Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الهزائم النفسيَّة

د.طه جابر العلواني

المحترفون للحروب النفسيَّة إذا أرادوا هزيمة أحد نفسيًّا، فإنَّ الأمر قد لا يُكلِّفهم سوى إعداد قائمة طويلة بأسماء وعناوين وقائع أو أحداث أو معلومات أو إمكانات من أيِّ نوع كانت؛ لينـزلوا بها على دماغه كالمطارق، في صيغة أسئلة لا يملك أن يُجيب عنها إلا بـ«لا»، فقد يأتي أحدهم إلى إنسان ناجح، فيقول له مثلا: هل تستطيع أن تطير؟ والجواب: لا، هل تستطيع أن تعبر المحيط الأطلسي سباحة؟ لا، هل تستطيع أن ترقى في السماء؟ لا، هل تستطيع أن تنقل جبال الألب، وتجعلها في جنوب السودان مثلا؟ لا، هل تستطيع أن تقيم دولة في القمر؟ لا، وتستمرُّ الأسئلة تضرب دماغه بهذا الشكل، حتى يقتنع بأنَّه لا يقدر على شيء، ويُسيطر عليه الإحساس بالكآبة القائمة على الشعور بعدم القدرة على إنجاز شيء. قد يكون عالـمًا متخصصًا في مجال معيَّن، مبرزًا فيه، ولكنَّهم لا يذكرون ما يحسنه بل ما لا يحسنه، فقد يكون «آينشتاين» زمانه في الفيزياء، فتسأله: هل تتقن علم اللاهوت؟ هل تعرف الشريعة الإسلامية؟ هل تستطيع أن تمارس الاجتهاد لاستنباط أحكام فقهية؟ أتعرف كيف تصنع حاملة الطائرات في مستوى «إنتربرايز»؟ أتستطيع أن تنتمي إلى القبيلة الفلانية؟ أتستطيع أن تضع حدًّا للصراع العربي الإسرائيلي؟ أتستطيع أن تحمل طالبان والقاعدة على أن يتحوَّلوا إلى مجرد فرق رياضية أو كشفية تمارس المسابقات الرياضية والمعسكرات الكشفية؟ وتستمر في طرح أسئلة من هذا النوع على ذلك العبقريِّ حتى يشعر بالعجز، ويقتنع بالهزيمة، ويُصاب بالإحباط. ذلك بعض ما أشار إليه المعلم الأول «أرسطو» في فن «الخطابة»، وكيفية إقناع عُشَّاق العسل بأنَّه مجرد طعام مقرف، مؤلَّف من فضلات دبابير، أو يُقنع العازفين عنه وغير الراغبين به بأنَّه العسل المصفى، والشهد والرحيق، يشفي الأمراض، ويُزيل العلل، ويغذِّي البدن، ويقضي على الأمراض وما إلى ذلك… ويبدو أنَّ المسلمين يتعرَّضون اليوم -بمهارة شديدة- لعملية تكريس الهزيمة النفسية، وتدمير كل ما بقي لهم من حصون العزة والكرامة؛ ولذلك فإنَّ مئات، بل آلاف الأسئلة كل يوم تسقط على أدمغتهم، وكأنَّها شواكيش أو مطارق تضرب العقل المسلم، ليُقال له: هل لديك ديموقراطية؟ هل لديك حرية؟ هل تراعي حقوق الإنسان؟ هل تكفيك مواردك؟ هل تستطيع أن تأكل من كدِّ يدك، وتلبس من صناعة بلدك وأقطان وطنك وأصوافها وأوبارها وأشعارها؟ هل تستطيع صناعة أدويتك؟ هل تستطيع أن تلبِّي احتياجاتك؟ هل تستطيع أن تصنع أسلحتك؟ هل تستطيع أن تحمي سمعة دينك؟ هل تُعطي المرأة حقوقها؟ هل أقمت مجتمع الكفاية والعدل؟ هل القيم التي تُنادي بها لها في واقعك وجود؟ هل تستطيع أن تستغني عن الغير؟ كل هذه الأسئلة وآلاف غيرها تتساقط -صباح مساء- من الفضائيات والصحافة ووسائل الإعلام المختلفة على رأس هذا العربي المسلم، بحيث لا يملك إلا أن ينهزم نفسيًّا، ويشعر بكم هائل من الإحباط لا يسمح له بالتفكير أو بالنهوض. والإسلام احتاط لهذه الحالة ووضع لها العلاج، فإذا أصاب طائفة من المؤمنين هزيمة فإنَّ القرآن المجيد يرفع عنهم الإحساس بمرارة ذلك بقوله: ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ﴾ (النساء:104)، فيُبَيِّن ميزة ترفع ذلك المقروح إلى مستوى المتفوِّق على من تسبَّب في هزيمته أو في جرحه، ويقول: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال:65)، وبهذا المنهج الربانيِّ يُعيد إلى عباد الله الصالحين حالة التوازن النفسي، ويُبيِّن لهم ما يمتازون به عن أعدائهم وخصومهم، فتنموا قدراتهم وتتفجر طاقاتهم، ويدركون ما لهم من مزايا على خصومهم وأعدائهم، ويواصلون السير؛ ولذلك فإنَّ الوضع الراهن لأمتنا يقتضي من خطباء المساجد والدعاة والواعظين والإعلاميين والمعلمين أن يحافظوا على ما قد يكون بقي للأمة من ثقة بنفسها وبأمتها وطاقتها، فإنَّ جراحات الشعور قد بلغت المدى، وأفقدتها الثقة في نفسها والإحساس بأيِّ قدرة على العودة إلى فاعليتها وطاقتها، وإذا استمرَّت هذه الحالة فقد تصبح الدعوة إلى النهوض مدعاة للسخريَّة؛ لأنَّ الأمَّة تكون قد فقدت فاعليَّتها كلها، وسقطت دافعيَّتها تمامًا لا سمح الله.

ونسأله -تعالى- لهذه الأمَّة المحمديَّة الرحمة… إنَّه سميع مجيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *