Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

 د. رقية العلواني

تعلمت من والدي

من الصعوبة حقًا أن أكتب عن والدي في كلمات معدودة، ولكني لن أذكر هنا إلا بعض ما نقش في ذهني منذ الطفولة من خلال مواقف معينة مرّت بي حينها. والدي تميز بحنان فياض، طغت على بعض ملامح ذاك الحنان الغامر، شخصيته القوية التي بدت عليها وطأة الأحداث التي مرت به في مختلف مراحل حياته المديدة بإذن الله. أذكر أني مرضت وأنا في السابعة من عمري، مرضا شديدًا، ألزمني البقاء في الفراش فترة طويلة، فكان ظهر والدي لي مقعدًا كلما ذهب بي إلى الطبيب دونما كلل أو ملل. كم كان يحاورني في صغري، يستمع لي، ولهمومي الطفولية بل ويشعرني بأنها ذات قيمة ومعنى عظيم مهما كانت بساطتها. ولم يزل إلى اليوم –رغم كل همومه الفكرية ومشاغله- يحاور أولادي بنفس طويل وصبر وأناةن يندر وجودها. لطالما كان يأخذ بيدي أمام شيخه وأستاذه فضيلة العلامة الشيخ عبد الغني عبد الخالق –رحمه الله-، ولم أكن قد تجاوزت السابعة من العمر آنذاك، لتلاوة ما حفظته من سورة البقرة على يد أحد قراء مصر… ولأنشد أبياتًا من الشعر أمامه… كل تلك المواقف وغيرها، تمر صورها أمام مخيلتي الآن ولم أكن أدرك حينها أن والدي –رعاه الله- قد تبنى نهجًا تربويا في غاية الأهمية في غرس الثقة في نفوس الأبناء وتدريبهم على فنون التحاور والإصغاء والإلقاء بأسلوب ربما يصعب على المرء تعلمه إن لم يعضد في مرحلة الطفولة والصبا. كم تعلمت منه ولا أزال، ولكني تعلمت بصمت دون صخب الكلمات وضوضاءها، تعلمت من خلال سلوكه وعمله ومواقف كثيرة حدثت أمام ناظري. مواقف خلت من ثرثرة الكلام، إلا أنها حفرت في ذاكرتي وحياتي خطوطًا يصعب ان أمر عليها اليوم دون أن أرفع أكف الضراعة إلى الله ان يحفظ والدي الذي تعلمت منه ما لم اتعلمه في المدارس والجامعات.

برّ الأمان

ما زلت استيقظ في منتصف الليل وصوته يشدو في أذني، يناديني بأحبّ الأسماء إليّ .. ذاك الاسم الذي كان يناديني به وأنا طفلة صغيرة، فأجري إلى أحضانه فيضمني وأختبئ في عباءته، فأرى الدنيا وقد حيزت لي من أطرافها. هل اليتيم من فقد والده ولم يبلغ الحُلم حقا!. فلماذا أشعر باليُتم وقد شارفت على الخمسين عامًا!. لماذا باتت الدنيا وكأنها أشد ضِيقًا من سّم الخياط…. كانت بالأمس رحبة، تتسع لكل الأمنيات والآمال العريضة التي لا ترضى دون صلاح الأمة ورفعتها مطلبًا. أين الانتظار والترقب لإجازة قصيرة، أحزم فيها أمتعتي وأحظى فيها بقربه والأنس بحديثه….أين لهفة الجديد …القادم المرتقب……أين…أين… هل رحل كل هذا عن حياتي حقا! هل رحل والدي! عاش والدي ومات غريبًا ولم تكن غربته في أرض ولا أوطان. عاش والدى متواضعًا في غير حاجة ولا نقصان، عاش مجاهدًا دونما جياد ولا فرسان، عاش أسيرًا من غير سجن ولا قضبان. وعاش دوما ملكًا من غير عرش ولا سلطان… …… لست بشاعرة ولا أكتب الشعر ولكن لكل كلمة مما كتبت، معنى أفصحَ عنها البيان وفاض بها الوجدان، فما هي إلا فصل من فصول حياة والدي. لم ادرك يومًا أن والدي ناهز الثمانين عامًا إلا حين نعته الصحف والمنظمات والهيئات في مشارق الأرض ومغاربها، قائلة؛ رحل العلواني عن عمر ناهز الثمانين عامًا. ليس لأني لم اعرف ولكني لم اشعر بها يومًا، فما جالسته إلا وشعرت أني أمام شاب لمّا يبلغ الثلاثين عامًا. نعم. في قمة الشباب والحيوية والنشاط، ولم يكن شباب والدي شباب صحة ولا أيام ولا شهور ولا أعوام، بل كان شباب آمال وأحلام… أفكار وأقلام… كتب وتصانيف ودورات ..لم يطل بها المقام. فإنا لله وإنا إليه راجعون رحل والدي عن دنيا لم يعش لها، غادرها إلى دارٍ لم تتق روحه إلا لها… قلة من الناس يعرف عن والدي روحانيته العطرة وشفافيته النّيرة، لكني عرفتها منذ الصغر ..لمستها..عشتها ….عاينتها. لطالما تذاكرنا حياة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته المشرّفة، فيحلو السمر وتشدو الطيور وقت السحر. ثم رأيتها في اللحظات الأخيرة من حياته، وهو يردد..اشتقت إلى جوار ربي، اشتقت إلى جوار ربي. اشتقت إلى السجود….بين يديه. وكان والدي قد حُرم من السجود أعوامًا طويلة، أقعده المرض والألم ولكن حرّكه الشوق والأنس حتى سجد واقترب. والدي الحبيب … تعلمت منك في حياتك كما تعلمت منك في وفاتك…. تعلمت أن الحياة سباق إلى رضى الرحمن، رحلة إلى أعلى الجنان، لا يحظى بها إلا من كان له حسّ ووجدان، بصيرة وعقل في غير غفلة ولا نسيان، يستلهم النور من القرآن، وبهدي المصطفى يرنو إلى برّ الأمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *