تعرفت للمرة الأولى على اسم الدكتور الشيخ طه جابر العلواني في بحث له منشور في مجلة المسلم المعاصرقبل ثلاثين عامًا، هذه الدورية التي انطلقت بعيجا عن الفضاء الثقافي السطحي المغلق للجماعات الإسلامية، وعملت بجدية على فتح باب الاجتهاد في مختلف حقول التفكير الإسلامي لعدة سنوات، قبل أن تنغلق من جديد وتكرر ذات المقولات والمفاهيم التقليدية.
وكان طه العلواني أحد الفقهاء المستنيرين الذين اقتحموا الحدود المهملة في التفكير الديني في الإسلام المعاصر عبر الانتقال إلى آفاق ومساحات لم يفكر فيها الإسلاميون الحركيون من قبل، بسبب عدم توفرهم على تكوين علمي تراثي رصين وجهلهم بالمكاسب الراهنة للعلوم الإنسانية، مضافًا إلى استغراقهم بهموم الحكم، وأحلامهم وشهوتهم الأبدية في الوصول إلى السلطة، وأوهامهم في اختزال التغيير الاجتماعي في التغلب على الحكم.
لقد كان التكوين العلمي والمعرفي للشيخ العلواني مفارقا للتكوين المبسط الهش للكثير م نالدعاة ورجال الدين والوعاظ في المجتمعات الإسلامية اليوم، ذلك أنه انخرط في دراسة المعارف الإسلامية ومقدماتها في فترة مبكرة من حياته، فتتلمذ على علماء خبراء بالتراث ومسالكه الوعرة في بغداد، وبموازاة ذلك حرص على مواصلة تعليمه الأكاديمي الحديث في الدراسات الشرعية في جامعة الأزهر، وكانت أطروحته للدكتوراة تحقيق ودراسة “المحصول من علم الأصول الفقه” لفخر الدين الرازي، وهو من أهم المدونات الأصولية في التراث، وأشملها في استيعاب المعطيات الهامة لهذا العلم وأعمقها في بحث وتحليل القواعد الأصولية، وشحذ التفكير في علم الأصول، واستئناف بناء أساليب الاستدلال وطرائق البرهنة على مسائله، وإعادة صياغة مفهوماته ببيان مختلف.
وبعد الدراسة الجادة المعمقة لأصول الفقه والموروث بأسره، أنطلق العلواني ليصوغ أو يواصل صياغة مسالك بديلة للدراسات الشرعية، تؤصل أسس ومرتكزات راسخة لاستنباط فقه يواكب الحياة، وينفتح على معطيات العصروالمكاسب الراهنة للعلوم والمعارف.
أدرك الشيخ العلواني أن أحد أبرز مظاهر أزمات مجتمعاتنا هي الأزمة الفكرية، وهذه الأزمة تتطلب أزمات استئناف النظر في مناهج الاجتهادن والتسلح بالجرأة في نقد التراث، وإعادة بناء أدوات منهاجية للاجتهاد تتخطى الأدوات التقليدية التي اختفت في فضائها العناصر المرنة في التشريع وتعطلت الآليات الديناميكية عن وظيفتها في إنتاج فقه يستجيب لأسئلة الحياة المتنوعة، وتحولات الواقع السريعة والملتبسة.
ومنذ أن تولى الدكتور طه رئاسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي مطلع 1981م حرص على احتضان الأبحاث المقاصدية وكرس لها عدة حلقات دراسية وندوات ومؤتمرات، واقترحها في مساقات ومتطلبات التعليم الشرعي في المعاهد والجامعات، كما خصص نصيبًا وافرًا من مطبوعات المعهد لمعالجة التفكير المقاصدية ما يتصل به. وأخيرًا تفرغ لتدوين مجموعة أبحاث مشبعة بالروئ الاجتهادية الجديدة لإعادة بناء التفكير المقاصدي، وبلورة رؤية نظرية لمنظومة المقاصد العليا الحاكمة، المتمثلة بالتوحيد والتزكية والعمران وما تفضي إليه من شريعة القيم والتخفيف والرحمة، بديلا عن شرائع الإصر والأغلال والحرج واللامعقولية المقنعة بالتعبد.
وكان المفكر السوداني الصديق المرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد قد أشار في كتابه “جدلية الغيب والإنسان والطبيعة: العالمية الإسلامية الثانية” إلى تلك المنظومة المقاصدية، غي أن شيخنا العلواني واصل صياغتها، وأعاد إشاردة أركانها، وارتقى بها إلى مصاف النظرية المتماسكة التي تصلح كأساس رؤيوي تنبثق عنه طائفة من القواعد المحورية، وتولد في سياقه الكثير م نالمقولات والمفاهيم المركزية والأدروات الإجرائية في إنتاج المعرفة الفقهية، وفهم وتفسير نصوص الكتاب والسنة.
وفي ضوء ذلك شدد العلواني على مرجعية القرآن الكريم، وهيمنته على السنة وتراث النبوة كلها، ونبه إلى أن دور السنة النبوية يقتصر على البيان والتوضيح والشرح والتفسير، وان الارتقاء بها كمرجعية موازية للكتاب أحد أبرز ثغرات التفكير الديني في الإسلام.
وكنت أتمنى أن يصرح شيخنا العلواني بعدم تخصيص أو تقييد السنة وخبر الواحد بالذات لعمومات وإطلاقات الكتاب الكريم، ليخلص المسلمين من معظم الفتاوى والأحكام المستندة على أخبار الآحاد المأخوذة فيها الموضوعات بنحو القضايا الخارجية، وكانت معبرة عن أحكام زمنية تدبيرية خاصة بعصر الرسالة.
ويتجلى التفكير المقاصدي والتوكؤ على الكتاب كمرجعية وحيدة في عدة فتاوى جريئة للعلامة العلواني أوضحها فتواه في نفي حد الردة، والنص على حرية الاعتقاد، وأنه لا إكراه في اعتناق الدين، كذلك لا إكراه في التخلي عن الدين وعدم الاعتقاد به.
ضيعه سنة العراق وفرّط به شيعة السلطة
رحم الله العلامة الصديق د. طه جابر العلواني الذي رحل إلى الملكوت الأعلى هذا اليوم.. ربطتني صداقة بالمرحوم الشيخ العلواني تمتد إلى ما يقارب الثلاثين عاماً، عبر مراسلات ولقاءات آخرها في القاهرة.
واضاف الرفاعي “المرحوم د. طه العلواني (فقيه سنة العراق) الجريء الجسور المستنير، ضيّعه سنة العراق، كنبي ضيّعه قومه، كما نساه شيعة السلطة في العراق، رغم انه كان على صلة عضوية بهم، وبمرجعية آية الله السيد محسن الحكيم، وهو المنسق بين هذه المرجعية وسنة العراق، قبل أكثر من نصف قرن، من خلال صديقه ابن المرجع العلامة الشهيد المرحوم السيد مهدي الحكيم.. لا أعرف فقيهاً معاصراً تجرأ كما هو، فكتب كتاباً هاماً نفى فيه حد الردة، وشدد على أن عقوبة المرتد أخروية لا دنيوية، كذلك نفى الحدود والعقوبات البدنية، بأدلة فقيه خبير، يتوكأ على القرآن الكريم كمرجعية في استدلاله، بوصفه قيماً ومهيمناً وشارحاً للحديث الشريف.. عزائي لأخيه د. مصطفى، وابنته د. رقية، وكل عائلته الكرام.. وانا لله وانا اليه راجعون.