Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مستر كارتر والتوبة

أ.د/ طه جابر العلواني

حين انتخب مستر كارتر رئيسًا للولايات المتحدة عرف الناس أنَّ كارتر مع كونه من الديمقراطيين لكن الرجل متدين، ويستثمر أوقات فراغه في القراءة والتأمل والدعوة إلى المسيحيَّة، والبحث عن الثغرات التي يمكنه أن يسدها باعتباره أيضًا من أصحاب الأموال ومزارع الفول السوداني المنتجة المربحة، وبالفعل لم يلبث إلا قليلًا فقامت ثورة العمائم كما يسميها البعض أو الثورة الإسلاميَّة كما يسميها أصحابها في طهران، وسرعان ما شملت إيران كلها، ولم يمض على اشتعالها شهران حتى أسقطت شاه إيران ونظامه الشاهنشاهي العتيد الذي كان يعد أقوى الأنظمة المحليَّة في المنطقة، وأقدرها على مساعدة الولايات المتحدة في ضبط جميع الإيقاعات السياسيَّة فيها، وحماية أمن إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة، ومهما قيل عن الثورة في حينها أو بعدها فإنَّها كانت من الممكن أن تصب في صالح بعض القضايا العربيَّة، خاصَّة القضيَّة الفلسطينيَّة.

 فالانتماء الإسلامي للثورة لا بد له من ثمن تدفعه، ولعل من أبسط الأثمان –آنذاك- أن تتبنى القضيَّة الفلسطينيَّة، وقد فعلت بسرعة وبجدارة؛ فطردت ممثلي إسرائيل في طهران، وسلم المباني إلى ممثلي منظمة التحرير الفلسطينيَّة. وتتابعت الأحداث، ووضع حرس الثورة يده على السفارة الأمريكيَّة التي كانت تعد أوسع السفارات أماكن، وأكثرها مؤسَّسات وموظفين وإدارات، مما يشعر بأنَّها سفارة متميزة، لم تكن تلعب دورًا قنصليًّا أو تمثيليًّا عاديًّا لبلد في بلد آخر، بل كانت لها أدوار أكبر بكثير من الدور الظاهر الذي تقوم به. وفشلت كل العروض الأمريكيَّة، والأعراف السياسيَّة في إقناع شباب الثورة بتحرير موظفي السفارة والقنصلية والمؤسَّسات الأخرى، وإعادتهم إلى الولايات المتحدة.

وقرر كارتر بمشورة من وزير دفاعه ومساعديه القيام بمغامرة عسكريَّة خاطفة، تقوم بخطف جميع موظفي السفارة والقنصليَّة، وجلبهم بطائرات ضخمة، مهما كان عددهم من الأراضي الإيرانيَّة إلى أوروبا ثم إلى أمريكا. وشاء الله (جل شأنه) أن يقوم بنفسه، وبالرياح الموسمية وهي من جنود الله، ﴿.. وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (المدثر:31)، ففشلت المحاولة الأمريكيَّة. واحترقت الطائرات المرسلة، واصطدم بعضها ببعض. المهم كان فشل الحملة زريعًا، وكان صدمة لساكن البيت الأبيض، وشعورًا بالانتصار، وأنَّ الله مع الثورة الإيرانيَّة، فإنَّه قد حقق لها هذا النصر المؤزر من دون ثمن، ومن غير أن تطلق بنفسها طلقة واحدة.

وأعلن قائد الثورة آنذاك، والمرشد الأعلى لها، السيد الخميني، بأنَّه لن يغفر لأمريكا ما فعلته من انتهاك لحرمة الأجواء والأراضي الإيرانيَّة، رغم الفشل الذريع الذي منيت به حملتها، إلا إذا تابت وأنابت وثابت إلى رشدها. بدأ الإعلام الأمريكي يتحدث عن التوبة التي يطالب الأمريكان بها الخميني ما هي؟ وكيف تكون؟ وهل تعني فداءً ماليًّا؟ وأطلقوا لخيالاتهم العنان، ووظفوا كل ما تعلموه من دروس الأنثروبولوجيا والاستشراق في تفسير مفهوم التوبة، ولم يصلوا لشيء يستحق الذكر. وأدلى المسلمون بدلوهم –آنذاك- فتكلم بعض الأساتذة المقيمين في الغرب عن مفهوم التوبة في الإسلام، وكيف يتوب المذنب، وطُرحت أفكار رد المظالم، وتعويض المتضررين وما إلى ذلك. وتلقى أخونا الشهيد إسماعيل الفاروقي دعوة من البيت الأبيض تدعوه لحضور مناقشة مفهوم التوبة مع السيد الرئيس في mini-seminar لمدة ثماني ساعات من التاسعة حتى الخامسة في مكتب الرئيس. وأنَّه سيكون معه سبعة آخرون من علماء الأديان الثلاثة اليهوديَّة والنصرانيَّة والإسلام، والموضوع هو مناقشة مفهوم التوبة، ومحاولة معرفة أقرب المعاني إلى مراد الخميني حين طلب أمريكا بالتوبة.

وهنا أترك لأخينا الشهيد الفاروقي -رحمه الله- فرصة الحديث عن المؤتمر وجدِّيته، والإشكاليَّات التي كانت تدور في ذهن الرئيس ويريد فهمها، ومدى استعداده -أي الرئيس- للاستجابة إلى ذلك الطلب إذا كان معقولًا لمعالجة الأزمة، وفك الرهائن الأمريكان، وإعادتهم إلى بيوتهم سالمين، وبدأ النقاش. يقول الفاروقي: “عرضت للآيات القرآنيَّة المتعلقة بالتوبة، ولبعض الأحاديث النبويَّة، وبينت أنَّ التوبة تمحو الذنوب إذ حدثت في وقتها ومن أهلها، ولم تكن هناك حقوق مالية تهدر بسببها، إلى غير ذلك من تفاصيل. ويضيف: “كان الرئيس كارتر كأنجب تلميذ في دراسات عليا، معه أوراقه وأقلامه يدون ملاحظاته، ويسأل عندما يستوقفه شيء، ثم أعطيت الكلمة لكل من الأساتذة الآخرين، وسمعنا إلى عروض متقنة وملخصة عن هذا المفهوم في الأديان الثلاثة، مع وجود إشارات لأديان أخرى لم تكن ممثلة، أشير إلى مذاهبها في بعض الأمور عند ذكرها. ثم تم في الساعة الأخيرة تلخيص ما توصل إليه ونوقش مع الرئيس. والندوة كانت جادة جدًا لم يضع فيها أي وقت، فكل دقيقة بحساب، ولم نتمتع إلا باستراحة قصيرة لتناول غداء خفيف”.

وحين قص عليَّ الأستاذ الفاروقي قصته هذه، سألته بما نصحتهم؟ وكيف يتوبون إذا أرادوا استسماح إيران؟ وهل تعتبر هذه الذنوب ذنوب وطنيَّة كما يقال، يسأل عنها الوطن كله حكومة وشعبًا وهل وهل؟ قال: حاولت أن أربط بين التوبة بمفهومها هذا، ورد مظالم الشعب الإيراني في عهد الشاه وبعد الثورة، ولكن الحضور كلهم كانوا على مستوى عال جدًا في الفهم والاطلاع على سائر المذاهب الفلسفيَّة والدينيَّة في هذا الأمر، وانتهت بنصيحة الرئيس بأن يكتب رسالة اعتذار إلى رئيس الدولة الإيراني أبو الحسن بني صدر، وأن يعدهم بأنَّ أمريكا لن تحاول مرة أخرى اختراق الأجواء الإيرانيَّة أو حدودها لأي سبب من الأسباب، وستحترم استقلالها والتغييرات السياسيَّة التي حدثت بها، ويطرح تصوره لأن هؤلاء الموظفين الأمريكان هم موظفون لدى وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة، ونحن مسؤولون عن حماية أمنهم وإعادتهم إلى ذويهم، ما داموا لم يرتكبوا جريمة أو جناية تعاقب عليها القوانين الدوليَّة. وانصرفنا.

ودار نقاش بيني وبين الدكتور الفاروقي، استمر ساعات طويلة حول مدى انسجام ذلك الموقف مع مفهوم التوبة في الإسلام، وبينت له أنَّ العقل المسلم قد خلط بين مفهوم الذنب، يذنبه الإنسان تجاه ربه، والجريمة يرتكبها تجاه الإنسان، شعبًا كان أو أمَّة أو فردًا أو جماعة، شخصيَّة اعتباريَّة أو معنويَّة. وجرَّنا ذلك إلى إسرائيل، وطريقتها في التعامل مع كل من اعتبرته قد أساء إليها، وكيف وسعت مفهوم السامية لتجعل من معاداة السامية جريمة كبرى، يمكن أن تدرج تحتها سائر الاعتداءات على اليهودي الفرد أو على أمَّة يهود وبني إسرائيل كافَّة، وإلغاء الزمن، فليست هناك جريمة تُرتكب ضد الشعب المختار يمكن أن تسقط بالتقادم، فالزمن يتوقف عن الفعل عند الاعتداء على أبناء الله وأحبائه. وبقينا فترة طويلة في نقاش أعجب الفاروقي -رحمه الله- تشعبه إلى تلك الأنحاء، وقال: أتدري لو كنت ناقشتك قبل ذهابي إلى البيت الأبيض لكنت ناقشت هذا الأمر، لأنَّني الآن بدأت أدرك الروائح الصهيونيَّة التي كانت تملأ دائرة النقاش حول كل ما أثير.

إنَّ الذاكرة التاريخيَّة الغربيَّة احتفظت بصور بائسة شائهة عن كل ما هو إسلامي، وسائر ما هو عربي، وقد ألِفت تلك الذاكرة أن تمد يدها إلى مخزونها ساعة تشاء وفي أي وقت تشاء؛ لإبراز الشر الذي يزعمون أنَّه كائن في الإسلام والمسلمين، فإذا كان القرآن الكريم قد وجه المسلمين إلى أنَّ عدوهم الأكبر هو الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (فاطر:6)، فإنَّ الذاكرة الغربيَّة جعلت من العربي المسلم شيطانًا شريرًا منافقًا انتهازيًا، يمثل منبع للشرور والهمجيَّة، يمكن أن تنسب إليه الشرور كلها، والآثام كلها، ويبرز الغربي المسيحي بصورة الحمل الوديع، الذي يتحمل بكل ما أوتي من طاقات للتحمل هؤلاء الأشرار الذين يعبدون (محمدًا، والحجر الأسود) كما تزعم أساطير الذاكرة الغربيَّة.

نحن نعلم أنَّ جمع محاولات التحديث التي ابتليت بها شعوبنا وبلداننا منذ تعرضنا للتدميرات الغربيَّة المتصلة، مرة باسم الاستعمار الذي لم يكن إلا استحمار، ومرة باسم التخليص، فالمسيحي وهو يقتحم بلاد المسلمين في كل مكان، فيدمر دولهم، ويخرب بلدانهم، ويسيطر على ثرواتهم، ويبتذ حكَّامهم، ويكرس تخلفهم، ولا يزيدهم إلا خبالًا وفسادًا على فساد، مطلوب أن يبدو هذا الغربي مُخلِّصًا بثياب المخلِّص، منقذًا لهؤلاء الأشرار الذين لا يعلمون أنَّ هذا الإنسان الغربي جاء لتخليصهم، وإنقاذ نفوسهم وأرواحهم، أمَّا هم فيأبون الخلاص، ويؤثرون التدنس على التطهر، والسقوط في مزيد من التردي والشرور على أن يتخلصوا.

 والذاكرة الغربيَّة الصليبيَّة ما تزال مترعة وملأى على الآخر بكل الأوصاف الشريرة، التي تنطلق بها أجهزة إعلامها ومخابراتها، لسبب أو لدون سبب، فتحقق عدة أمور، أولًا: تفرض على العالم الإسلامي كله الاعتراف بالذنب، وهو مفهوم مسيحي معروف، فعلى العرب والمسلمين أن يبادروا كلما أطلقت رصاصة قبل أن يتأكدوا من أنَّها رصاصة حقيقيَّة إلى الشجب والاعتراف بأنَّ إرهابيين مسلمين قاموا بذلك، وأنَّنا نبرأ إلى العالم كله منهم.

فكل مسلم جعلوه يشعر -وبخاصَّة الحكَّام والموظفون والأحزاب والمثقفون والإعلاميون والصحافيون- بالذنب، ولابد له أن يبحث عن كرسي اعتراف يجلس عليه بدون فرق بين يدي قسيس أو ضابط مخابرات أو محقق في جوانتانامو، ويقر بأنَّه هو الذي فعل، ولا يهم بعد ذلك أن تخرج جهات التحقيق بأنَّ مجنونًا من الطلاب أو سكرانًا شرب حتى الثمالة وأطلق تلك الرصاصة في مطعم أو غيره، أمَّا نحن وحكَّامنا وقادتنا وساستنا وأهل الرأي فينا بل وعلماء الدين والدنيا معًا، كل هؤلاء لابد لهم من الاعتراف، ثم الشجب، ثم الإدانة بأنَّ من فعل ذلك لا يستحق الحياة في الدنيا ولا يستحق الجنة في الآخرة.

ثم تجري عمليَّات الابتزاز المختلفة، فكل راغب بأنَّ لا ينسب إلى الإرهاب ولا إلى الكباب، فعليه أن يتنصل من شيء قد لا يعرفه، وفي الوقت نفسه تأتي جيوش جراره، أخرى من الإعلامين، تنادي هؤلاء العرب والمسلمين بأنَّه لا خلاص لكم ما دام لديكم قرآن يتلى، وكعبة تزار، تخلصوا من ذلك، وأقبلوا على التنوير والإصلاح اللوثري، والهداية النصرانيَّة؛ لتثبتوا أنَّكم لستم إرهابيين، ومستعدون لقتل الإرهابيين، وتدميرهم، والتبرؤ منهم ومن أعمالهم، سواء منهم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، وتخيل صورتك أيَّها المسلم أيَّها العربي وأنت تحلف بكل ذلة ومهانة الإيمان المغلظة كلها لنفي التهمة عن نفسك، وعن هؤلاء، فالتهمة معك فعلت أم لم تفعل.

وصدق الله العظيم: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (البقرة:120). والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *