Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نحو فلسفة إسلاميَّة في العمران

الهجرة من الريف إلى المدينة وآثارها المدمِّرة

د.طه جابر العلواني

 

منذ ثلاثينات القرن الماضي بدأت عمليات الهجرة من الريف إلى المدينة في مختلف أقطار العالم الثالث، وفي مقدمتها عالمنا العربي والإسلامي، والأسباب كثيرة: أهمها إهمال الريف من قبل معظم الحكومات التي وُجدت في العالم الثالث، والتركيز على المدن وخاصة العواصم، فكأنَّ تلك الحكومات عكس تلك النفسية المحتاجة لكثير من التسديد والترشيد، ألا وهي نفسية العناية بالمظهر وليكن المخبر ما يكون، فكثير من الأسر والأفراد يركزون عنايتهم على المظاهر ولا يكادون يلتفتون إلى غيرها أو ما يجاوزها، فالمظهر هو الذي يراه الناس ويرون أنَّهم لا يقيمونهم إلا من خلال المظهر، وقد يحرم الناس أنفسهم من أمور هامة جدًا في سبيل العناية به.

وهذا النوع من الانحراف الثقافي والمزاجي الذي يفتقر إلى تسوية وتعديل في كثير من حكومات العالم العربي، التي بها أرياف أو بادية لم تولها أية عناية، وركزت جميع الخدمات في العواصم، وإذا فاض شيء فربما يجودون به على عواصم المحافظات والأقاليم، فالفلاح مهمَل لا يجد طبيبًا، وإذا وجده فهو من النوع الذي يُطلق عليه طبيب الأرياف، الذي يشعر كأنه منفي خارج دائرة عمله الطبيعي في العواصم، ويُقال مثل ذلك عن الخدمات الأمنيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، فالجامعات والمستشفيات وإدارات الأحوال المدنية والمطارات وما إلى ذلك لا تتوافر إلا في العواصم.

ولمّا بدأت بعض الحكومات تُعنى ببناء جيوش حديثة وأجهزة أمنية، فإنَّ المنابع الرئيسيَّة للأفراد -من جنود أو شرطة أو من إليهم- لم تكن مصادرها في الغالب إلا الأرياف؛ ولذلك فإنَّ كل من وجد فرصة للعيش في المدينة صار يترك الريف، وكأنَّه هارب من جحيم، صحيح أنَّه يحبه ويحتفظ بأجمل الذكريات عنه، ويتمنى لو أتيح له العيش فيه بتوفير ولو نصف الخدمات التي يجدها في المدينة، ولكن الواقع يدفعه دفعًا إلى المدينة.

كما أن مدننا -حين بُنيت- لم تُجرَ أيَّة دراسات حول استيعابها وتقدير الخدمات ووسائلها، فقد تُبنى المدينة وتُنَظَّم شوارعها وخدماتها لتستوعب مليونًا من البشر، لكنَّها بعد أشهر أو سنوات قليلة تجد نفسها وقد جاءها ثلاثة مليون أو خمسة أو عشرة في بعض الأحيان، فتبدأ عمليات بناء ما يُعرف بالعشوائيات، لتتحول تلك العشوائيات في بعض المدن إلى حزام من الفقر وقلَّة التنظيم وانعدام الخدمات، بحيث يصبح عبئًا لا تحتمله المدينة التي يغلب أن يعمل فيها (95%) من سكان العشوائيات ويعودون ليلاً إلى عشوائياتهم المحرومة، هنا تصبح عملية بناء ثقافة موحدة للشعب، وذوق عام، ورأي عام، ومجتمع تسوده علاقات التواصل والتكافل والتضامن أقرب إلى المستحيل، وهذا ما يحدث اليوم نتيجة لذلك، وهؤلاء الذين اقتلعوا من الأرياف ووجدوا أنفسهم في محيطات المدن، لو أنَّهم وُفِّرت لهم خدمات في غاية البساطة، وقلَّت الاتجاهات المركزية لدى الحكومات؛ فأحسنت توزيع دوائر الخدمات وربطت الريف والمدينة بمواصلات متميزة، وحققت الأمن، وساعدت الفلاح وابن الريف على أن يبني سكنًا لائقًا بالإنسان، وبجواره ما يستطيع أن يُربِّي فيه مواشيه أو دواجنه بشكل سليم، وإذا أراد السفر فإنَّه يستطيع أن يستخرج وثائق السفر في قريته، وإذا أراد ابنه او ابنته الالتحاق في الجامعة فإنَّه لا يحتاج إلا أن يكون قريبًا منها أو تكون قريبة منه، أو تكون مدينة جامعية تضم إضافة إلى الجامعة وسائل عيش تسمح لأبناء الريف أن يعيشوا في أريافهم ويحققوا ذواتهم ويصلوا إلى طموحاتهم، لما وقعنا في مشاكل أخشى أن أقول إنَّ كثيرًا منها قد أصبحت معالجته في غاية الصعوبة، إن لم تكن متعذِّرة.

إنَّنا في حاجة ماسة إلى إعادة بناء المفاهيم التي جاء الإسلام بها، وتأسست حضاراتنا وعمراننا على قوائمها وقواعدها حين عُني رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- أول ما عُني بالمدينة، بل قبل ذلك نجد القرآن المجيد قد حدَّد حدود أم القرى «مكة» وبيَّن حدود الحرم، وأشار إلى آثار البيئة في الخلق والسلوك، فقال عن الأعراب: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة:97-98)، وحفل كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وآله وسلم- بكثير من الإشارات التي لو اعتنينا بها لخرجنا بتصور قرآنيٍّ نبويٍّ نتحدى العالم به في قضية العمران المشوب بالقيم، ولاستطعنا أن نُنقذ شعوبنا من كثير من الأزمات الهائلة التي صار بعضها يُهدد الوجود؛ مثل المخدرات والزنا والعلاقات المتوترة بين الناس وشيوع الجريمة بأنواعها.

إنَّ لدينا بفضل الله عناصر معمارية وهندسية كثيرة يعجُّ بها العالم العربي الإسلامي، لا يُعجزها أن تؤسس منظومة عمرانية إسلامية، فيها كل آداب السكن المناسب للأسرة المسلمة وللمجتمع المسلم، والمناسب للبيئة والمناخ، والذي يمكن أن يعتمد في عمليات بنائه وإعداده على المواد المتوافرة في البيئة، فليت قادة الرأي والفكر ورؤساء الدول والحكومات عندنا يلتفتون إلى هذه الناحية الخطيرة قبل وقوع الطوفان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *