Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

د. جاسر عودة بيننا وبينكم يوم الجنائز

بيننا وبينكم يوم الجنائز .. في فضل العلامتين العلواني والترابي

قولوا لأهل بدع بيننا وبينكم يوم الجنائز: قالها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله رداً على من اتهمه في دينه ورماه بالشذوذ والضلال، وهو رد يشير فيه الإمام بفقهه وثاقب نظره إلى أن الأمة هي التي تحكم على علمائها، وأن فجيعة الأمة في العلماء وخروج الناس لوداع العالم المصلح دليل على صدقه ونصحه ولمسه لحياة الناس ومتاعبهم وهمومهم.
العالم في هذه الأمة لا يعطيه هذه المكانة درجة علمية بعينها، فكم من شهادات على الورق لا تعني علماً ولا سلوكاً ولا فقهاً .. تدرك ذلك الأمة، ولا يعطيه إياها منصب ولا رياسة ولا بابوية ولا مشيخية، فكم من مناصب هي وبال على العلماء وعلمهم وأمانتهم .. تدرك ذلك الأمة، ولا يعطيه إياها مستبد يرسل أبواقه وحاشريه لينشر ذكر العالم، فكم من عالم لا تفتأ الشاشات أن تلمع فيه وإذا رحل فليس عند الأمة من المأسوفين عليهم .. تدرك ذلك الأمة. (فما بكت عليهم السماء والأرض). العالم في هذه الأمة هو الذي تختاره الأمة وتثق فيه وتثبت على ذلك خلال الأحداث والفتن والكواشف، إلى يموت العالم فتجزع الأمة وتخرج الأمة لوداعه والشهادة له والترحم عليه. تترحم أمة محمد على ورثة محمد، على من افتقده الجاهل حتى يستعلم منه والمحتار حتى يستشيره والغارم حتى يسأله العون.
ولذلك فقد خرجت الأمة المحمدية لوداع العالمين الفقيدين الأستاذين الشيخ الدكتور حسن الترابي والشيخ الدكتور طه جابر العلواني، وبكاهما كثر من الفضلاء والعلماء وطلبة العلم، وصدق فيهما قولة الإمام أحمد رحمه الله: بيننا وبينهم الجنائز!
ولكن، خرج بعض السفهاء وطالبي السمعة على ذمم الناس ينالون من الشيخين أو أحدهما على خلاف فقهي هنا أو هناك، أو قرار سياسي تختلف فيه الأنظار، أو رأي اجتهادي أصاب فيه أحدهما أو أخطأ. وأبسط قواعد الفقه تعلمنا أن كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم، وأن المجتهد إذا اجتهد وأخلص وأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد، وأن السياسة هي الحكم بالمصلحة، وهو حكم قد تختلف فيه الأنظار كثيراً وتتشابك الرؤى.
على أنني من خلال تلمذتي وشغفي وتعلمي من الشيخين الجليلين أشهد أنهما كانا ينصحان لهذه الأمة ما استطاعا، ويخافان من كتم العلم وعواقبه، ولا يخشون إلا الله في آراء لهما كانا يعلمان جيداً أنهما لن يحصدا منها إلا المتاعب، وشهدت أنهما ما طلبا بأقوالهما منصباً ولا مالاً ولا جاها، ولم يبيعا الدين بثمن بخس كما يبيعه كثير من مدعي العلم، بل كانت الأقوال والآراء وبالاً عليهما من الطغاة شرقاً وغرباً.
حكى لي الشيخ العلواني رحمه الله عن قصته مع السلطات الأمريكية، وكيف اقتحموا عليه بيته بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بشكل مسلح وعنيف لدرجة أن زوجته الدكتورة منى أبو الفضل رحمها الله مرضت منذ ذلك اليوم إلى أن ماتت فيما بعد رحمها الله. وأنهم ضغطوا عليه في بعض فتاويه خاصة الفتوى التي تعلقت بحض الجنود المسلمين في الجيش الأمريكي على عدم خوض حروب الخليج الظالمة، فلم يتراجع عن فتاويه، ثم قالوا له بالحرف أنه خطر على الأمن القومي لإن اعتداله ووسطيته هما مصدر الخطر، واشترطوا عليه أن يغادر إلى غير رجعة – رغم الجنسية الأمريكية التي يحملها. وكان يشتكي رحمه الله من بُعد الأمة عن الاعتدال والتوازن والمراجعة المنصفة في كثير من القضايا وأن أسلوب (الصدمة) – على حد تعبيره – أولى لأنه قد يفيق الجهلاء ويحقق نتائج أفضل من الأسلوب الذي يراعي الجو العام، وأن هذا الأسلوب وإن جلب له المتاعب إلا أنه في رأيه الأسلوب الأنجع في التغيير بالإعلان عن الحق أينما وصلت إليه قناعة العالم.
وحكى لي الشيخ الترابي عن دخوله السجن مرات بسبب قول ما يراه أنه الحق، كان منها مؤخراً رأيه في ظلم حكومة السودان لأهل الجنوب بالإخفاق في سياسات التنوع والاستيعاب، وأن هذا الظلم إما أن تفعل الحكومة شيئاً فيه وإما تتحمل عواقبه، وكان هذا الكلام من دواعي سجنه في المرة الأخيرة. وحكى لي عن محاولات كثيرة كانت منه للوصول إلى نوع من التعاون أو التكامل بين مصر والسودان حين كان في الحكومة، وكيف أن مبارك قال له بالحرف الواحد إن قراره في هذه الأمور ليس في يده وإنما في يد الأمريكان (!) … إلى آخره. وقد ناقشته مرات في بعض فتاويه – رحمه الله – التي لا أراها صائبة وجادلته كثيراً، ولم يقنعني رحمه الله، ولكن أعجبني حلمه وصبره وابتسامته الدائمة وحرصه على تبليغ ما يراه أنه الحق ولو كره الكارهون.
ولا أقول أن أياً منهما كان خالياً من الأخطاء أو النقائص، فالبشر يصيب ويخطئ، ولكن كما قال ابن القيم رحمه الله: من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر ، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره ، ويعفى عنه ما لا يعفى من غيره ، فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث … أو كما قال الشاعر: فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً = فأفعاله اللائي سررن ألوف.
رحم الله أستاذانا وألهم ذويهما الصبر والاحتساب والسير على خطاهما، وعوض أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيهما علماء مستنيرين واسعي الأفق يقولون الحق ولا يخافون لوم الغالين ولا المفرطين. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *