في الحلقة الثانية من الحوار معه:
العلواني: أزمات الأمة مدخل لتدبر القرآن
حاوره: إسلام عبد العزيز فرحات
في حلقته الثانية يأتي هذا الحوار مع الفقيه الأصولي الدكتور طه جابر العلواني الرئيس السابق للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ورئيس جامعة قرطبة بالولايات المتحدة الأمريكية.. والذي نحاول من خلاله وضع أسس منهجية لمقاربة معرفية للقرآن الكريم..
في الحوار السابق كان الحديث عن محاولات للمقاربة عبر أجيال عديدة، أظهر العلواني في استعراضها تغلب طبيعة الشخصية التي كانت تمارس تلك العملية، فمن أهل الحديث والأثر إلى أهل الفقه.. دارت محاولات فهم القرآن الكريم، فكانت محاولات ضيقة الأفق محدودة الأثر، أسهمت بحسب العلواني في توسيع الفجوة المعرفية بين الأمة وبين القرآن..
في تلك الحلقة يعود بنا العلواني إلى ما أسماه “جيل التلقي” ومنهجه الذي أسماه ” منهج الأزمة” في مقاربته للنص الإلهي، مؤكدا على أنه المنهج الأمثل الذي يمكن البناء عليه في محاولة تدبر القرآن الكريم بموسوعيته وشموله.. فإلى نص الحوار……….
* فضيلة الدكتور.. في الحلقة الماضية استعرضت بعضا من المحاولات التي قاربت القرآن الكريم، وفهمت من استعراضكم أنها محاولات غلب عليها الطابع الشخصي.. أعني طبيعة العلم الذي كانت تتم المحاولة من خلاله.. ألا ترى أن النص الإلهي في حد ذاته باتساع عطائه يحتوي كل تلك المحاولات..؟
** نعم.. يحتويها ويستوعبها ويتجاوزها، ولذلك كان من المفترض أن يقوم هؤلاء بتجاوز تلك المرحلة والدخول في عالم القرآن الرحب الواسع..
وهنا لا بد من التنبيه على أمر غاية في الأهمية لبيان مرادنا مما نقول.. وهو أنَّ القرآن المجيد نزل على قلب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم-، ونزول القرآن على القلب له معنى شديد الأهميّة، إذ أنه يشير إلى أنّ العلاقة مع هذا القرآن ينبغي أن لا تبنى بطريق اللسان-وحده- وترديد الآيات والكلمات، ولكن تبنى هذه العلاقة في إطار “الاستيعاب القلبي” وفهمها..
وحسب استقبال القلب لآيات الكتاب الحكيم يكون الانفعال بالقرآن، فحين ينص سبحانه على أن النزول كان على القلب ويقول: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾، ثم يقول (تبارك وتعالى) ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ﴾ فإنّ لذلك دلالات هامَّة، فكلّنا يعلم أنّ الإنسان حين يريد أن يحفظ نصًا يلجأ إلى تكراره، وترديده بلسانه مرات عديدة لكي يبلغ درجة الحفظ له…
أمَّا القرآن الكريم، فالأمر معه مغاير، ينزل أول ما ينزل على القلب أولًا، مما يجعل حركة اللسان حركة تابعة لحركة القلب وبشاشته مع القرآن الكريم، وذلك يعني أن الإنسان الذي يريد أن يلج إلى رحاب القرآن متدبّرا لا بد أن ينفعل به قلبه ويخبت له أولًا، ، ويتهيّأ القلب قبل أيّ شيء آخر لاستقبال أنوار القرآن المجيد والتفاعل مع خطابه.
فإذا جئنا إلى مداخل القراءة المتدبّرة بعد الانفعال القلبيّ واستعداده، لنعرف كيف يمكن أن يشتبك القرآن المجيد مع الواقع الذي نحياه حتى يقوم بتغييره؛ آنذاك سوف نجد أنفسنا في حاجة إلى أن نجلس بين يدي القرآن، ضارعين خاشعين متعلّمين..
فالقرآن الكريم بالنسبة لنا نبيٌّ ورسول مقيم، ونبيٌّ ورسول دائم، تركه الله بين أيدينا، بعد أن رفع من أنزله عليه – صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الرفيق الأعلى، فعليّنا أن نتهيأ نفسيّا وعقليًّا وقلبيًّا حينما نأتي إلى عالمه الرحب الواسع، لأنَّه للذين آمنوا هدى وشفاء، وهو على غيرهم عمى..
فليست كل قراءة قراءة ولا كل تلاوة تلاوة، وإنما تتحقق التلاوة المطلوبة المتدبّرة عندما نقارب القرآن من مداخله الأساسيّة، وهي تلك القراءة التي يمكن أن توصف بأنها تلاوة للقرآن حق التلاوة،”يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ”، وهنا يتبين ما قصدته من أن تلك المحاولات لم تكن قادرة على تخطي أفقها الضيق، وإدراك خصائص القرآن الأساسية، ولو فعلت لتغير الحال كليا وجزئيا على كل مستويات الأمة.
* بعيدا عن تلك المحاولات إذن.. ذكرت عرضا ما اعتبرته منهجا أمثل في فهم القرآن وتدبره.. وهو ما أسميته منهج “جيل التلقي” هل لكم أن توضحوا لنا مقصودكم به، وما طبيعته؟
** نحن نعلم أنّ الجيل الذي عاصر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وهو جيل الصحابة أو جيل التلقّي، الذي تلقّى القرآن الكريم من لدن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- كما تلقّاه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من لدن الحكيم الخبير، هؤلاء تعلموا كيف يتدبّرون القرآن.
لقد كان نزوله مفرّقًا ومنجمًا، وارتباطه بقضايا عصرهم ووسطهم من العوامل المساعدة على حس التدبّر، وكذلك مشاهدتهم لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أثناء نزوله عليه وتلك حكمة بالغة أرادها الله (تبارك وتعالى) لبناء الجماعة الأولى بناءً نموذجيًا..
* عفوا دكتور قبل الاسترسال.. البعض تحدث عن هذا على اعتبار أنه دليل عندهم على نفي صفة الإطلاق عن القرآن الكريم، واعتباره نصا ” تاريخانيا”، يعني ما نعتبره نحن دليلا على حيوية القرآن يعتبرونه هم دليلا على جموده واقتصاره على مرحلة زمنية بعينها.. فكيف ترد عليهم..؟
** أبدا.. هذا لا يعني الإخلال بإطلاق القرآن الكريم، ولا يمكن أن يؤدي إلى وصفه “بالتاريخانيّة” إلاّ لدى المستشرقين الذين لم يؤمنوا بالقرآن فكان عليهم “عمى” وتلامذتهم الذين كانوا أشدّ ضلالاً منهم..
ولذلك نجد علمًا من علوم القرآن سمي بعلم “أسباب النزول” أو “مناسبات النزول“، فكثيرًا ما تفرز البيئة، بيئة الصحابة سؤالًا أو إشكالًا أو أزمة ويهرع الصحابة إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- سائلين عن الحل، باحثين عن الجواب، ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إمَّا أن تكون لديه من آيات الكتاب جملة يمكن أن يحيل عليها ويوضح لهم أنّ ما يسألون عنه سوف يجدون جوابه في هذه الآيات، وإمّا أن يخبرهم بأنّه سوف ينتظر الوحي من الله -تبارك وتعالى- وتنزل الآيات لتعالج تلك المشكلة، وتبين سبيل الهدى في تلك الأزمة..
حدث ذلك مثلًا في “قضية الإفك”، حينما اتُهمت أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وأرضاها، من أولئك المنافقين بتلك التهمة والفرية النكراء، وانتظر رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- وعائشة وأصحابه، انتظروا شهرًا كاملًا وهم في غاية الضيق والحرج والحيرة..
ثم ينزل القرآن المجيد بعد شهر كأنّه دهر طويل من الانتظار ليقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ إلى آخر الآيات..
وهنا يأتي الرد على هؤلاء الذين يتهمون القرآن بـ “التاريخانية”؛ لأن تلك الآيات تجيب عن السؤال القائم، وتعالج الأزمة القائمة في تلك البيئة، وتعطي أحكامًا من طبيعتها العموم والشمول والإطلاق لكي تستفيد البشريّة كلها بتلك التوجيهات حتى يوم القيامة.
ولذلك، قال الأصوليون: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب“، فالسبب نأخذه بنظر الاعتبار لمزيد من الفهم، لكن العبرة الأساسيّة والفهم الأساس هو القائم على عموم اللّفظ ومعرفة ما يمكن أن يندرج تحته ودلالات اللفظ نفسه، لتكون الحلول والمعالجات القرآنيّة مطلقة، صالحة لكل زمان ومكان، عالميّة صالحة لكل مجتمع.
وعلى هذا النمط عاش المجتمع المسلم في حالات كثيرة من الأزمات التي تتجلى فيها روعة النص الإلهي.. وهذه نسميها مناسبات النزول أو أسباب النزول _ كما يطلق البعض عليها_ لا تقيد القرآن بنفسها ولكنها تعطي مزيدًا من الضوء على فهم الآية، وفقه تنزيلها على الواقع الذي يعيشونه..
فجيل التلقي لمشاهدته القرآن وهو ينزل على رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم- ، ولارتباط كثير من نجوم القرآن بقضايا كانوا يعايشونها، كانت قضية تعاملهم مع القرآن الكريم، وفهمهم له قضية ميسَّرة لا يحتاجون فيها إلى مفسّر، أو مؤول، فلغة القرآن قريبة جدًا من لغتهم -مع إعجاز لسان القرآن- والقرآن ونجومه تتنزل تباعًا، وتشتبك مع بيئة الخطاب التي هي بيئتهم في عمليّات التغيير الدائمة المستمرة، وتلك أفضل الوسائل والمنطلقات لتحقيق ذلك الفهم العميق، ولذلك كان ذلك الجيل -جيل التلقي- أفضل الأجيال، وهو الجيل الذي استحق أن يوصف بأنّه جيل القرآن المجيد، ويحمل صفة الخيرية والوسطية والشهادة على الناس وهو الجيل الذي يستحق أن يلقب بأنه “جيل السلف” و “جيل التلقي”.
* إذن.. هذا ما ميز جيل التلقي، القرآن يتنزل غضا طريا على وقائع حياتية، ويؤسس لحلول عملية لكل مشاكلهم، السؤال هنا يا فضيلة الدكتور.. كيف يكون هذا هو المنهج الأمثل، بمعنى كيف نستطيع تمثله في ظل انقطاع الوحي وموت الرسول صلى الله عليه وسلم، وتغير العصر؟
* هذا سؤال جيد.. لكنني لم أقصد أبدا أن تكون الوسائل هي هي.. أبدا، فهذا عين المستحيل.. لكني أردت مما قلت أن أنبه على أن أهم المداخل لمقاربة القرآن المجيد في “جيل التلقي” مدخل الأزمات والأسئلة التي يفرزها الواقع فينزل القرآن المجيد بمناسبة إثارتها، لا ليلتصق بذلك الواقع، ويُستوعَب في مشكلاته وأزماته، كما يتوهم بعض الجاهلين، بل ليستوعبها بحلوله وإجابته ويقوم بترقية الواقع ثم تجاوزه، وهكذا يبقى القرآن الكريم في حالة استيعاب وتقديم حلول وترقية للواقع ثم تجاوزه إلى غيره.
لكن بالطبع هناك فروق دقيقة بين “عصر التنزيل” والعصور التي تلته؛ ففي عصر التنزيل كان القرآن ينزل نجومًا ليجيب عن أسئلة الواقع، ويستوعبها ثم يتجاوز بالواقع تلك المشكلات بعد معالجتها وترقية الواقع وتمكينه من تجاوزها.
أمّا بالنسبة للعصور التالية فإن القرآن الكريم تامٌ كامل، وذلك يقتضي أن يؤمن الناس أولا بموسوعية القرآن، وبأنه ” ما فرطنا في الكتاب من شيء” ثم يصوغون أزماتهم وإشكالاتهم وأسئلتهم، ويذهبون بها إلى القرآن الكريم ليضعوا ذلك بين يديه، ويستنطقوه الجواب..
وقد يطول الحوار بين أصحاب الأزمة والمشكلة أو السؤال، وقد يحتاجون إلى قراءة القرآن كله لئلا يتحول الأمر إلى إسقاط موضوعات القرآن الكريم مصاغةً خارجه، لأن القرآن الكريم هو الذي يصوغ موضوعاته إذا أحسن القارئ الحوار معه، وهذان الأمران من أهم الفوارق بين “جيل التلقي” والأجيال التالية، وبينه وبين كل المدارس التي حاولت مقاربة القرآن كما استعرضناها من قبل..
* لكن “مدخل الأزمة” الذي تتحدث عنه فضيلة الدكتور في حال “جيل التلقي” لطبيعة ظروف الجيل، ولطبيعة ونوعية الأزمات نفسها.. كان سهل التناول، لكن تعقيدات الأزمات التي تواجهها الأمة الآن ألا ترى أنها تقف حائلا أمام محاولة استنطاق القرآن بحلول لها..؟
** يا سيدي إن نزول القرآن الكريم منجما كأنه رسالة من الله عز وجل للأمة وللناس أجمعين أن اعلموا أنه كلما تعرضتم لأزمة أو عرض لكم سؤال أفرزته واقعة جديدة فسيكون الحل في القرآن الكريم.. حتى وإن انقطع الوحي؛ لأن القرآن تتسع كلياته العامة لاستيعاب كل المستجدات مهما كانت درجة تعقيدها وتشابكها..
وهنا تجدر الإشارة إلى أن قصر مقاربة القرآن الكريم على ما قلنا إنه ضبط الحياة بالضوابط الشرعية الفقهية أمر غاية في تضييق اتساع القرآن..
ذلك لأن المجتمعات الإنسانيَّة لا تواجه أسئلة فقهية فحسب؛ لأنَّ الأسئلة الفقهية مهما بلغت إنما تشكل جانبًا ليس واسعًا أو كبيرًا من جوانب احتياجاتنا، بل هي جزءٌ له أهميّته لكنه ليس كل شيء؛ فهناك أزمات مختلفة، وكثيرة؛ بعضها عقديّ، وبعضها فكريّ معرفيّ “وبعضها حضاريّ”، واجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ؛ وبعضها قد يتعلق بقضايا العلاقات بين الأمم، وغير ذلك من أمور، وكلها لا بد لنا من الوعي بها، ومحاولة مقاربتها، أو مقاربة القرآن بحثًا عن رؤية قرآنيّة فيها وحلول لها.
الصراع العالمي
* لنبتعد قليلا عن التنظير فضيلة الدكتور حتى نكون أكثر عملية، ولنطرح أزمة من الأزمات التي تعانيها الأمة، لترينا تطبيق هذا المنهج عمليا ” الأزمة الفلسطينية” على سبيل المثال.. كيف نستطيع ” استنطاق” القرآن كما عبرتم لحل تلك الأزمة؟
** لا.. قبل أن أعطيك مثالا خاصا بالأمة المسلمة، دعني أؤكد على أن القرآن وضع أساسا لحل الأزمات الإنسانية العامة، وفيه من المحددات المنهاجية ما نستطيع لو قاربناها بصدق أن نؤسس لمرجعية عالمية، بغض النظر عن مشاكل الأمة ذاتها..
يعني مثلا أزمة الصراع في العالم، أستطيع أن أقول -بكل ثقة- أن للقرآن كلمة في طرق معالجة وإنهاء هذا الصراع وتحقيق السلام العالمي، إن القرآن الكريم يمكن أن يعالج هذا، ويستطيع أن يقدم للبشريّة شيئًا من “المحدّدات المنهجيَّة” والمؤشّرات التي تعينهم على التخلّص من عوامل الصراع وتخفيض مصادره، أو لنقل تجفيف مصادر النزاع والصراع بينهم تمهيدًا لمناداتهم جميعًا بـ “ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً”.
* كيف ذلك..؟
**القرآن الكريم يؤكد للبشر – وهنا تبرز أهميّة صفة “الكونيّة” في القرآن الكريم- أنّهم أسرة واحدة ممتدة، ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾..
إذن الأصل نفس واحدة، والأصل الثاني أسرة واحدة ممتدة، إذن فالبشر -كلهم- ينتمون إلى أسرة واحدة ممتدة، كلكم لآدم وآدم من تراب، تُرى لو ساد هذا الشعور لدى البشريّة ووعت به، وأدركت أن اختلاف ألسنتها وألوانها، وأديانها ومذاهبها، وعروقها ومصالحها، والمواقع الجغرافية التي تعيش فيها، إنما هي اختلافات طفيفة تحدث في الأسرة الواحدة لا تجعل منهم أممًا مختلفة؛ لأنها ما وجدت إلا لإعانتهم على التعارف، والتعارف يستدعي التآلف، والتآلف يستدعي بعد ذلك التعاون، لما وجد أيُّ أحد مبررًا لكي يقاتل أخاه، أو يشتبك مع أسرته، أو يحّول أبناء أسرته الواحدة الممتدة إلى أعداء، ولكن تناقض المصالح، وفقدان آليات احتواء الصراعات التي أرشد القرآن الكريم إلى الكثير منها.
وغياب هذه النظرة الإنسانية المتوازنة التي أرسى القرآن المجيد دعائمها، هذه الأمور كلها لم تسمح للبشر أن يروا فيما بينهم إلا عوامل الاختلاف والتنافر لا عوامل الائتلاف والتآخي، كما أنّ إعلائهم بشأن الصفات غير الثابتة على صفتهم الأساسية المشتركة الإنسانية هيأهم للسقوط في اختلافات كثيرة ثم التنازع حولها.
والبشريّة اليوم تحاول جاهدة أن تجد أي مصدر “كونيّ” يمكن أن يعينها على رأب الصدع، وقد ابتكرت الجامعات الأمريكية والغربية ما أطلقوا عليه “علم حل المنازعات“ أو Conflict Resolution فلم يستطيعوا لحد الآن بالرغم من الآليّات الكثيرة المقترحة أن يقدموا لنا ما قدمه القرآن الكريم في مؤشّرات محدودة مشوقة جدًا، ومؤثِّرة جدًا، وقادرة على تهيئة النفس البشريّة لاستقبال فكرة الانتماء إلى الأب الواحد والأسرة الممتدة الواحدة، وهذا الاعتقاد خطوة معجزة في تهيئة البشريّة لتحويل التعدد والتنوع إلى عوامل إيجابيَّة في معالجة أسباب الصراعات والمنازعات والحروب، إضافة إلى الإيمان بوحدة الأرض بيتًا للإنسان، وموضع عبادة وطهور وأن موارد الأرض خلقت بمقادير ونظم دقيقة لتكون كافية للأسرة البشريّة الممتدة إذا سادت البشريّة القيم القرآنيّة.
وقد أكَّد القرآن المجيد أن الأرض-كلّها- بيت للإنسان؛ الإنسان بمفهومه الشامل، يعني هذه الأسرة الممتدة “هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا” ، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، استخلفكم في الأرض جميعًا بوصفكم نوعًا لا بوصفكم قبيلة أو شعبًا أو أمة مختارة. وأفكار الاصطفاء التي طرحت في ما مرّ من الزمن، واصطفى الله (تبارك وتعالى) بعض النبيين، واصطفى لهم أقوامهم.
عمليّات الاصطفاء هذه ليست مما يمكن أن يؤثر على هذه الوحدة؛ ذلك لأنَّ الاصطفاء –أيضًا- قد تمّ في إطار عمليّة التنوع وعمليّة تقديم القدوة والأسوة على مستوى البشر، كل في زمانه، وما كان للأمم التي اعتنقت أديانًا كبني إسرائيل الذين فضّلوا على العالمين في وقتهم أن يتعالوا على البشريّة بهذا، بل ليشكروا الله (تبارك وتعالى) أن فضلهم على عالمي أهل زمانهم، وأن لا يجعلوا من هذا التفضيل وسيلة استعلاء على عباد الله، ووسيلة استعلاء على بقية الأمم يمكن أن تثير صراعًا، بل هي وسيلة لتقديم القدوة والأسوة.
فحين نؤمن أن البشريّة أسرة ممتدة، وأن الأرض كلّها بيت لهذا الإنسان لا ينبغي أن يلوثه أو يفسد فيه، أو يعيث فيه فسادًا، ولا ينبغي أن يسيء إليه، بل يحبه، ويستثمره، ويحرص عليه، ولا ينبغي أن يتوهم أنه امتلكه باصطفائه امتلاك استبداد، بل امتلاك منفعة فحسب؛ لأنَّه مستخلف فيه، فسوف نجد أن هذا الإنسان إذا آمن أن الأرض -كلها- منزل له لا يمكن أن يجعل بعضها مدفنًا للنفايات المدمّرة، لأنَّه إفساد لها وفيها، ولا يتركها مواتًا ونهبًا للتصحر، ولعمليّات التلوث المختلفة، لأنّها وديعة لديه -كلها- لا إقليمه وحده، ويدرك ويوقن أن الأرض كلها أرضه، وأرض أسرته الممتدة…
ولذلك أعاد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه هذا المفهوم بشكل قوي، بناء على ما ورد في القرآن المجيد هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ ، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ورسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: “جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا” فنص على أن الأرض كلها مسجد؛ له حرمة المسجد، وله تقدير المسجد وطهارته، ومحبّته، وينبغي أن يحاط بهذا النوع من الشعور. والدعوات التي تنهض اليوم حول حماية البيئة وحماية الخضرة وغيرها، إنَّما هي دعوات تالية تعد ضعيفة جدًا بالنسبة لما كان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يسعى لإرساء دعائمه في هذا الجانب في قلوب البشر وعقولهم.
إذن القرآن حينما نأتي إليه متدبّرين يستجيب لنا -ونحن نحمل هذا النوع من الأزمات في قلوب البشر وعقولهم، أزمة البيئة؛ وأزمة الصراع، وغيرهما يعطينا مؤشّرات -عند التدبُّر- نستطيع بحسن الاستفادة بها معالجة مشكلات وأزمات لا علاج لها بغير القرآن.
دار الإسلام ودار الحرب
لكن فضيلة الدكتور.. كيف نفهم كون القرآن الكريم يحمل هذه المؤشّرات، ويدعونا إلى تبنّيها، ثم نجد المسلمين قد قسموا الأرض إلى «دار حرب ودار إسلام ودار عهد.. كيف يستقيم المعنيان.. خاصة في ظل اتهام البعض للإسلام بالعنصرية بسبب هذا التقسيم؟
** يا سيدي هذه القسمة لم تكن قسمة قرآنيّة، ولم تكن قسمة نبويّة، بل هي تقسيم فقهي للمعمورة جاء به الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189 ) وهو يحاول أن يبين لهارون الرشيد (ت: 193 ) رحمهما الله، مواقف الدول المعاصرة لدولة المسلمين -آنذاك- المواقف الذي ينبغي لدولة المسلمين أن تفقه منها بناء على ذلك، فقام بقسمتها وفقًا لذلك التصور، ليقدم للخليفة برنامجًا لرسم سياسات في مجال العلاقات الدولية يتبين من خلاله الدول المعادية، والدول التي يمكن أن تكون صديقة وأيّ البلدان يمكن أن يأمن جانبها، وما البلدان التي لا يستطيع أن يأمن جانبها.
ومع ذلك فإن كثيرًا من أئمتنا قد انتقدوا هذا التقسيم، فالقفال الشاشي رحمه الله وكثير من العلماء الذين جاءوا بعده، قدّموا بدائل عن هذه القسمة لإدراكهم أنها قسمة آنية لاحظت فإذا أعطيت صفة الإطلاق صارت ظروفًا معيّنة مناقضة لموجّهات القرآن الكريم حول الأرض، ولتوجيهات رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في النظر إليها..
ولذلك قالوا: لا ينبغي أن تقسم الأرض إلى «دار حرب ودار إسلام ودار عهد» وهو ما أضافه الإمام الشافعي فيما بعد؛ بل يقال «دار إجابة ودار دعوة»، فدار الإجابة هي الدار التي يسكنها المسلمون أخذًا من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ ، فتسمى دار استجابة، وهذا تعبير دقيق وتعبير صحيح ليس فيه اعتداء على أحد، وهو غير محمل بتحيزات معادية أو تحريضية وليس فيه تقليل من أهميّة أحد آخر، وأما الدار الأخرى التي كان يسميها الشيباني «بدار الحرب» فقالوا ينبغي أن يطلق عليها «دار دعوة»، لأنَّ مسئولية المسلمين أن يُوصلوا هذا النور والخير الذي فيه إليها ويشركوها بنعمة القرآن والإيمان. فالأرض إذن داران: «دار دعوة، ودار إجابة»، وقال الشاشيّ: لا ينبغي أن يقال «أمة حرب»، فالأمة المسلمة يقال لها: «أمة إجابة» لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، و«أمة دعوة» للذين لا يزالون على غير الإسلام، وهم أهل لأنَّ يوصل الإسلام إليهم.
فهدى القرآن في هذا المجال، وتوجيه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يتّسع لتلك القسمة التي بقي أثرها السلبيُّ للأسف الشديد عند الكثيرين من الفقهاء –الذين أخذوها على إطلاقها- وما زال أثرًا خطيرًا.
والفخر الرازي عليه رحمة الله وقد توفي سنة (606) هـ كان يؤكد أنه ينبغي أن لا تسمى الأرض إلا بمثل ما ذهب الشاشيّ إليه بناءً على قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» تفسيرًا لقوله تعالى: “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا”، وأن البشر لا ينبغي أن يقسموا إلى تلك القسمة، بل يقسمون إلى «أمة إجابة» و«أمة دعوة» والله أعلم.
إذن هذه المنظمات الساعية لحل الخلافات، ولحل المشكلات بحاجة إلى مرجعية؛ لتكون فاعلة أو أكثر فاعلية، هذه المرجعية هي التي تقدم لها المؤشّرات الأساسيّة، والتي تعينها على رأب الصدع، والتخلّص من الآثار والمشكلات التي نشأت بعد ظهور الدولة القومية والدولة القطرية، ففكر الإنثروبولوجيّين الذي سيطر على الكثيرين، وقسم الشعوب قسمة ظالمة إلى شعوب ملونة تعتبر أقل ذكاءً من شعوب أخرى، وشعوب تعيش في مناطق باردة تتمتع بمزايا في كينونتها، وشعوب أخرى تعيش في مناطق حارة لا تتمتع بتلك المزايا، تلك التقسيمات كلها تقسيمات لا تخدم عمليّات الائتلاف والتعاون بين البشر؛ بل تخدم عمليّات التمزّق والصراع بينهم، واستعلاء بعضهم على بعض.
فالقرآن الكريم يقدم لنا العلاج على مستوى أزماتنا، إذا ثورناه واستنطقناه، وتدبّرناه وتلوناه “حق التلاوة”، إنّ أزماتنا كثيرة، ومقاربة القرآن من “مدخل الأزمة” يحتاج إلى الفهم الشامل للقرآن وللأزمات، ودراستها بمنتهى العناية، ومحاولة عرضها على القرآن الكريم من قبيل تنزيل السؤال الجزئيّ على المصدر الكليّ، ألا وهو القرآن الكريم، وليس كما كان الحال في عهد النبوة وجيل التلقي أن تفرز البيئة السؤال أو الإشكاليّة، ثم يأتي الوحي بالحل، أو بالإجابة عنها. بل نصوغ مشكلات عصورنا صياغات دقيقة، ثم نذهب بها إلى القرآن المجيد نستلهمه الحل والجواب.