الأمير (دوست محمد خان) إذ ذاك عقله وسلك في سياسته سلوك بصير يتدبر نتائج أفعاله قبل أن يشرع فيها، لتحقق لديه أن صيانة بلاده من هجمات الإنجليز إنما يكون ببقاء الحكومة البنجابية حريزة، حتى تكون سدّاً مانعاً بين أفغانستان وبين الحكومة الإنجليزية فكان يدافع عنها كما يدافع عن حكومته.
وإنّ نواب البنجالة ونواب (الكرناتك) قد مهدوا للإنجليز سبيل دخولهم في الأراضي الهندية. وإنّ نواب لكهنو أيد مقاصدهم في إذلال السلطة التيمورية وإنّ نواب دكن قد أعانهم على إبادة حكومة تيبو سلطان وإذلال راجة…
إضاعة أمراء المصريين لاستقلال بلادهم وعاقبتهم:
وإنّ اسماعيل باشا حباً بالاستقلال وعمىً عن نتائج أفعاله السيئة التي نشأت عن حرصه على اسم الملك قد ألقم الإفرنج جميع أموال مصر، وما استدانه من صرافي الأوروبا بالأرباح الباهظة. ثم سعى الإفرنج إلى خلعه عن الملك ونفيه عن الديار المصرية إرادة استملاكها ووضع اليد عليها – ولو تروّى في حالة الشرقيين، وتأمّل فيما أصابهم من الذل والصغار لأجل تفرق كلمتهم لازداد خضوعاً لسلطانه، وسعى صيانة لنفسه في تشييد مباني سلطنته، ونزع من قلبه حبّ الاستقلال، وعلم أنّ الذين لا يفترون عن السعي في فتح الممالك لا يمكن أن يساعدوه في مقاصده.
وإنّ وزراء توفيق باشا جهلاً بمقدار أنفسهم، وعجباً بآرائهم الفاسدة، واتباعاً لأوهامهم الباطلة قد جلبوا الإنجليز بغاية جهدهم إلى القطر المصري وملكوهم إياه، وهم يظنون أنهم يستظهرون بهم على أعداء الخديوي، فلو تدبروا في سياسة الحكومة الإنجليزية ورأوا
أطماعها في أرض مصر لما جلبوا هذه المصيبة على أنفسهم وعلى خديويهم وعلى سلطانهم، ولما ألقوا أنفسهم في فم الأسد خوفاً من وعوعة الكلب.
فقد ظهر من كلّ ما ذكرته من سير الشرقيين قدحاً في حالاتهم، أنّهم ما سلكوا في سياستهم سبيل الرشد والهدى، وما استفادوا من عقولهم شيئا، ولا تدبّروا في عواقب أفعالهم ونتائج أعمالهم، ولا نظروا بنور البصيرة في حالهم ومآلهم، بل تاهوا جهلاً منهم بمنافعهم في بيداء الغواية، وحادوا عمىً عن غاية مسيرهم في تيه الضلالة، حتى خربوا بأيديهم ديارهم، وأبادوا بسوء تصرفهم بلادهم، ومكّنوا الأجانب بمساعيهم الفاسدة من رقابهم. وكان الواجب على أحفادهم الذين احترقوا بنارهم، وتدنّسوا بعارهم، أن يعتبروا بالمصائب التي جلبتها عليهم غفلات أسلافهم، وأن يتّقوا البليّات التي قادتها الغباوة إلى آبائهم، وأن يسعوا في جمع الكلمة، وأن يتحذّروا عن الشتات والتفرقة، ويجتنبوا الأغراض الشخصية، ويعرضوا عن دواعي الخطوات الوهمية، ويتنحّوا عن مضال الاستبداد والاستئثار.
ولكن تراهم لسبات عقولهم يقتفون آثارهم ويتبعون أغلاطهم، معرضين عن العقل وإرشاده، جاحدين للحق وآياته، ارتفعت عنهم الأمانة، وفشت بينهم الخيانة، وانقطعت بينهم عرى الوداد، وانحلت عقدة الجنسية، كلّ ينظر إلى نفسه، ويسعى لمنفعة شخصه، جهلاً منه أن سعادته منبثّة في جميع آحاد الأمّة ولا يمكنه أن يفوز بها إلا بسعادة الكل، ولذلك فقد صاروا فقراء لا يملكون شيئاً، حائرين في معاشهم، ضالين عن رشدهم في مبدئهم ومعادهم، وكاد أن يقضي عليهم بذلٍّ أبدي وموت دائمي، بتلاشي جنسيتهم، وتناثر جمعيتهم.
ومع كل هذا ما فاتهم أوان التدارك، ولا ضاق عليهم زمان التلاقي، ولا أوصدت عليهم الأبواب، ولا انقطعت دونهم الأسباب، ولكن قد تمكن منهم القنوط، وغلب عليهم اليأس، وفترت هممهم، وضعفت عزائمهم، واستكت آذانهم عن استماع النصائح، وعميت أبصارهم عن رؤية الحق، وقست قلوبهم عن الإذعان له، فتراهم امتداداً في غيهم يريقون دماء هداتهم، ويتبعون آراء غواتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
***
انتهى مقال السيد الأفغاني.
وهنا نلحظ أن السيّد الأفغاني قد ربط كلّ مظاهر الجمود والتدهور والانحراف إلى سبب أساسي- هو: انهيار الشخصية، وقوام الشخصية عقل ونفس، والعقلية تبنيها العلوم والمعارف والخبرات والتجارب والرؤية الكلية ووضوح الأهداف والغايات والمقاصد، ومناهج توخيها وتحقيقها، والنفسية قوامها الفنون الشريفة والآداب العالية التي تجعل من الإنسان إنساناً سويّاً يشعر بمزاياه وبإنسانيته وكرامة نوعه وجنسه، فإذا انهارت العقلية أو النفسية أو كلاهما فقد انهارت الشخصية، ودمّرت. وانهيار الشخصية ينعكس على سائر جوانب الحياة بسلبياته ومشاكله. والسيد يضرب الأمثلة التي تهز القلوب والمشاعر، ويسوق النماذج المختلفة لكلّ أجزاء العالم الإسلامي عربية وغيره، وبشكل تحريضي ليدفع الناس دفعاً، ويسوقهم بشدة إلى إعادة بناء “العقلية والنفسية” ليتم بعد ذلك تركيب الشخصية المفككة من جديد، فيعاد بناء الحياة والنظم، وإرساء دعائم الاجتماع والتمدّن.
ومن الغريب أنّنا تجاوزنا تاريخ هذه المقالة بتسعة عشر عاماً ومائة، ولو رفعنا أسماء الحكومات والحاكمين ووضعنا العناوين المعاصرة لظنّ القارئ أنّ المقالة كُتبت وأعدّت هذه الأيام، لا قبل مائة وتسع عشر عاما!.