Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مراجعات الجهاد خلط في مفهوم “الحاكمية”-حوار مع إسلام أون لاين1

الفقيه والمفكر الدكتور طه جابر العلواني في حواره مع إسلام أون لاين. نت (1)

مراجعات الجهاد خلط في مفهوم “الحاكمية”

حوار- إسلام عبد العزيز فرحات.

“من أفتى بجواز حمل السلاح داخل المجتمعات الإسلامية لا دليل عنده، بل الدليل ضد ما ذهب إليه، لكنه كان في السابق يستعلي على الأمة ويحتقر علماءها ويعتبرها مجرد كم من الأميين والجهلة، له أن ينطق باسمها رغما عنها”.

هكذا وصف د.طه جابر العلواني –رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية سابقًا ومدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي- في حواره مع “إسلام أون لاين.نت” من يقومون الآن بمراجعات جماعة الجهاد المصرية، مؤكدًأ أنه لا يعتبر ما يثار الآن تراجعًا عن فكرة العنف، وإنما تحولا من الأخذ بما اعتبروه عزائم إلى ما أعتبروه رخصًا لذلك فهذا “لا يعد مراجعة ولا فقها ولا إدراكا لرائحة الفقه”.

وفرَّق العلواني بين مفهومين للحاكمية، أحدهما أسماه “الحاكمية الإلهية” والآخر “حاكمية الكتاب بقراءة بشرية”، مشيرًا إلى أن الحاكمية الإلهية كانت قبل رسالة الإسلام العالمية الخاتمة، وأن حاكمية الكتاب هي من المحددات المنهجية لرسالة الإسلام الخاتمة.

ورفض العلواني ما يفهمه البعض من أن مسألة ختم النبوة من الفضائل للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ هي بحسبه من المحددات المنهجية للإسلام التي يترتب عليها فهم معين، يرفض العلواني على أساسه فكرة ظهور المهدي، ونزول عيسى (عليه السلام)، مؤكدًا أن ختم النبوة “ينفي الحاجة إلى أي شيء غير محمد صلى الله عليه وسلم وغير القرآن، ليس هناك حاجة للبشرية لأي أحد آخر، وكل ما يقال بعد ذلك يصادم ختم النبوة كمحدد منهجي”.

قضايا كثيرة اشتمل عليها حوارنا مع د.طه جابر العلواني .. والذي ننشره على حلقتين هذه أولاهما ..

* بداية فضيلة الدكتور .. ونحن بصدد الحديث عن مراجعات جماعة الجهاد .. هل لنا أن نتعرف من فضيلتكم على موقع الجهاد في البناء الإسلامي، بمعنى هل يعتبر الجهاد هدفًا في حد ذاته أم أنه وسيلة للوصول إلى هدف أعلى؟

–  هذا السؤال يقتضي أن نؤكد على شيء غاية في الأهمية .. وهو أن الإسلام رسالة عالمية شاملة كاملة، بدأت بسيدنا إبراهيم عليه السلام، فهو سمانا المسلمين، وهو الذي أسس هذا الدين، ونحن جميعا من ذريته، فالإسلام رسالة عالمية بدأت بإبراهيم وانتهت بمحمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

فالإسلام جاء على أيدي المرسلين متدرجًا بعد أبي الأنبياء، وكلهم جاءوا بالإسلام وكلهم حملوا لأممهم الإسلام، ولكن هناك من جاء بطبعة خاصة بقومه، وهناك من جاء بطبعة خاصة بقرية أو مدينة أو مجتمع، وهناك الرسالة العالمية التي أتت للناس جميعا، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

وللتأكيد على هذا المعنى يقول الله (تعالى): ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران:85)، أما الأسماء الأخرى من يهودية ونصرانية وغيرها فهي مندرجة تحت عملية إسلام الوجه لله (سبحانه وتعالى)، فالدين الذي أعلن الله (سبحانه وتعالى) تمامه وكماله على يدي خاتم النبيين في سورة المائدة: ﴿ ..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ..﴾(المائدة:3) المخاطب هنا “بلكم” هي البشرية كلها، أكمل لها الدين وأتم عليها النعمة وأصبحت البشرية تعيش بين مشروعين، مشروع رباني وهو الإسلام، ومشروع شيطاني من إبليس.

في هذا الإطار نظر الإسلام إلى البشرية على أنها أسرة واحدة ممتدة، لا فرق بين عربي أو أعجمي، فتغيرت بهذه النظرة الموازين والمقاييس، ولم تعد هناك قيمة لأي شيء ذي طابع حصري، فلا العرق ولا اللون ولا البقعة الجغرافية التي يعيش فيها الإنسان، ولا القبيلة التي ينتمي إليها عاد لها معنى، وإنما هي أسرة واحدة ممتدة جعلها أسرة واحدة للتعارف، والتعارف يؤدي إلى التآلف، والتآلف يؤدي إلى التعاون، وبالتالي تتحقق القيم الإلهية التي أراد الله أن تتحقق.

فالتوحيد لله (تبارك وتعالى)، والتزكية للإنسان، والعمران للكون، فكأننا أمام ثلاثية: غيب -والله (سبحانه وتعالى) جعل الغيب من عالم أمره-، وإنسان مستخلف، وكون مسخر، فالغيب معقله التوحيد، والإنسان المستخلف لا يمكن أن يؤدي أمانة الله إلى الله بالتزكية، وهذا الكون لا يمكن إعماره إلا إذا قام على دعامتين: التوحيد والتزكية، فالتوحيد لا يسمح أن يكون البشر عبيدًا لبعضهم، والتزكية تؤهل الإنسان للقيام بدوره المطلوب.

الإسلام .. والحاكمية

* دعني هنا فضيلة الدكتور أتساءل: إذا كانت النظرة للإسلام كدين بهذا المعنى، فهل هناك محددات وخصائص لهذه الرسالة العالمية الأخيرة تضبط إيقاع تلك النظرة الشمولية؟

-نعم بالطبع .. فرسالة الإسلام الخاتمة بها خصائص هامة مميزة، لعل أهمها: عالمية الخطاب، وحاكمية الكتاب، وختم النبوة، وشريعة التخفيف والرحمة.

* وماذا تعني تلك الخصائص؟

-هذه الخصائص تعني الكثير .. فلكي تكون هذه الرسالة رسالة عامة تستوعب البشرية كلها وتهيئها لكي تقبلها، فهي في حاجة إلى أن ترتبط ليس بحاكمية إلهية كما اقتضت ظروف الدعوة في بني إسرائيل، وإنما ترتبط بحاكمية الكتاب ..

*وما الفارق؟

الفارق كبير بالطبع .. فالحاكمية الإلهية تقوم على خوارق في العطاء وخوارق في العقوبة، فالله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ..﴾ (الإسراء:101)، ﴿.. أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ..﴾ (الأعراف:160) دعوة قامت على خوارق، هذه الخوارق يقابلها خوارق في المسئولية والعقاب، ولذلك لما قال لهم “اسمعوا وأطيعوا” وقالوا “سمعنا وعصينا” .. نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم “لماذا؟ لأن الحاكمية لله (سبحانه وتعالى) .. تريد أن تأكل .. أنزل لك المن والسلوى من السماء، وعندما تخالف أعاقبك بأقصى أنواع العقوبة. فالحاكمية الإلهية تقدس الشعب فيصبح غير مسموح بالمعصية، والمعصية تأخذ أقصى عقوبة، فمن قتل كأنما قتل الناس جميعا، وإذا سرق قطعت يده، وإذا زنا في الشريعة الإسرائيلية، لا يوجد عفو ولا أي شيء آخر؛ لأن الحاكمية إلهية، والأرض مقدسة، والشعب يرتقي لأن يكون رعية لله (تعالى).

فهذه مرحلة من مراحل البشرية كانت في حاجة لهذه الحاكمية الإلهية، أما عندما تضع البشر كلهم في رسالة واحدة على اختلاف عقولهم وأماكنهم وأزمانهم، فلابد أنك تحتاج لنوع آخر من الهيمنة والحاكمية، فتحولت الحاكمية من حاكمية إلهية مباشرة إلى حاكمية للكتاب بقراءة بشرية.

وهنا جاءت الرسالة العالمية الخاتمة، أو الإصدار الأخير للإسلام، فجرت عمليات التخفيف، وانتقلت الحاكمية من إلهية إلى حاكمية للكتاب بقراءة بشرية، وكان هذا يستوجب ضمانا بعدم تغيير هذا الكتاب أو تحريفه، لذا أنزل الكتاب في أرض محرمة؛ ليحرم تحريفه ويستحيل، أرض بني إسرائيل مقدسة لاتصالها  بالله (سبحانه وتعالى)، وأرض الحرم محرمة وهي بذلك أعلى من المقدسة؛ لأن هذا هو الحريم أو الحرم، والعرب كان يُطلق الواحد فرسه ويقول: إلى أن يقف فرسي فهو حرمي، لا يدخل أحد المكان إلا بإذنه، وإذا  جرى اعتداء فهذا الشخص مسئول عن رد المعتدي عن حريمه.

فالله (تبارك وتعالى) قال: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ..﴾ (العنكبوت:67)، هناك مسئولية تفضل الله بنسبتها إلى نفسه، حيث قال إنه حرمي؛  ولذلك بدأ نزول القرآن في الحرم، فحُفظ منذ اللحظة الأولى، أمَّا الكتب الأخرى فيشير إليها بقوله: ﴿.. بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ..﴾ فضيعوه ﴿.. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ..﴾.

من هنا وبهذه الضمانات أصبحت الحاكمية للكتاب بقراءة بشرية، تخطيء هذه القراءة وتصيب، ولهذا الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال عن المجتهد إذا اجتهد فأصاب له أجران وإذا أخطأ له أجر؛ لأنه اجتهد في فهم المعنى المراد.

أما عن خاصية ختم النبوة، فأنا أعتبرها محددًا خطيرًا، يقتضي ضمن ما يقتضي ألا يأتي نبي بعد محمد (صلى الله عليه وسلم)، أبدا لا مهدي ولا رجوع عيسى الثاني، ولا غير ذلك، كل ذلك يحتاج إلى مراجعة في ضوء هذا المحدد المنهجي.

هل ينسجم مع الإيمان بختم النبوة أن يقال: يأتي فلان بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟! إذا كان سيأتي نبي فلماذا لا يأتي محمد خاتم  الأنبياء صاحب الرسالة العالمية؟ لماذا يأتي عيسى الرسول لبني إسرائيل.. لولا أن للإسرائيليات نفس في هذا.

هؤلاء أنبياء محليون، ولا يمكن تبريرها بأنها محاولة لتفسير رفع عيسى، الله (سبحانه وتعالى) مرة قال توفاه ومرة قال رفعه، وإذا رفعه هل رفعه نفسًا أم جسمًا، كلها موجودة، أرادوا أن يسحبوا صفة العالمية من رسالة محمد ليمنحوها لعيسى، ونحن المسلمين لا نفهم هذا؛ لأنهم علمونا عن فلان عن فلان عن فلان..!!

* أريد أن أتوقف عند هذه النقطة .. ترى فضيلتك أن محدد ختم النبوة في المنهج الإسلامي يحتم عدم ظهور المهدي وعودة عيسى؟

-نعم .. لا يحتم فقط، بل ينفي الحاجة إلى أي شيء غير محمد صلى الله عليه وسلم وغير القرآن، ليس هناك حاجة للبشرية لأي أحد آخر، وكل ما يقال بعد ذلك يصادم ختم النبوة كمحدد منهجي. وللأسف ترى بعض المسلمين يتحايل على هذا الأمر  فيقولون: إنها فضائل، وقاموا يدقون الطبول ليشوشوا على منهجية ختم النبوة وما تقتضيه، كما شوش ميشيل عفلق عندما كتب عن الرسول العربي وترك الرسالة وقال عبقرية، وكان عبقريا فجمع كلمة العرب وعملهم كذا وكذا .. ونحن نؤكد : لا .. هو ليس عبقريا بهذا المعنى، إنما هو سيد الناس كافة، وأذكى الناس كافة، لكنه يوحى إليه، وهي مسألة غيبية.

فهؤلاء مستعدون أن ينسبوا كل صفات القيادة كافة له –صلى الله عليه وسلم- إلا الرسالة والنبوة؛ لأنه لا يقدر عليهما، فهو يقول إن الرسول عبقري، فأنا ذكي أيضا ويمكن أكون عبقري .. ولذلك ختم كتابه بجملة خطيرة “كان محمد كل العرب فليكن اليوم كل عربي محمدًا”.

