أ.د/ طه جابر العلواني
نشرت الأنباء أنَّ ليبيا على وشك الإفلاس التام، وأنَّ هناك مائتين وعشرين مليار دولار قد تم تهريبها إلى حسابات في سويسرا وبريطانيا وأمريكا وهولندا، وأنَّ عمليَّات استرداد هذه المبالغ ليست سهلة، وأنَّها تستغرق سنين، وأنَّ احتمالات فقدانها بشكل نهائي أمر يكاد يكون هو الراجح، هذه ليبيا التي كانت تمول وتقرض وتتبرع بالمليارات لكثير من البلدان الأفريقيَّة وغيرها، لم تكن تتوقع أن يأتي يوم تجد نفسها فيه مهددة بالإفلاس، ولكنَّها بلغت هذا الحد وفي سرعة قياسيَّة، وقبلها العراق الذي نهبت أمواله بشكل علني واضح، فقد كانت الصناديق تملأ بالذهب حتى لو أخذ من المتاحف العراقيَّة، وبأموال البنك المركزي، وبالعملات المختلفة لتذهب إلى الخارج، ولم يكن النهب قاصرًا على أصحاب المراكز والمناصب العليا، بل وصل إلى مستوى الجند العاديين، والموظفين الصغار، وصار أبناء البلاد ملايين من المتسولين في الداخل وفي الخارج، منهم من يجمع قوت وجبته من صناديق القمامة، أو أكداس النفايات، أو ما شاكل ذلك.
وكنت قد كتبت أكثر من مرة مقالات حول ما في باطن الأرض أهو نعمة أم نقمة، وبعد ظهور هذه الحالات في العراق وليبيا وغيرهما ترجح لدي أنَّها نقمة، فقد جلبت إلينا ذباب الأمم في شكل محتلين وخاطفين ولصوص وسارقين، وجعلتنا موضع طمع لسائر أصحاب المطامع، وعرضة لاحتلال المحتلين، ومطلبًا لأهل الإجرام، والمدمرين، وانتشرت الجراحات النفسيَّة بين أبنائنا وأجيالنا الصاعدة وشبابنا وهم يرون كيف تسرق الشعوب، وكيف تزيف إرادتها، وكيف يستبد بها سراقها والمعتدون عليها، وكيف وكيف ولما ولماذا، ولا يملكون جوابًا شافيًا عن أي تساؤل من هذه التساؤلات.
لو أنَّ الذين كانت لديهم مصادر تلك الثروات كانوا عقلاء بما يكفي، ولديهم إخلاص للأمَّة، وانتماء حقيقي إليها؛ لوظفوا تلك الأموال في إحياء مواتها، وإعمار خرابها، واستثمار ترابها، وخيراتها، ولأسسوا لما بعد البترول، الذي ظن كثيرون منهم أنَّه لن ينضب، وما دروا أنَّ النضوب قد يحدث لا بالطريقة التقليديَّة بل بطرق أخرى غير تقليديَّة، فمنها طرق التلاعب بالأسعار بالرفع والخفض بمقتضى مصلحة أو مصالح الأذكياء المستغلين الخبراء في التلاعب بثروات الشعوب.
إنَّ بلدان عربيَّة مسلمة كثيرة وأفريقيَّة جارة عزيزة وأسيويَّة تحفى أقدام قادتها وهم ذاهبون آيبون للاقتراض من هذا البنك أو ذاك، ومن هذا البلد أو ذاك، يقرضهم من يقرضهم، ويمنعهم من يمنعهم، فإذا أقرضوا كان القرض بربا يفوق ربا الجاهليَّة، فهو أضعاف مضاعفة، وكميات متراكمة، تضطر الدول الفقيرة أو المحتاجة إلى اقتراضها بكل تلك الشروط المجحفة، التي تصل أحيانًا إلى حد تغيير نظم حياتها، وتتقبل ذلك، وتخضع له مكرهة للحصول على حفنة من النقد والعملات الصعبة كما يسمونها، وما أصعبها.
ولم نجد أحدًا يعتبر أو يأخذ درسًا مما يحدث، فالشياه تمشي تباعًا نحو المذبح، لا تسأل الخالف عما حدث للسالفة، وما تزال الشياه سائرة في ذات الاتجاه، لا تدري ما الذي يحدث وإذا درت تغافلت، تفرح بما يفرح الطفل به من اللعب، والقروش القليلة التي قد يقدمها إليه والداه، والمسلمون يتفرجون، والبعض ينظرون من طرف خفي إلى ما يحدث لأموال الأمَّة وخيراتها، وكيف تسرق لتكدس فيما يعرف بالبنوك الخارجيَّة، ثم تذهب، فلا ربحها سُرَّاقها من الفاسدين والمرتشين واللصوص، ولا استفادت بها شعوبها، ثم تجد شعوبها نفسها قد افتقرت بعد أن كانت غنية، وساءت حالتها، وقلَّت مواردها، وشابهت من كانت تتصدق عليه، بل ربما بلغت أسفل من ذلك الحد.
إنَّ درس العراق ثم الدرس الليبي نتمنى أن يكون درسًا مؤثرًا وفعالًا وأخيرًا لأولئك الذين شاهدوا ما حدث للبلدين، وما قد يحدث لغيرهما، ترى لو أنَّ لأهل الإيمان نظرًا بعيدًا ورؤية مستقبليَّة وخبرة كافية بالذين يتعاملون معهم هل حدث هذا؟ لو أن َّكل بلد من البلدان التي ظهرت فيها تلك الثروات وأخرجت أرضها أثقالها من المعادن النفيسة تكفلت بإنماء بلدين أو أكثر من البلدان المسلمة أو المجاورة، واستثمرت أموالها فيها، هل كانت تخسر ثرواتها بهذا الشكل؟
قبل أسابيع كان برميل البترول بمائة وعشرة دولارات، وفجأة أنزلوه إلى خمسين دولار، وسارعت بعض البلدان إلى خفض نفقاتها، والتضييق على مواطنيها، وفرض الضرائب عليهم، بدلًا من أن تغير سياساتها، فمتى يصحو النائمون، وينتبه الغافلون، ويتعقل المغترون؟
لو كانت هذه الأموال -وقد لا تزال بعض الفرص قائمة- استثمرت في مصر والسودان وبلدان المغرب العربي والبلدان الأفريقيَّة والباكستان وبنجلادش؛ لتحولت كل تلك البلدان إلى جنان، ولحفظ أولئك أموالهم من التلاعب، أو من التدمير في شراء الأسلحة، ثم إثارة الفتن لاستهلاك تلك الأسلحة، إنَّها عمليَّات انتحار، هذه العمليَّات التي نلحظها ونشهدها ونتابع أخبارها، هي أمور في غاية الخطورة، ولكنَّنا نهرب من مواجهة مشكلاتنا إلى إلقائها على أسباب غيبيَّة، وعوامل غير منظورة، لئلا يكون لها تأثير يذكر على ضمائرنا، ولئلا ينبهنا وخزها إلى الهوة السحيقة التي نسير مغمضي العيون للسقوط فيها.
فهل من معتبر؟