حوار حول الواقعة الدنماركية
حوار مع أ.د. طه جابر العلواني –رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بالولايات المتحدة حول الواقعة الدانماركية: أصولها وتداعياتها.
** فضيلة أستاذنا الدكتور طه جابر العلواني، لا شك أن التطاول على مقدسات الإسلام ومقوماته الكبرى شأن قديم خبرته أمة الإسلام..كيف يمكن تفسير الحالة الراهنة التي نجمت عن الواقعة الدانمركية الأخيرة؟.
– بداية أشكر شبكة “إسلام أون لاين.نت” على إتاحة هذه الفرصة حول هذا الأمر الجلل بجمهورها العريض، راجيا أن أتمكن من تقديم ما ينفع في مثل هذه المواقف، فأنا أعيش في بلد ما من يوم تشرق الشمس فيه وتغرب إلا ويظهر فيه فيلم أو رواية أو كتاب أو دراسة أو محاضرة تنال من هذا الجانب أو ذاك من جوانب الإسلام.
وللإنصاف أقول: إن بعض هذه الهجمات أو التناولات -سواء أكانت على شكل فيلم أو مسرحية أو قصة أو رواية أو مقالة أو تعليق أو محاضرة- إن بعض أصحابها ينطلقون من نوايا خبيثة أو يمكن أن نعتبرهم جزءا من مخطط هادف يعمد إليه بعض ذوي المصلحة في القيام بعمليات قياس لعلاقة المسلمين بإسلامهم سلبا أو إيجابا.
فهي كما يقال “وسائل اختبار”، “ووسائل سبر” يكون الكاتبون فيها أو الفاعلون -مهما كانوا- جزءًا من هيئة يهمها أن تقيس بين فترة وأخرى طبيعة العلاقات بين المسلمين والإسلام، إذ إن ذلك وسيلة من وسائل معرفة القائمين على مخططات العولمة: كيف يصدِّرون ويسوقون ويبيعون الأفكار الجاهزة الصنع لأبناء هذه الأمة ونظمها ومؤسساتها؟ ومتى؟ وبأي أسلوب؟.
وفي كل الأحوال فإن هذا الفريق من الناس، حين يفعل ذلك فإنه يرى نفسه رابحا؛ لأنه إن استطاع أن يستفز المسلمين ويقوم بعمليات القياس المذكورة، فقد حقق الهدف، وإن واستطاع إثارة المسلمين واستدراجهم إلى أعمال عنف وردود أفعال غير منضبطة تتسم بالارتجال والتعميم والانفعالية والسذاجة، فإنه يحقق هدفا آخر، وهو إشعار الغرب بأنه لا مجال للتعايش بين قيم الحضارة الغربية وبين الإسلام بأي حال من الأحوال، وأن سائر الجهود التي تبذل لإدخال القيم الغربية -ومنها الديمقراطية الليبرالية والحداثة- إنما هي جهود ضائعة وسيبقى الغرب غربا والشرق شرقا كما يقال، وأنه ليس هناك من سبيل لتجاوز واستيعاب “الخطر الإسلامي” دينا وبشرًا وحضارة وتاريخًا ووجودًا معاصرًا إلا بفرض العلمانية والحداثة على العالم الإسلامي بأي شكل من الأشكال.
وفي الوقت نفسه هناك رسالة أخرى شديدة الأهمية من هذا الفصيل إلى دول الغرب: أمريكا والمجموعة الأوربية، وسائر البلدان المتبنية للقيم الغربية بأن وجود المسلمين في الغرب: أمريكا والمجموعة الأوربية وأستراليا وسائر البلدان الدائرة في فلكها يمثل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، وبالتالي فعلى الغرب أن يحذر ويواجه هذا الوجود وإلا فإنه يغامر بحضارته ومستقبل أجياله.
وهم يحاولون أن يقولوا للغرب أيضا بأن الحضارة مهددة من قبل المسلمين ما دام البترول ومصادر الصناعة وكثير من المواد الخام مصادرها بلاد المسلمين وتهيمن عليها قوى ترفض الغرب والحضارة الغربية.
ولقد ثبت -بشهادات كثير من الكتّاب القادمين من جذور إسلامية- أن الناشرين الذين اشتروا “كاتب الآيات الشيطانية” فاوضوا في البداية عددا من الأساتذة المسلمين المقيمين في الغرب ليكتبوا شيئا مماثلا فلم يستجب لطلبهم إلا ذلك الكاتب الذي كان مغمورا فاشتهر، وكان معدما فاغتنى.
هذا جانب، أما الجانب الثاني فإن الغرب يحتضن، فيما يحتضن من تيارات واتجاهات، قطاعا عريضا يرفض “المقدّس”: أيَّ مقدَّس ويحتقره، ويعتبر نفسه في حالة خطر ما دام هناك شيء تُضفى عليه صفة القداسة من خارج الذات الإنسانية، سواء أكانت وحيا إلهيا أو كانت تلك القداسة صادرة عن الغيب (الميتافيزيقا)، إن هذا الفريق الغالي في علمانيته ولادينيته يرى أن أي احترام للمقدس يعزز من جانب الصحوة الدينية على مستوى العلم بقطع النظر عن ذلك الدين. ولإحساس هؤلاء بالخطر (أي أن يعود للدين سلطانه مرة أخرى) فإنهم يحاولون مهاجمة أي مقدس، وأي شيء غيبي وأي دين، درءا لهذا الخطر المحتمل.
وبطبيعة الحال فحينما يجدون أمة ضعيفة في قدراتها المعاصرة مثل الأمة المسلمة فإنها ومقدساتها تكون بمثابة قول أبي العلاء: “استضعفوك فوصفوك”: فيتناولون مقدساتها، وهم يريدون سائر المقدسات، وينالون من دينها وهم يريدون بذلك سائر الأديان، ويهاجمون كتابها وهم يريدون بذلك سائر الكتب، وينالون من خاتم النبيين – صلى الله عليه وسلم – وهم يعرفون أن القرآن الذي أُنزل عليه والدين الذي بشَّر الناسَ به هو الحامل للدين كله ولسائر الرسالات، وهو المعبّر عن رسالات النبيين كافة، ويرون أنه لو جرى التخلص من الإسلام -لا سمح الله- فإن من السهل عليهم جدا تدمير المقدسات الأخرى وتفكيكها بوسائل الحداثة وما بعد الحداثة.
فقد فعلوا ذلك حين زعموا بأن الأنبياء والرسل (إبراهيم وموسى وعيسى وسواهم… ) جلٌّهم شخصيات أسطورية لا وجود تاريخيا لها، والكتب المنسوبة إليهم باعتبارها كتبا سماوية أنزلها الخالق (1) ما هي إلا كتب أملتها مصالح وخيالات ساسة وقادة راقهم أن يستغلوا الدين ويوظفوه لمصالحهم، ولذلك فإن ردود الأفعال على شكل هذه التحركات والتحرشات ينبغي أن تكون مدروسة بعناية وصادرة عن وعي بكل الأبعاد التي ذكرناها.
** لكن ألا يردنا ذلك إلى نظرية المؤامرة التي يعن للبعض استحضارها عند كل ملمة، بينما الغرب لا يواري منطلقاته من قبيل حرية التعبير ولا أهدافه التي تتحقق على أعين الجميع؟.
– هي مؤامرة ولا شك إذا نظرنا إليها من هذه الزاوية، والأطراف المشاركة فيها عديدة تحتاج إلى رصد وتتبع.
فإن مما لا شك فيه أن النعم التي منَّ الله (تعالى) بها على بلاد المسلمين وفي مقدمتها البترول، تجعل الغرب يحرص على أن تكون علاقاته بقدر الإمكان طبيعية مع كثير من بلدان المسلمين لئلا يجد مصادر الطاقة التي تمد حضارته مهددة بأي شكل من الأشكال.
كما أن هناك مصالح لكثير من الفئات الغربية في إخراج المسلمين من قلب أوربا وأمريكا. فهناك فئات ترى أن الوجود الإسلامي في الغرب يمثل خطرا على نفوذها في الغرب الذي استطاعت أن تستثمره طيلة القرن الماضي وأن تحقق أهدافا مهمة جدا ما كانت لتحققها لولا أن لها وجودا في الغرب ساند تلك الأهداف وسعى إليها واستثمر كل جزءٍ، من أجزاء نفوذه من أجل القيام بها وتحقيقها.
وهذه الفئات والأقليات النافذة في الغرب تخشى كثيرا جدا من الوجود الإسلامي الناشئ والنامي في الغرب؛ ولذلك فإنها لن تدع فرصة لتشوه سُمعة هذه الأقليات وتدفع الحكومات المضيفة لها والشعوب إلى مضايقتها بشتى الوسائل، فتارة قضية الحجاب، وفي أخرى يُربط الإسلام بالإرهاب، وفي ثالثة يصوّر للبلدان الغربية على اختلافها أن هذه الأقليات لن تتمكن مائدة الغرب الهاضمة من هضمها ولو بعد أجيال.
وكثير من الكتِّاب الذين اهتموا بقضايا الأقليات كانوا يضربون المثل بأطفال الحجارة والشباب الفلسطيني وكيف عجزت جهود الدولة العبرية المختلفة: السياسية والاقتصادية والتربوية والتعليمية في جعل الأجيال الطالعة من الفلسطينيين يتقبلون قيم هذه الدولة الجديدة أو ينتمون إليها؛ ولذلك فإنهم حينما يرد عليهم بعض المعتدلين من مفكري تلك البلدان الغربية بأن الأجيال التالية ستكون أجيالا غربية لا تختلف عن الذين قدموا إلى الغرب من أية جذور أخرى، فإنهم يواجهونهم بأن المسلمين مختلفون، وأن الثقافة الإسلامية لا تُقتلع بسهولة من عقول وقلوب المنتمين إليها، وبالتالي فلا داعي للمغامرة بل الاحتياط أفضل.
وإذا أردنا أن نستبعد كل ما ذكرنا سابقا -وهو مما لا يسهل استبعاده- فإننا نستطيع أن نقول: إن الإعلاميين -بصفة عامة- يعدون الإثارة واكتساب المشاهدين والمستمعين والقراء هدفا من أهدافهم، وأنهم يحاولون أن يمارسوا قيم “حرية التعبير” عن الرأي بشكل مطلق، وأن الأمر لا يعدو أن يكون ممارسة لحرية التعبير المقدسة في المجتمعات الغربية، وأن رسام الكاريكاتير والصحيفة التي نشرت توهموا أنهم إنما يمارسون حرية تعبير، فمن المعروف أن الغرب وإن أعلى قيمة الحرية بصفة عامة وجعلها قيمة مطلقة، لكن من المعروف أن لها عنده حدودًا ما. فهناك من الحقوق القانونية التي تحرص الدساتير والقوانين في الغرب على حمايتها “حق الخصوصية”. وفي إطار حق الخصوصية تتعين الحرية.. وكذلك إن أدت الحرية: حرية شخص ما، إلى تجاوز حدود حريته بحيث تصبح ممارسته للحرية اعتداء على حرية الآخرين فإن القانون لا يسمح بذلك بل يوقفه عند حدّه.
وسائر القوانين التي تقوم بحماية الحقوق المختلفة للأفراد والشعوب والمؤسسات تضع قيودا على صفة الإطلاق في الحرية، بحيث يحال بين المتعسف في استعمال حقه بالحرية وبين إيذاء الآخرين. فحين يحصل أذى من ممارسة شخص ما للحرية لشخص آخر فهنا يتدخل القانون ويعتبر أن الأول قد تعسف في استعمال حقه، والتعسف في استعمال الحق مردود في كل القوانين سماوية كانت أو وضعية.
وإذا كان الغرب يستثني الاعتداء على الدين والمقدس، ولا ينظر إليها من هذه الزاوية فإنه في حاجة لأن يعيد النظر؛ لأن في تعسف أجهزة الإعلام وبعض الكتّاب في استعمال هذا الحق أذى حقيقيا يقع على الآخرين، على المستويات: النفسية والعقلية والوجدانية، بل أحيانا على المستوى البدني كذلك. وبالتالي فإنه لا بد من أن يكون الفارق واضحا بين استعمال الحق والتعسف فيه.
انقسام النخب العربية وأقسامها
** هناك تحذير متصاعد من قبل النخبة عندنا من أن يتسم رد الفعل الشعبي الإسلامي بالارتجال والتعميم والانفعالية والسذاجة، فيما تتقدم النخبة الرسمية وغير الرسمية في الغرب للدفاع عن الصحيفة والرسومات المسيئة باسم حرية التعبير والنشر.. كيف ترون ذلك؟.
– النخبة عندنا للأسف الشديد منقسمة على نفسها، ولعلنا نستطيع أن نرصد في إطار هذه الانقسامات أربعة اتجاهات أساسية:
الاتجاه الأول هو الاتجاه الذي اصطلح الجميع بعد أحداث سبتمبر وإعلان الحرب (المقدسة) ضد الإرهاب على تسميته بـ”التيار الأصولي” أو “الإرهابي أو المتطرف أو الوهابي”، وهو تيار محاصر يعمل الجميع على عزله ومحاصرته لأنه في نظر الجميع قد صار إما الإرهاب نفسه أو محضنا من أهم محاضن تفريخ الإرهاب والإرهابيين. وبالتالي فهو في هذا الموضوع لا يملك إلا أن يرفع صوته بشعارات لن يجد لها استجابة كبيرة في غالب الأحوال، وإن وجد نوعا من التعاطف من بعض الناس لأنه يرى في ذلك تعبيرا عما يتمنى أن يكون قادرا على فعله.
وأما الاتجاه الثاني فهو تيار أصحاب الوظائف ذات الصبغة الدينية، أو من يطلق عليهم “التقليديون” من أئمة المساجد وطلبة العلوم الشرعية ومَن إليهم، وهؤلاء أصواتهم خافتة، فهم ينكرون ويستنكرون بنبرات منضبطة جدا حذرَ الاتهام بالانضمام إلى الفريق الأول أو تقديم ما يساعده ويعزر موقفه من أطروحات.
وأما الاتجاه الثالث من اتجاهات نخبتنا فهو فريق “الحداثيين” الذين يريدون الاندماج في الحضارة المعاصرة والانضواء تحت لواء قيادتها، ولديهم الاستعداد للتنازل عن كثير من الخصوصيات وتحويل الدين إلى موظف بدرجة معينة في المجتمع الحديث لخدمة الناس لا ليكون الناس في خدمته، ولكي يدور حول مركزية الإنسان، لا ليدور الإنسان حول مركزيته.
وهؤلاء يعملون بكل جهودهم لتفكيك المجتمع التقليدي بسائر أطرافه ومكوناته ومقوماته؛ ولذلك فإنهم لا يرون في مثل هذه الاعتداءات على مقدسات الأمة اعتداء حقيقيا، بل هو ممارسة صحية يمكن أن تساعدهم -ومن لفَّ لفَّهم- على تفكيك المؤسسات الدينية التي تستمد شرعيتها من مصادر الإسلام قرآنا وسُنة ونبيا ورسولا. وبالتالي فلا يتوقع منهم أن يدافعوا عن ردود فعل على المستوى الذي عبر الشارع عنه ورضخ بعض الحاكمين لإرادته.
وأما الاتجاه الرابع فهو فريق لائكي علماني يريد عالما إسلاميا يشكل فناء خلفيا (back-yard) للعالم العلماني الغربي، وهم يحرصون أكثر من الحداثيين على تغيير المشاعر والثقافة وتفكيك المجتمع التقليدي بكل مقوماته لبناء مجتمع علماني ليبرالي يتبنى القيم الغربية كما هي؛ ليستمتع -حسب تصورهم- برفاهية الحضارة المعاصرة التي لا يعترفون ولا يحبوّن أن يعترفوا إلا بجانبها الذي يرونه مشرقا وإيجابيا، وهم صمُّ بكمٌ عميٌ عن جميع الجوانب السلبية بما في ذلك الجوانب التي يقوم بنقدها نقدا مُرا الكتاب الغربيون أنفسهم ونقادهم.
وبالتالي فمن الصعب جدا ونخبة الأمَّة موزعة على هذه الخارطة الواسعة أن نرى منها تعاطفا أو دعما أو تشجيعا لغضب الجماهير وانتفاضتها.
** ولكن ماذا عما يسمى بالإسلام المستنير الذي هو غير التقليدي وغير الراديكالي كما عبّرتم؟.
– لا أعتبر هذا الذي يطلق عليه “الإسلام المستنير” ذا وجود متميز، فمن الصعب أن يشكِّل تيارا خامسا بين هذه التيارات. فالمستنيرون -إن وافقنا أو توافقنا على إطلاق هذه الصفة عليهم- فإنما هم إسلاميون يرون قيم الحداثة الغربية قيما قابلة للتجزئة والتفكيك فيأخذون منها أدواتها ووسائلها ويستبعدون منها أفكارها وفلسفتها كمن يُحب أن يستخدم السيارة والطيارة والقاطرة والثلاجة، ويرى فيها مجرد أدوات محايدة لا علاقة لها بفلسفة الزمان والمكان والإنسان، وهو أمر فيه مجال للنظر كبير.. فإنه ما من أداة من أدوات هذه الحضارة إلا ووراءها فكرة تندرج تحت فلسفة وتحت مرحلة من مراحل التطور الغربي.
وبالتالي، فإن الاستنارة لا تتم بهذه الطريقة، بل تحتاج إلى تقديم فلسفة بديلة تستطيع أن تستوعب وأن تتجاوز، بحيث تعي الفلسفة الغربية الكامنة وراء كل ما أنتجته الحضارة والأفكار التي وراء كل أداة من أدواتها، فتقوم -بوعي تام- بمراجعة الفلسفة والأفكار وتقديم فلسفة بديلة وأفكار بديلة أقوى قادرة على الاستيعاب للمنجزات الحضارية ونقد فلسفتها والأفكار الكامنة وراء مفرداتها ومعرفة كيفية تجاوزها بعد تنقيتها وترقيتها.
وهذا “التيار” -إن صح أن يمثل تيارًا متميزًا- أحوج ما يكون إلى أن يقوم بعملية مراجعة وتحديد موقفه من جديد ليعرف حقيقة موقعه وكيفية الوقوف عليه، ويتأكد من قدرته على ممارسة الاستيعاب والتجاوز بشكل موضوعي.
** تلك الفلسفة والرؤية الكلية البديلة كيف تتعامل مع طرف يبدو غير أمين حتى مع مفاهيمه هو، فحرية التعبير التي يتحدثون عنها تفسر لنا بشكل وتفسر فيما بينهم بأشكال أخرى؟.
– من المؤسف أن الأمَّة الإسلامية بكل فصائل نخبتها ونظمها وعامتها تقف في حالة المستهلك، فهي ذات يد سفلى لا يد عليا على مستوى الحقيقة والواقع، أما على مستوى المشاعر ودون الاحتكام للواقع، فإن الإحساس بالاستعلاء آنذاك يكون إحساسا وهميا لا حقيقيا.. وبالتالي فإن نخبة هذه الأمة محتاجة إلى الوعي بأنها لن تستطيع أن تقف إلى جانب المفكر العَربي إلا إذا استطاعت أن تتحول من دور المستهلك الثقافي والفكري والحضاري، إلى دور “الشريك المنتج”.
إن الشريك المنتج يمكن أن نمثل له بمثل بروفيسور فضل الرحمن وإدوارد سعيد وسيد نصر حسين وإسماعيل الفاروقي، وعلي مرزوعي وأحمد زويل وبروفيسور عبد السلام، ومنى أبو الفضل، وعبد الوهاب المسيري… وآخرين من الأحياء والأموات الذين استطاعوا -بفكرهم- أن ينضموا إلى المدارس الفكرية التغيرية ويشاركوا بأفكارهم وعطائهم تلك المدارس، بحيث أثروا وتأثروا وأفادوا واستفادوا، فهم لم يصنفّوا باعتبارهم أذنابا لأية مدرسة، بل كانت تلك المدارس الغربية تفتح عقولها لهم وتستمع إليهم بشكل أو بآخر.
فإذا نظرنا إلى الأكاديمية الأمريكية مثلا فسوف نجد أنفسنا أمام نصف مليون أستاذ موزعين على ما يقرب من 4000 جامعة وكلية وهذا العدد الهائل يمكن تقسيمه إلى مجموعات ثلاث، لكن هذه المجموعات -دون تفصيل- كلها تتأثر بمدارس فكرية ذات معالم محددة، هي المدارس التي ورثت مدرسة فيينا ومدرسة فرانكفورت لتتحول إلى مدرسة هارفارد وبعض المدارس الأخرى، فهذه المدارس هي التي تقدم أفكارا تتداولها تلك الجموع الغفيرة من الأساتذة بالدراسة والتحليل والنقد والقبول أو الرفض لترشح -ولو بعد حين- ما يصلح منها وتقبر ما لا تراه صالحا.
وهذه المدارس على قلتها وقلة المنتمين إليها تعتبر هي المسئولة عن حراسة الحضارة ووسائل تغذيتها واستمرارها وإزالة عوامل الضعف والترهل عنها، وبعد أن ترشح تلك الأفكار فإن تلك الأفكار تجد طريقها إلى ما يمكن أن نسميه بقنوات “قواعد الفكر الإنساني المشترك” الذي تجد البشرية نفسها أحيانا -بوعي أو بدون وعي- تقوم باستهلاكه سواء عرفت مصدره أو لم تعرف.
فالمسلمون إذا أرادوا شراكة حقيقية فلا بد من أن يجدٌّوا ويجتهدوا ويكدوا ويكدحوا لإيجاد العناصر القادرة على الوصول إلى تلك المدارس الفكرية والانضمام إليها انضمام الشريك لا التابع، وأن يشاركوا من الخلفية الإسلامية -دينا وحضارة وتاريخا وثقافة وعقيدة وشريعة- في تقديم المعالجات لمشكلات العصر التي تعاني منها الإنسانية كلها، فإذا كانت لدينا مشكلات وأزمات تخلف، فإن هناك مشكلات وأزمات نابعة من التقدم لا تقل عن مشكلاتنا وأزماتنا.
ليس الأمر بالسهل، ولكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة. لقد استطاع المجتمع اليهودي في الغرب أن يقدم قيادات فكرية منذ القرن التاسع عشر بل منذ عصر الأنوار تغلغلت في مختلف الجوانب المعرفية وصاغت كثيرا من الأفكار بل أسست الكثير من العلوم، ولذلك تجاوزت مرتبة الشريك إلى مرتبة الموجّه والقائد، وهل يستطيع الغرب اليوم أن ينسى دور نيوتن أو هيجل أو ماركس أو فرويد أو داروين أو آينشتاين.. فكل هؤلاء الأعلام اليهود تشعر الحضارة الغربية -مهما ادعت أنها حضارة مسيحية كما أكد ذلك راسل وشبلنجر- أنها لا تستطيع أن تتجاهل دور هؤلاء وأمثالهم في بنائها وسيرورتها وإيقاد شعلتها ودفع عجلة تطورها.
تفاعل وشراكة وتحصين فكري
** لكن هذه الشراكة وذلك “الفكر الإنساني المشترك” وفي ظل اللحظة الراهنة التي يبرر فيها الطعن في مقام النبي الكريم – عليه الصلاة والسلام – بذريعة حرية التعبير وحرية النشر كما يفهمها الغرب- ألا يطرح ذلك التساؤل حول تميز الفهم الإسلامي لمثل هذه المفاهيم الكبرى كالحرية، وما يمكن أن تحدثه من إشكالات في الداخل الإسلامي فيما يتعلق بالدعوة إلى الأديان الأخرى أو نشر مؤسسات ودور عبادة تابعة لها من مثل الديانات الوضعية؟.
– ومن قال إن غير المسلمين لم يمارسوا في الداخل الإسلامي كل ما استطاعوا لبيان أنهم يدينون بأديان يرونها الحق، وأنهم إن لم يكونوا خيرًا من المسلمين فليسوا أقل منهم. لم يكن اليهود في المدينة مستسلمين تماما للسيادة الإسلامية، ولم يتوقفوا عن نشر ثقافتهم الشفوية، ولم يتوقفوا عن إثارة الشبهات للمسلمين، ولم يتوقفوا عن طرح أسئلتهم المحرجة عليهم.
ثم إن الحصانة ضد الأفكار لا يمكن أن تأتي بطرق المنع والقمع الرسميين، ولكن الأفكار إنما تواجه بأفكار تفوقها في الصلاحية والاستقامة والصحة والموضوعية وشرعية المرجعية وما إلى ذلك.
فنحن لو استطعنا تحصين أبنائنا وأنفسنا بشكل جيد وأوجدنا لدى الأمة وعيا على الإسلام عاليا، فإنه لا يهمنا أبدا أن نسمح للآخرين بأن يجادلوا ويناظروا ويعرضوا ما لديهم، ونحن اليوم لم يعد في مقدورنا في هذا العصر الذي انفجرت فيه وسائل الاتصالات وأصبحت من القوة بحيث تدخل على الإنسان داره بل غرفة نومه وتريه وتسمعه ما يرضى وما لا يرضى وما يحب وما لا يحب، ولا جُنَّة ولا حماية -بعد الله تعالى- إلا بالتحصين الداخلي العقلي والفكري والثقافي والوجدان، بحيث يقوي جهاز المناعة ولا نشغل بالنا بمقاومة دخول “فيروس” أو “ميكروب” نحن متأكدون أنه سيدخل بقطع النظر عن محاولاتنا.
وبالتالي فإن الأمة في حاجة إلى استنفار كل طاقاتها وإلى إثارة حوارات داخلية مكثفة بين فصائل النخبة التي ما تزال رغم كل ما حدث تصر على الانتماء إلى جسم الأمة وكيانها، وذلك لفهم التحدي الغربي الجدي وكيفية الاستجابة له بشكل مناسب، والبحث فيما أشرنا إليه من مقترحات.
** لكن إلى أي مدى يمكن المضي في مسألة التحصين الفكري والوجداني والثقافي بحيث لا تتعارض مع مطلب الشراكة والتفاعل الندي مع الغرب، لا سيما أن الغرب قد بدا في الواقعة الأخيرة وتداعياتها انفعاليا على الأصعدة الرسمية وغير الرسمية، فالاتحاد الأوربي يهدد بالشكوى لمنظمة التجارة العالمية في مواجهة المقاطعة الإسلامية للبضائع الدانمركية والنرويجية، والصحف والحكومات رفضت الاعتذار، وتمادت قطاعات في توسيع دائرة نشر الرسومات، بل التهديد بحرق المصحف الشريف؟.
– أريد الفصل بين النخبة والقواعد، فالأمة تنقسم على فصائل مختلفة ولكل فصيل دوره.
فأما النخب فإن دورها هو ما ذكرنا، وهو أن تحاول أن تجدّ وتجتهد وتكد وتكدح لكي تكون في مؤهلاتها وقدراتها في مستوى الشراكة في صنع الحلول وتقديم الأفكار ومعالجة الأزمات العالمية.
وأما القاعدة أو العامة فهي في حاجة دائمة إلى مساعدتها للمحافظة على الهوية والثقافة والكيان الاجتماعي دون السماح باستدراجها إلى معارك استنزاف القوى وتدمير الطاقات، وهي -أي العامة- في كل هذا تحتاج إلى عمليات التحصين والمراجعة الداخلية المستمرة. إن أخطر ما يواجهنا هو أن تختلط الأوراق، فما نطالب به النخبة يتم تعميمه على من يستطيع ومن لا يستطيع من فصائل الأمة.
معالم وإستراتيجيات التعامل
** دكتور طه، من واقع إقامتكم الطويلة في الغرب ومعايشتكم لهموم الأمة المسلمة من مواقع عديدة، كيف نتلمس معالم إستراتيجية للتعامل مع مثل هذه الواقعة الماسّة بالمقدس الإسلامي والتي باتت تتكرر وتثير الأمة على فترات متقاربة.. كيف نخرج في الداخل الإسلامي أو بالنسبة للأقليات المسلمة في الغرب- من حالة رد الفعل المتقطع إلى تعامل ممنهج وفعال؟.
– أولا: بالنسبة للعالم الإسلامي ذي الأكثريات المسلمة التي تستمد نظمها شرعيتها من الإسلام ومن المسلمين وتستمد عامتها فاعليتها من الانضمام للإسلام دينا وحضارة، فهذه البلدان في حاجة إلى إعادة النظر في برامج ووسائل وأدوات تعليم الدين لأجيالها في مراحل التعليم المختلفة لتجعل ذلك التعليم وسيلة فعالة في إعادة بناء الهوية والوعي على الذات وإيجاد الفاعلية والدافعية لدى الإنسان المسلم والخروج من أزمات التخلف والأمية والتسيّب والفساد الخلقي والسقوط في مستنقعات الإدمان والمخدرات والتدخين وحياة العبث واللهو والمجون لإعادة بناء الفرد والأسرة ووضعهما في سياق التنمية بأنواعها.
فقد درجت هيئات مسئولة كثيرة -عن جهل وضعف وعي- على إضعاف صلة شعوبها بالإسلام وإشعارها أنه بقدر ما تزداد صلتها بالإسلام تزداد إمكانات ابتعادها عن الحضارة والحداثة، وتزداد إمكانات وقوعها في براثن الفتن الطائفية والانقسامات والصراع وما إلى ذلك من تعميمات خاطئة تنبني على ممارسات للدين خاطئة ينتقدها الدين والفاقهون من أهله قبل سواهم.
أما بالنسبة لمقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنحن بحاجة إلى تعليم أجيالنا وناشئتنا سيرته وتقديمه – صلى الله عليه وسلم – مثلا أعلى للبشرية كلها، وجعل ناشئتنا تتخذ من سيرته نموذجا يحتذى ومثالا يقتدى به، وأن نعلمهم حبه – صلى الله عليه وسلم – وحب التأسي به، فإن أجيالنا أحوج ما تكون إلى “المثل الأعلى” والأنموذج الذي تقتدي به.
وبالنسبة للأقليات فإن لها وضعا آخر ووسائل أخرى، فهي تستطيع بالإضافة إلى ما أشرنا إليه في بلدان الأكثريات إلى عدة أمور:
أولها: أن تعمل نخبتها على التفاعل مع المدارس الغربية المماثلة وتفهم قضاياها ولفت أنظارها في سائر المناسبات إلى القدرات الهائلة في الإسلام على مساعدة تلك الأقطار على الخروج من أزماتها في مشاكل الأسرة والبيئة وحقوق الأقليات والمستضعفين وما إلى ذلك، وتحرص على الدوام على استثمار كل مناسبة لإعطاء حلول إسلامية للمشكلات الغربية الناجمة عن إشكاليات الحداثة وما بعد الحداثة.
ثانيها: أن تتحالف مع كثير من القوى التي لا تزال ترى ضرورة حماية وتعزيز المقدّس مقابل العمليات المتواصلة لإضعاف هذا المقدَّس من قبل الآخرين.. وسوف تجد في الكنائس الكاثوليكية على سبيل المثال وفيمن يسمون أنفسهم الأرثوذكس اليهود وكثير من الجهات المحافظة حلفاء جيدين تجاه من يحاربون المقدسات على أن تكون هذه الأقليات المسلمة على حذر ووعي شديدين وهي تمارس هذا النوع من التحالفات لأنها إنما حصلت على ما حصلت عليه في تلك المجتمعات من حقوق لا من العناصر المتدينة بل في إطار مفاهيم الديمقراطية والليبرالية والقيم العلمانية، وهذه مفارق مهمة. وبالتالي فينبغي أن تكون النِّسب في هذه التحالفات مدروسة بعناية ومنضبطة أشد الانضباط.
ثالثا: أن تعتني هذه الأقليات بالأجيال الطالعة، وأن تعمل على تنشئة مجاميع من أبنائها قادرة على الوصول إلى المؤسسات التي تقوم على خدمة تلك المجتمعات، فلا تتردد في العمل فيها والانضمام إليها، مع المحافظة على الانتماء إلى المجتمع المسلم والاعتداد بالهوية الإسلامية وعدم القابلية للتفريط بها، وعدم الاكتفاء بتوجيه الأبناء نحو وظائف الطب والهندسة طمعا في العائد المادي لهذه الوظائف، بل لا بد أن يتجه بعض الأذكياء إلى المحاماة للدفاع عن حقوق مجتمعهم المسلم وإلى الإعلام والمؤسسات الأمنية المهمة وإلى سائر المؤسسات التي تمكنهم من أن يقدموا أنفسهم للمجتمعات الغربية على أنهم نماذج مسلمة تحب مجتمعها وتخدمه وتعطف على فقرائه ومستضعفيه، وتقدم العون لمن يحتاجه ويستحقه دون تمييز، فبذلك تتمكن من بناء أواصر محبة وصداقة وتعاطف مع المجتمعات التي يعيشون فيها، وكل ذلك مشروط بالانتماء والمحافظة على الهوية.
** لكن هل الأمور تمضي باتجاه ييسر هذه السبيل أم أن الواقعة الراهنة والسياق الساخن المحيط من الهجوم على الأمة.. هل تمضي الأمور باتجاه صراع حضارات حقا؟
– لا شك أن هناك عناصر في الغرب تسعى لإيجاد حالة صدام مع العالم الإسلامي لأن ذلك الصدام يحقق لها مصالح وأحلاما كامنة، لكن الحكمة كل الحكمة في أن نعمل على معرفة هذه الأطراف ورصدها ومحاولة عزلها عن التيار الغربي العام، لكي لا نتيح لها فرصا أكبر لتحقيق أهدافها. وهنا نرجع إلى دور النخب والمؤسسات الإعلامية والفكرية التي عليها أن تقوم بعمليات الرصد لهؤلاء والكشف عنهم والحيلولة دون القيام بردود أفعال تجعلهم قادرين على أن يبرهنوا بسهولة على دعاواهم وافتراءاتهم ضد الإسلام والمسلمين.
نحن لا ندعي أن الأمر سهل، إنه في غاية الصعوبة ولكن القضية قضية حياة أو موت، لا لقيمنا وحدها، بل لحضارتنا وتاريخنا ورسالتنا، وحتى للنظم الموالية للغرب من النظم المهيمنة في بلداننا، إضافة إلى هويتنا وشعوبنا.
إضافة:
في الختام أريد أن أغتنم هذه الفرصة لأوضح موقفًا كنت قد وقفته في إسلام اون لاين عندما وجه الأخ د. طارق رمضان نداءه حول تجميد تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي فقد سألني الأخ مراسل إسلام اون لاين على التليفون أثناء وجودي في أمريكا عن موقفي من ذلك النداء ولم أكن قد قرأت نص النداء الذي أعلنه د. طارق بل قرأ مراسل إسلام أون لاين لي على التليفون ما اعتبره مضمونًا أمينًا للنداء المذكور.
وحين اطلعت بعد ذلك على النص الذي أعلنه باللغة الانجليزية وجدتني قد قسوت عليه وما كان لي أن أفعل ذلك، فليس ذلك من شيمتي وما اعتدت أن أفعله مع من هو أقل من د. طارق رمضان فكيف والدكتور طارق ابن صديق عزيز عرفته في شبابي هو الأستاذ سعيد رمضان –يرحمه الله.
ولذلك فإنني أغتنم هذه الفرصة ومن خلال إسلام أون لاين نفسها لتوضيح موقفي ذلك مع ثقتي بأن ذلك النداء ومثله قد أطلق في وقت غير مناسب كما أنه كان الأنسب أن نطالب بتهيئة البيئات المسلمة للتطبيق السليم للشريعة، لا باعتبارها نظامًا عقابيًا فحسب بل بعمومها وشمولها لتكون الحارس الأمين للعقيدة والهوية والحاضر والمستقبل في بلدان الأكثريات والأقليات معًا. إذ لا يمكن أن تتحقق ثقافة إسلامية وتبني شخصية مسلمة وهوية إسلامية والعقيدة تعصف بها الأهواء والشريعة يطالب بتحيتها أو تجميدها ولكن لكل اجتهاده ولكل وجهة هو موليها، وكل منا على ثغرة نرجو الله تعالى أن يمكنه من حسن الوقوف عليها.
والله من وراء القصد،،،
المحاور: جزاكم الله تعالى خيرا وأثابكم على ما تقدمونه للأمة من فكر وعطاء.