نعم هو يريد أن يصل إلى هذا .. طبيعة الشخصية أصبحت مناسبة للجميع، صار ذكيا وعبقريا، ودعا للوحدة والحرية والاشتراكية، وبان قصده حينما وقع في مطب آخر، فقال: “ولقد مثلت الجاهلية العربية التي لا تستحق أن تسمى جاهلية أنقى فترات التاريخ العربي، ففي الإسلام اختلطت شعوب أخرى مع العرب” فهذا مثله مثل من جعلوا ختم النبوة من الفضائل، كلامهم جميل لكنه خطير، ينفي عن الإسلام أهم محدداته المنهجية.

أين الجهاد

* أين الجهاد إذا في هذا المنهج وتلك الشمولية؟

-يصبح الجهاد كما قال (سبحانه وتعالى) ﴿.. وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾(الفرقان:52) أمر نبيه الكريم أن يجاهد البشرية بهذا القرآن جهادًا كبيرًا؛ ليفهموه ويقبلوه ويتعاملوا معه ويقرؤوه، حتى حصر مهمة الرسول في أكثر من آية ﴿.. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ..﴾ (القصص:59)، ﴿.. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ .. ﴾ (البقرة:129) يتلوا ويعلم كيف يطبق ويتبع هذا المتلو، ويطهرهم يتأكد من المآلات والنتائج، هل زكت قلوبهم به أم لا؟

﴿.. وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان:52) حتى يبدؤوا في قراءته وتحكيمه ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ (آل عمران:23-24) يعلمنا الله (سبحانه وتعالى) أن نبحث عن الأسباب التي جعلتهم يرفضون تحكيم كتاب الله، إنها عدم إيمانهم بوجود آخرة، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ..﴾ (البقرة:80) .

ولذلك الجهاد لم يبدأ مع الرسالة، ولو كان الجهاد مقصورًا على المعنى الذي يفهمونه، أي القتال والدفع والطلب، لكان بدأ مع شهادة ألا إله إلا الله، بل بدأ بعد 14 سنة، وقال: ﴿.. وَجَاهِدْهُم بِهِ .. ﴾ ولما صارت الحاجة للقتال جاء الأمر بإذن أي أنه كان هناك منع سابقا ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39) ومن ثم ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة:216)، ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ..﴾ (الأنفال:39) حتى لا يعذب المؤمنون على إيمانهم، حتى لا يحال بين الناس وبين الإيمان ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ (النساء:75) ولكن الرسول كان يرسل أتباعه إلى الحبشة النصرانية ذات الملك النصراني لقيمة معينة وهي أنه لا يظلم عنده أحدًأ.

*تقصدون أن الجهاد هنا وسيلة لتحقيق غاية أكبر وهي جعل الحاكمية للكتاب؟

-نعم.. جعل الحاكمية للكتاب وتوصيل الكتاب إلى الناس، وعرضه عليهم، ودعوتهم إلى الالتزام به وتلاوته وتحقيقه وتحكيمه.

* ولكن بهذا المعنى من المؤكد أن مصطلح الجهاد قد حدث له تطور تاريخي وتطور في الفهم أيضا على مدى العصور؟

-من المؤكد أن هذا قد حدث، فالبشر يسقطون على المفاهيم بأهم ما يحتل عقولهم، أو ما يسيطر على مشاعرهم وعواطفهم من أمور، لذلك الصحابة كانوا يقولون: كان الرسول يفرغنا ويملؤنا، يفرغنا من المفاهيم الخاطئة، ويملؤنا بالمفاهيم الصحيحة، فيقول لهم: “من المفلس؟ قالوا المفلس عندنا من لا درهم له ولا متاع، فيقول لا، المفلس هو من يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا وشتم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فألقيت عليه ثم طرح في النار”.

هذه الأسئلة النبوية وهي كثيرة، والتي كان يثيرها باستمرار حول قضايا مختلفة منشأها القيام بعملية تغيير المفاهيم، فالجهاد جهاد الناس بالقرآن، وحمل الإنسان نفسه على المكاره، حمل النفس على الصيام، حملها على الهجرة، وهي تكره هجرة ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ..﴾ (النساء:66).

هذا كله جعل الأمر واضحا عند جيل التلقي تماما، وهو جيل الصحابة في عصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، خذ مثلا الحديبية، ثار الصحابة أبو بكر وعمر على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وحزن النبي ودخل لأم سلمة، وقال لها إن الناس عصوني، فقالت له اخرج .. إلى آخره.

فترة جيل التلقي جاهدهم به جهادًا كبيرًا، 13 سنة وهو يجاهدهم بالقرآن، والمعركة الأولى غزوة بدر قادها الباري نفسه، لأنه لا الرسول صلى الله عليه وسلم كان محبا لذلك، ولا الصحابة، لأن الرسول كان قد عقد معاهدة مع الأنصار أن يحموه مما يحمون منه أهلهم وأموالهم، لم يعاهدوا على الخروج للقتال خارج المدينة.

يعرف الرسول ماذا يعني القتال والقتل .. فبدر المعركة الأولى قادها الله (سبحانه وتعالى): ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً ..﴾ (الأنفال:44)، فهو الذي رتب (جلّ شأنه) المعركة؛ لأن هذه الرؤوس كانت قد عفنت، ولا يمكن أن تقبل الإيمان، وستبقى عقبة ونحن نريد أن نحقق النموذج قبل وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم).

وغزوة أحد .. هم الذين فرضوها على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان حتى يريد أن يبقى في المدينة، الأحزاب نفس الشيء، قريظة نفي الشيء، فرضوا عليه بخيانتهم أن يستأصلهم، خيبر كذلك .. الخمسة وثلاثين غزوة التي حدثت في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) كل منها لها قراءة خاصة لا تخرج عن هذا السياق، الرسول كان منهجه الدائم في هذا السياق هو: “لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده” لم يكن يريد قتلا أبدًا.

* لكن دعني أقول لفضيلتك أن البعض يمكن أن يتحدث عن بعث الرسول للفرق والسرايا قبل وفاته، وكان (صلى الله عليه وسلم) على باب أن يغزو هو أو أن تغزو دولة الإسلام الناشئة الدول المجاورة، خاصة أن الرسول كان يريد أن يخرج خارج إطار الجزيرة، فالبفعل كان هناك جهاد أو تأسيس لجهاد من هذا  النوع .. فما تعليقكم؟

-النبي (صلى الله عليه وسلم) والله كان يريد أن يخرج لا شك في ذلك؛ لأنه عارف بعالمية الرسالة.. الخطأ هنا أن الناس تنظر لما جرى في المدينة بعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) على أنه إقامة دولة، لكن أنا أنظر إلى ذلك على أنه إقامة أمة، الهدف القرآني والهدف النبوي بناء أمة، وهي التي تقيم الدولة والحكومة وشكل النظام.

الإسلام لم يضق ذرعًا بشيء، الأساس هو الشريعة، ثم ليختاروا من الأنظمة الحاكمة سواء جمهورية أو مملكة أو سلطنة ما شاءوا، للناس أن يختاروا،  أمرهم شورى بينهم هي في الكتاب بقراءة بشرية.

إذًا فالهدف بالنسبة للرسول (صلى الله عليه وسلم) كان بناء الأمة، من يفكر بعقلية الدولة والمفهوم الحديث للدولة، كثيرًا ما يخطأ في فهم السياق التاريخي للعصر النبوي، فيفهمها ويفسرها بمعاني الدولة السياسية، كيف يكون وطن محدد لإنسان يقول : “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا”؟ كيف يحدد نفسه بوطن؟ ولمَّا الأنصار ظهرت شبهة الوطن في رأسهم وقالوا للرسول (صلى الله عليه وسلم): أن ترى قومك ووطنك وتبقى معهم وتتركنا، قال بل الدم الدم والهدم الهدم، لتأكيد عدم الارتباط بالأرض وإن كانت محرمة، وإن كانت أرض محرمة ذهب للحج ورجع للمدينة، لكن الأرض كلها مسجد وطهور، فكيف يقسمها لدار حرب ودار سلام ودار يُلقى بها نفايات نووية!! هذه الطريقة في التقسيم غير موجودة. 

المسلمون اليوم فقهاؤهم تعاملوا مع واقع -والفقه بطبيعته هو تقنين- يأخذون واقعًا معينًا ويقنون له، يعني الفقه ليست قضية نصوغها قبل أن تقع الوقائع، إذا فعلنا هذا يمكن أن يحدث في المصادر الدستورية، مثل القرآن الكريم في المسائل الأساسية، لكن الفقه في المسائل الجزئية، ولذلك كان الصحابة والتابعون يوصون الناس “لا تسألوا عما لم يقع فإن وقع فاسألوا عنه” كما كان يروي عن فلان وفلان أنهم يجتهدون لتهيئة حلول جاهزة وهم الأرأيتيين.

لا هذا مرفوض .. الفقهاء المسلمون سواء محمد بن الحسن، أو أبو يوسف أو أبو القاسم بن عبيد أبو سلام، أو عمر بن عبد العزيز كانوا يقننون لواقع، فمحمد بن الحسن لما سأله المنصور قسم العالم إلى دار سلام وحرب، فهذه دراسة واقعية لحال العالم آنذاك، يوجد ناس يحاربون الدولة، وناس يسالمونها، وأناس يعاهدون فزادت دار عهد.

فلما قسم الفقيه الجهاد إلى جهاد دفع وجهاد طلب، وجهاد لدفع من يعتدي وجهاد للوصول إلى أماكن أخرى، جهاد الطلب متفقين أننا لا نقاتل الكافر لكفره، وحديث “أمرت أن أقاتل الناس ..” فيه مقال كثير وفيه ضعف شديد، ودراسات موجودة حول أسانيده ومتنه، وفيه تناقض مع القرآن الكريم؛ لأن معنى الحديث إكراه الناس على الإيمان بالسيف، وهو يتناقض مع سيرة النبي الذي كاتب الملوك والحكام.

الفقهاء في أبواب السير التي تناولت قضايا الجهاد، إذا نظرت في أي كتاب فقهي من كتب المذاهب السنية الأربعة أو غيرها، وسواء كان صدر عن مجتهد مطلق أم مجتهد جزئي، أم مجتهد في قضايا الترجيح، تجد أنه ذو صلة بواقع معين، هو تشريع لذلك الواقع، أحيانا ترى في أقوال الفقهاء عدة مستويات، وقسموا إلى طلب ودفع غيرها، لكن ما يحكم علاقتنا كأصحاب رسالة عالمية بغير المسلمين ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8).

إذا لم يخرجك من دارك ولم يقاتلك في الدين ليجبرك على تركه، وجب عليك بره، حتى ابن العربي يقول: أن القسط إليه يقتضي أن تدفع له مالا يعينه عندما يحتاج وغير ذلك ..

لا عنف في الداخل

*وماذا عن الداخل فضيلة الدكتور .. هل من ضوابط فقهية تحكم العلاقة الداخلية على كافة مستوياتها .. بين الحاكم والمحكوم، بين الأطياف المختلفة من الشعب، أحزابًا كانت، أم فصائل، أم جماعات .. خاصة وأننا بصدد الحديث عن مراجعات لبعض الجماعات التي اتخذت العنف منهجًا؟

-أنا أريد أن أؤكد على أن الذي يحكم علاقاتنا الداخلية هو “اللاعنف” داخل المجتمعات الإسلامية؛ وابتدع بعد ذلك من أشكال التواصل ما تريد.. وعندنا أصل في هذا .. ففي الحديث الصحيح الذي ورد عن أبي ذر عندما سأله النبي (صلى الله عليه وسلم): كيف بك إذا رأيت أثرة من الأمراء وكذا وكذا قال إذًا أقاتلهم، قال إذًا تكون مثلهم .. ثم ظل النبي (صلى الله عليه وسلم): يعدد ويقول: كيف وكيف وكيف إلى أن وصل به: كيف إذا رأيت حجارة هذا البيت قد غرقت بالدم، قال إذا أرفع سيفي وأقاتل، قال له (صلى الله عليه وسلم): لا كن حلف بيتك، قال فإن دخل على بيتي؟ قال فألقي بطرف ردائك على وجهك ودعه يبوء بإثمه وإثمك !!

يعني في الداخل الإسلامي لا عنف أبدا، ولا شيء يبرر العنف، يجب أن نحل مشاكلنا بالحوار بدون عنف، اختلف مع الإخوان المسلمين، اختلف مع الجهاد، اختلف مع جماعة التكفير، اختلف مع الشيعة اختلف مع السنة، لا سلاح أبدًا .. رأي برأي وحجة بحجة ليس إلا .. !!

* وماذا عمن تبنوا العنف منهجا، ثم أدركوا خطأهم وقاموا الآن بمراجعات لهذا المنهج؟

-أؤكد لك من الأصل .. من أفتى بجواز حمل سلاح داخل المجتمعات الإسلامية لا دليل عنده، بل الدليل ضد ما ذهب إليه، لكنه كان في السابق يستعلي على الأمة، ويحتقر علماءها ويعتبرها مجرد كم من الأميين والجهلة، له أن ينطق باسمها رغما عنها.

هذا هو الذي حمله أن يقول ما قال، ولما تعرض للضغوط وأدرك حر السيف، جاء ليختار الأقوال الأخف والرخص، يعني كان يقول بما اعتبره عزائم، ثم تنازل ليقول بما اعتبره رخصا، هذا لا يُعد مراجعة ولا فقها ولا إدراكا لرائحة الفقه.

الفقه عندنا قاعدتان: قاعدة مع الخارج نحن لا نقاتل أحدا  ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8). هذه قاعدتنا الذهبية القرآنية مع كل الخارج، في الداخل قاعدتنا أن رسول الله قد حذر صحابيا جليلا وهو أبو ذر عن حمل السلاح، وقال له لا تدافع عن نفسك ودعه يبوأ بذنبه وذنبك، وهذا نص مطلق لا يقيده أي دليل، والحديث صحيح وهو في رفض العنف الداخلي في المجتمع الإسلامي، ولو كان هذا الحديث حاضرًا من أيام ما عرف بالفتنة الكبرى، لما قتل عثمان، ولما حدثت الجمل ولا صفين ولا النهروان ولا المعارك التي حدثت على مر التاريخ.

الآن يعلموننا الديمقراطية وكيفية احتواء الفرق الجديدة عن طريق اعطائها فرصة تكوين أحزاب ودخول البرلمان، لكنا جئنا بآليات أخرى من داخل كتاب ربنا، وهداية رسول الله لكيفية التخلص من هذه الاحتقانات..

لدينا في أصول الفقه مسألة مهمة جدا، انقسم الناس فيها إلى مخطئة ومصوبة، تدرك في أبواب الاجتهاد، المخطئة يقولون إن المصيب واحد من المجتهدين، وهناك رأي آخر يقول كلهم مصيبون، حتى المخطئين؛ لأنه يقول إني لم أكلف لإصابة عين الحق، فالإمام الشافعي عندما يتحدث عن الوجهة: ﴿… فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ …(البقرة:144)، مثل هذا بشكل معين حين قال: فأنا لم أكلف للوصول إلى الحق كما هو في ذاته وفي حقيقة نفسه، وإنما كلفت أن أسعى إليه، وأبذل جهدي كله حتى أشعر بالعجز عن بذل المزيد.

ما يحدث لدينا أننا نسينا هذا الاختلاف، فاعتبرنا الحقيقة شيئًا يُتاح الوصول إليه، وأنك مطالب بالوصول للحقيقة، وتمسكنا بقول من قال: مذهبي صواب يحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب.

وبالطبع الأمة عندما تكون في أحوال طبيعية يمكن أن تتساهل في موضوع الصواب والخطأ، لكن عندما يكون هناك توتر واحتقان فمن الممكن أدفع حياتي ثمنا لخطأ أعتبره أنا صوابا مطلقًا، فأصبح لدينا إمكانية امتلاك الحقيقة، وليست كما كان يقول الأصوليون: “الحقيقة بمثابة كنز دفين يخطئه من يخطئه ويصيبه من يصيبه، فمن أخطأه فله أجر، ومن أصابه فله أجران”، لا .. أصبحت الحقيقة شيئًا يمتلكه الأفراد والجماعات .. ورأيت من يقول الحق معي والباطل مع سواي.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *