حوار مع الفقيه العلواني:
في محاولات تدبر القرآن.. أجيال وأخطاء
الحلقة الأولى
حاوره: إسلام عبد العزيز فرحات
بمبضع الجراح المتمرس.. حاول الفقيه الأصولي الدكتور طه جابر العلواني أن يحدد طبيعة الإشكال في تعامل الأمة مع القرآن الكريم.. مشددًا على أن منهج ما أسماه “جيل التلقي” هو المنهج الأمثل في علاقة المسلم بكتاب ربه..
ورأى العلواني أن المدخل الأهم لمقاربة القرآن الكريم بمنهج ” جيل التلقي” هو ما عبر عنه بـ “مدخل الأزمات” وهي حسب تعبيره ” الأسئلة التي يفرزها الواقع فينزل القرآن المجيد بمناسبة إثارتها، لا ليلتصق بذلك الواقع، ويُستوعَب في مشكلاته وأزماته، كما يتوهم بعض الجاهلين، بل ليستوعبها بحلوله وإجابته ويقوم بترقية الواقع ثم تجاوزه، وهكذا يبقى القرآن الكريم في حالة استيعاب وتقديم حلول وترقية للواقع ثم تجاوزه إلى غيره.
أيضا فإن العلواني وهو رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، وعضو العديد من المجامع الفقهية الكبرى، نعى على المدرسة الفقهية الأصولية التي ينتمي إليها طريقة تعاملها مع القرآن الكريم؛ لاقتصارها على قراءة النص القرآني بحثا عن الحكم فقط، وهو ما رفضه العلواني لأن “البحث عن حكم شيء، واستجلاء معاني القرآن بجملتها شيء آخر، لذلك كان في ذلك التحديد نوع من تجاوز مفهوم الوحدة البنائية للقرآن المجيد”.
الحوار إذن محاولة حثيثة لتقديم طرق عملية لمقاربة القرآن الكريم، وفهمه وتدبره، إسهاما في إنهاء حالة من القطيعة المعرفية والتدبرية بين الأمة المسلمة وكتاب ربها.. لكنه يبدأ بمعرفة محاولات مقاربة القرآن الكريم على مر العصور، وما نجم عنها، حتى يمكن تجنب مشاكلها.. فإلى نص الحوار……….
* فضيلة الدكتور.. هل لنا بداية ونحن نحاول أن نسهم في بيان طريق مثلى للتعامل مع القرآن وفهمه أن نحدد منهجا يتم على أساسه بناء تلك المحاولة..؟
** بداية أحب أن أؤكد على أن هذا السؤال يمثل ظاهرة جديدة بكل المقاييس على العالم الإسلامي، وهي ظاهرة العناية بـ “تدبر القرآن” وهذه الظاهرة أعتبرها امتدادًا لظاهرة سبقتها هي ظاهرة العناية بإعادة كتابة تفاسير معاصرة للقرآن الكريم، فقد أدرك الكثيرون أن كتب “التفسير” القديمة على أهميّتها وتنوعها لم تعد كافية لربط المسلم المعاصر بالقرآن الكريم الذي تغيّرت عليه أعداد كبيرة من المصطلحات والمفاهيم، وصارت “عربيَّة العصور السابقة” صعبة الفهم، عسيرة التناول عليه.
ومنذ انحسار “الغزو المغوليّ” وفشل “حروب الفرنجة” التي سمّاها المؤرخون والكتاب الغربيّون “بالحروب الصليبية” ومحاولات الكتابة السهلة الميسَّرة في التفسير لم تنقطع في سائر أنواع التفسير، ولدى مختلف الفرق الإسلاميّة.
كما ساعدت التطورات المتعلقة بحركة الطباعة والنشر والاستشراق على إحياء وطبع ونشر عدد كبير من عيون التفاسير القديمة وتوفيرها للمعاصرين، وإبراز الاتجاهات المتعدّدة التي خضعت تلك التفاسير إليها من الاتجاه الآثاري والإشاري والبياني والعلميّ والفلسفيّ والظاهريّ والباطنيّ والفقهيّ والعقيديّ أو الكلاميّ.
وبعد توسُّع قاعدة العناية “بحفظ القرآن وفهمه” وجد الكثيرون الحاجة ماسَّة إلى استيعاب -“التراث التفسيريّ” بقدر الإمكان، ومعرفة علاقاته بالأزمنة والعصور التي أعد منها، وتجاوزه إلى العصور الراهنة التي لا تقل حاجتها إلى استلهام معاني القرآن المجيد والكشف عن مقاصده وقيمه وأحكامه وسننه في بناء المجتمعات وإقامة الحضارات وتأسيس الأمم عن حاجات السابقين.
* تقصد أننا نحتاج إلى جهود أخرى تستلهم روح القرآن لتتناسب مع العصر..؟
** نعم.. فالقرآن الكريم كتاب مكنون، وهو يتكشّف عبر العصور عن مكنوناته ليستوعب مشكلات وقضايا العصور -كلّها- وبحسب سقوفها المعرفيَّة وعلى اختلاف أنساقها الثقافيَّة والحضاريَّة، فهو “مصدق مهيمن ومستوعب ومتجاوز” وفي استيعابه يستطيع أن يستوعب الكون وحركته، والعالم وأزماته وإشكاليّاته، وليقوم القرآن بذلك لا بد من “التطهّر والتدبُّر” فالتطهر الإلهيّ إعداد وتهيئة للإنسان لمسّ “معاني القرآن”؛ ولذلك قال (جلَّ شأنه) ﴿ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة:79) ، فهؤلاء هم المؤهلون للعروج إلى علياء القرآن الكريم بسلّم التدبُّر.
ومع توافر عشرات الألوف من التفاسير بأنواعها التي أشرنا إليها سابقًا، إلا أن “أهل القرآن” قد وجدوا أن أهم تفسير للقرآن المجيد هو القرآن نفسه فالقرآن يفسِّر بعضه بعضًا، ثم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حيث إنّه صلوات الله وسلامه عليه وإن لم يؤلف كتابًا في التفسير، لكنه قام بتفعيل وتأويل القرآن في الواقع واقع “جيل التلقي” فقد كان عليه الصلاة والسلام يتلقى القرآن من لدن حكيم خبير فيتلوه على أصحابه ويأمر الكاتبين أن يكتبوه، ويعلمهم إياه على مكث، ثم يبرز لهم حكمه، ثم يوضح لهم – عمليًّا- كيفيَّة العمل به ليزكيهم به، فهو صلوات الله وسلامه عليه من علمهم الكتاب والحكمة وزكاهم به.
* إذن.. أفهم من هذا الاستعراض التأصيلي أن منهج ما أسميته فضيلتكم “جيل التلقي” هو ما ترتضيه منهجا يتم على أساسه بناء مقاربات لفهم وتدبر القرآن الكريم.. أليس كذلك؟
** بلى.. هذا هو المنهج الأصوب في التعامل مع القرآن.. لكن دعني بداية قبل استعراض منهج جيل التلقي أن ألفت إلى أن بعد جيل التلقي جيلين، من المهم أن يتم التعرف عليهما وعلى ما أرسوه من مناهج لفهم القرآن الكريم، حتى تتضح طبيعة الإشكاليات التي نجمت عنها، لأنني أرى أنها من الأمور التي أسهمت بشكل أو بآخر في تلك القطيعة المعرفية مع القرآن الكريم، والتي أرساها منهج جيل التلقي في التعامل مع كتاب الله جلَّ وعلا..
فهناك مثلا الجيل الثاني مباشرة بعد جيل التلقي، وهو جيل صغار الصحابة الذين كبروا بعد وفاة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- وكبار التابعين، هذا الجيل كان يسمّى بجيل الرواية؛ لأنَّه بدأ يلتقط كلّ ما تركه جيل التلقي، ويحاول استيعابه وتداوله، ومعالجة مستجداته به، ونقله إلى الأجيال الأخرى، ولذلك نسميه بجيل الرواية نسبةً إليها..
وقد ازدهرت الرواية، في ذلك الجيل سواء الرواية المتعلقة بنقل القرآن المجيد وتعليمه للأجيال التالية، أو نقل قراءاته وأحكام تجويده والصلاة به وكيفيّات اتباع النبي _ صلى الله عليه وسلم_ له وتنزيله في واقع معيش وسائر ما يتعلق بذلك، أو الأحاديث النبويّة الشارحة سواء أكانت أحاديث قوليّة أو أحاديث فعليّة تطبيقيّة أو أحاديث تقريريّة، تلك الأحاديث الشارحة والمبيّنة لكيفيّات الاتبّاع للقرآن المجيد..
ويلاحظ أنَّ هذا الجيل –أيضًا- كانوا حديثي عهد بجيل التلقي فكانوا شديدي التعلّق بالقرآن المجيد، وشديدي التعلّق بقضاياه. صحيح أنّهم لم يكونوا بمستوى جيل التلقي الذي كان الخطاب القرآنيّ يشتبك مع بيئته لإحداث التغيير فيها بالطريقة التي جُبِلَ عليها جيل التلقي، ولكن كان لهم من ذلك نصيب كبير وافر، إذ لم يطل الأمد بعد ولم تقس القلوب..
* كيف ترى جهود هذا الجيل أو حتى الإشكالات التي نجمت عن تعامله مع القرآن الكريم..؟
** إن أهم ما يمكن رصده في هذا الجيل «جيل الرواية» هو أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم_ في مرحلة التلقي كان يمثل المنهج الذي به يعرف أبناء ذلك الجيل دقة معرفتهم وسلامتها لمراد القرآن المجيد، فهو _ صلى الله عليه وسلم_ يعلّمهم الكتاب أدق تعليم وأصحه، ويبين بكل مراتب البيان كيفية اتباع القرآن المجيد مع الأمن من الوقوع في الخطأ؛ لأن الوحي كان يستدرك ويسدد ويتابع التطبيقات النبوية فلا مجال للخطأ لوجود كل هذه الضوابط الصارمة.
أمّا بعد غياب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم_ والتحاقه بالرفيق الأعلى فقد أقبل جيل الرواية على جمع كل ما استطاع جمعه من السنن والآثار والمرويات عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ والصحابة الذين عايشوه وشاهدوه، فقد كان ذلك هو الوسيلة البديلة عن الوجود الشخصي له _ صلى الله عليه وسلم_ فكأنّ السنن الصحيحة تقوم بالمهمة، أعني مهمة «المنهج » الذي يضبط فهم المسلم وتحركه في الواقع وهو يمارس عملية «اتباع القرآن».
وقد كان ينبغي أن تُؤسس دراسات توضح كيفية «التعامل المنهجي» مع السنن بأنواعها؛ لئلا يحدث كثير من اللّبس وسوء الفهم، ولو أسست مثل تلك الدراسات لبقيت حركة «الاجتهاد والتجديد» حيّة تمارس دورها في كل عصر ومصر في عملية استيعاب المستجدات وترقيتها بالقرآن، ومنهج التعامل معه بمنهج التعامل مع السنة، ولسارا معًا دون افتراق فتكون السنة «بكلياتها منهجًا» و«بجزئياتها فقهًا» وتزول بذلك كثير من الإشكاليات الموروثة والمعاصرة.
* بعيدا عن جيل الرواية فضيلة الدكتور.. هناك نظرة أخرى تم من خلالها مقاربة القرآن الكريم.. وهي نظرة الأحكام الفقهية.. فالقرآن طبقا لهذه النظرة أصل عمله ضبط الحياة بضوابط التشريع.. فما رأيكم في تلك المقاربة.. خاصة وأنتم تنتمون لتلك المدرسة الفقهية..؟
** نعم.. هذا هو الجيل الثالث، وهو ما يسمى “جيل الفقه”، وهذا الجيل استطاع أن يغطي متطلبات الحياة بفقه النص، فالمجتهد أو العالم من الأئمة المعروفين أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسفيان والأوزاعي وسواهم، هؤلاء كلهم كانوا يقرؤون الخطاب، ولكن من مدخل البحث عن الأحكام الشرعيّة..
* أنا ألمح من حديثكم شبه اعتراض على هذا المدخل، مع أهميته للحياة الإسلامية بصفة عامة..؟
** أبدا.. هو مدخل سليم صحيح يفيد قارئه ما يتعلق بالأحكام، وهو مهم من الوجهة التي تحدثت عنها.. إلاّ أنه يجعل عقل الباحث ولبّه دائرين بتركيز تام حول الحكم الشرعيّ الذي يراد الوصول إليه، ولذلك رأينا الأجيال الذين جاءوا بعد هؤلاء الأئمة الكبار يحاولون أن يحصوا ما سموه بآيات الأحكام ويعدوها ليمارسوا عمليّات الاستدلال والاستنباط فيها، فبعضهم عدها «500 آية» وبعضهم «300 و340»، أو أقل أو أكثر من ذلك بحسب قواعد كل مذهب من هذه المذاهب.
فمدخل الفهم أو مدخل مقاربة القرآن المجيد لديهم كان مدخل الأحكام؛ أي: البحث عن حكم لمسألة من المسائل التي تعج بها الحياة، ومعلوم أن البحث عن حكم شيء، واستجلاء معاني القرآن بجملتها شيء آخر، لذلك كان في ذلك التحديد نوع من تجاوز مفهوم الوحدة البنائية للقرآن المجيد.. وهو ما أسهم فيما بعد في تكريس إشكالات كثيرة في تعامل الأمة مع القرآن الكريم في العصور اللاحقة.
فهذا المدخل مدخل البحث عن الأحكام في القرآن هو الذي ساد بعد ذلك بالنسبة للأجيال التي تلت ذلك الجيل، ولذلك ساد نوع من الفهم، -وهو فهم فيه نظر- بأن القرآن الكريم مصدر للتشريع أو مصدر أساس للتشريع..
* هل تعترض فضيلتكم على تلك المقولة؟
** لا.. هي صحيحة بوصف القرآن المصدر المنشئ للتشريع.. لكن مشكلتها أنها جعلت الأنظار تتجه إلى آيات الأحكام واعتبار ما عداها آيات مسوقة للعبرة والاتعاظ، فهو مصدر للعظة والعبرة بما تناول في قصصه وأمثاله، وأضاف آخرون: إنّ القرآن مصدر للغيب، ولما لا يدرك إلا بالسمع من أمور الآخرة.
ولذلك فقد حاول البعض أن يحصر أغراض القرآن الكريم في تلك الأغراض الثلاثة فقط، فقالوا: القرآن الكريم يبيّن لنا العقيدة وعالم الغيب، ويبيّن لنا الأحكام الفقهية فيما يتعلق بشئون الحياة، ويبيّن لنا في الوقت نفسه قصصًا وأمثالًا نأخذ منها العبر والدروس، وتلك هي محاوره التي دارت آياته –كلها- حولها.
* اسمح لي يا دكتور.. على مستوى الاحتياجات البشرية من القرآن، أعتقد أن تلك الأدوار كافية، فعلى أي مستوى تتحدث فضيلتكم إذن ؟
** سبحان الله.. يا سيدي القرآن المجيد أعظم من هذا وأوسع من تلك المحاور كلها وأشمل..
ولو أن جيل الفقه أرسى دعائم ذلك الفهم وأصّل له، وتجاوز قراءته الجزئية الخاصة “بآيات الأحكام” لتغير وضع الفقه وأصوله، ولأخذ ” مدخل القراءة التشريعية” منحى آخر؛ لأنه لو حدث ذلك لخرج الفقيه إلى رحاب القرآن الكريم الواسعة، ولما حصر جهده في آيات الأحكام، ولوجد نفسه يتجه باستمرار نحو الفقه الأكبر في القرآن، ولأدرك أن القرآن منشئ بكليته والسنة منهج ضابط يعصم الذهن عن الخطأ في فهم القرآن، وسلامة اتباعه، وبيان ذلك في سائر مستويات البيان، وذلك في كلياتها، وأما جزئياتها فتستطيع أن تقدم فقهًا نبويًّا أكبر لا ينفصل عن القرآن، بل يصدَّق القرآن عليه ويهيمن.