أ.د/ طه جابر العلواني
منذ فترة طويلة ونحن ننادي بضرورة مراجعة التراث الإسلامي كله، دون استثناء، من فقه، وأصول فقه، وتفسير، وحديث، وعلم كلام أو عقيدة، وأنَّ من تجب عليهم مراجعة ذلك التراث كله إنَّما هم أهله، الذين خبروه كليَّات وجزئيَّات، ومناهج ومفردات، وعرفوا موارده ومصادره، وعرفوا علاقته بكتاب الله (عز وجل) في مختلف جوانبه، وأدركوا دروبه ومسالكه، وما سمي بعلوم الوسائل فيه، فهم أولى الناس بأن يراجعوا ذلك التراث، ويعرضوه على كتاب الله (جل شأنه)، وعلى هدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفهمه لكتاب الله وتلاوته له وتطبيقاته في عصر التلقي والجيل الذي عاش فيه، فهم إن فعلوا ذلك فإنَّ كتاب الله المصدق على كل ما سبق وما لحق، وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يستطيعان أن يبينا عناصر القوة والضعف في تراثنا بجوانبه كلها، سواء أكان في جانب علوم المقاصد الخمسة التي ذكرنا، أو علوم الوسائل، من عربيَّة ومنطق وسواها.
لكن أبناء التراث من إخواننا وطلابنا وأساتذتنا أنكروا علينا تلك المطالبة، ونسبوا التراث إلى الكمال، وأضفوا ثياب القدسيَّة التي للكتاب على التراث البشري للأئمة وأهل العلم، وقالوا مثل قال الأولون: “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، وأصروا واستكبروا استكبارا، وقالوا: من هؤلاء الذين يريدون أن يستدركوا على إئمتنا وسادتنا وأهل الاجتهاد فينا، من هذه النابتة التي تأثرت بالعصر والعصرانيَّة، والحديث والحداثة، ومن يدري لعل الشيطان وأعوان الشيطان قد استفزوهم ليطلبوا هذا المطلب. ونسوا مبدأ التجديد والاجتهاد، وهما فرضان على هذه الأمَّة، لا ينبغي أن يخلو عصر من العصور عن قائمين بالتجديد، وناهضين بالاجتهاد، نسوا ذلك، وأنكروا علينا دعوتنا تلك!.
وتعرضنا لكثير من أنواع السخرية التي يتقنها بعض هؤلاء، بقدر ما يتقنون مواقف العناد، والإصرار على ما هم عليه، وكنا نقول لهم: إنَّكم إن لم تؤخذوا على عاتقكم هذه المهام، مهام المراجعة للتراث ونقده وغربلته والتصديق عليه بكتاب الله (جل شأنه) وهدي رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فسيأتي من لا يؤمنون به، يطالبونكم بإحداث القطيعة معه، ويحاصرونكم ويحاصرون مؤسساتكم، أو تستسلمون لهم، والاستسلام لهم يعني انتحارًا لتاريخ الأمَّة، وخروجًا على كل ما تراكم من مواريث العصور، فإذا كان أهل التراث قد يستبعدون لو نقدوا عشرة في المائة، أو أكثر أو أقل، فإنَّ ذلك أولى من أن يأتي جاهل لا يحمل بيده إلا معاول لحفر القبور ليحفر بها قبرًا لتراث لا يعرف قيمته، ولم يشترك لا هو ولا أحد من آبائه ببناء لبنة واحدة فيه، ولا يستطيع أن يقدره حق قدره، فيحفر له قبرًا ليقبره فيه، وآنذاك ستتعرض الأمَّة إلى خطر عظيم، يدركه من يدركه، ويستعصي فهمه على البليد.
وها قد أظلنا زمن يرى فيه أبناؤنا أنَّ تراثنا مسئول عن جميع مصائبنا، من إسرائيل وقيامها، حتى القاعدة، وداعش، والاستعمار القديم والحديث، كل أولئك عد تراثنا عند هؤلاء الجهلة بالتراث مسئولًا عنه، ومتهمًا بإيجاده، وكل مصائب الأمَّة المنتظرة جاءتها من تراثها، ولا نجاة لها إلا بالتخلص من هذا التراث، ونبزه، وحفر القبور له، وقبره فيها، وتدمير مؤسساته ومصادرتها، ومن يدري فالماركسيَّة اللينينيَّة قد جعلت من مساجد ومدارس الاتحاد السوﭬـيتي المقبور ملاهي ليليَّة، وحانات للخمور، وملاعب، وفي أحسن الأحوال متاحف.
إنَّ هناك محطات فضائيَّة وإذاعيَّة يتكلم فيها كل رويبضة لم يشم رائحة التراث في نقد التراث، واتهامه بالمسئوليَّة التامَّة عن تخلف الأمَّة، ولا شك أنَّ بعض التراث يتحمل مسئوليَّة عن كثير من مشكلاتنا الفكريَّة، وأزماتنا المعرفيَّة، وانهيار المنهجيَّة، وما إلى ذلك، لكن التراث لا يمكن أن يكون كله بهذه المثابة، وليس لأحد أن يعامله كله هذه المعاملة.
وقد سمعنا أنَّ بعض المؤسَّسات القائمة على خدمة التراث قد شكَّلت لجانًا للرد على هؤلاء، وأود أن أقول لهؤلاء: إنَّ هذا لا يمكن أن يعد علاجًا ولا دواءً، بل هو نوع من العبث، فالعلاج الدقيق يكون بمراجعة هذا التراث، وتشكيل لجان علميَّة من أهل التراث نفسه على أعلى المستويات ليقوموا بمراجعة هذا التراث، وفق منهج قرآني نبوي مستنبط من كتاب الله (جل شأنه) وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، نستدرك فيها ما فات، ونعرض ما لدينا على كتاب الله؛ ليصدق عليه ويهيمن، وبذلك نستوعب ونتجاوز، فنستطيع أن نحدد التراث الذي ينبغي لنا أن نستوعبه، ونحافظ عليه، ونحميه، ونراكم عليه، والأجزاء الأخرى التي علينا أن نتجاوزها، وأن نحفر لها القبور، وندفنها بأيدينا لا بأيدي أعداء أمتنا وأعداء تراثنا.
لم نكن في حاجة إلى مراجعة بعض مراكز البحوث في أمريكا وأوروبا لتراثنا، ليقول من يقول: يجب أن ندرك أنَّ أسباب تخلُّف العرب والمسلمين كامنة في تراثهم، ويلتقط هؤلاء بعض أحاديث فيها مقال، أو تكون من الموضوعات، أو التي مرت على بعض المحدثين، وتمت عمليَّة توثيقها بمنهج السبر أو أي منهج آخر لا يستقيم، ولا يصلح لهذا النوع من المراجعات، ويطالبنا بتغييره.
ولقد أثير في أواخر حكم الرئيس الراحل السادات موضوع النصوص الإسلاميَّة، من حديث وفقه وأصول، وكيف تحث تلك النصوص على معاداة اليهود، وتصنف بأنَّها في معاداة السامية، وقد رد الرئيس الراحل بنفسه على بعض تلك الدعاوى، ومما قال في حينه: إنَّنا ساميون، فكيف نشتم أنفسنا. وقد طرحت قضايا فقهيَّة وأصوليَّة وتفسيريَّة في تلك المرحلة على أنَّها منابع للعنف والكراهيَّة، كراهيَّة اليهود والنصارى، وما إلى ذلك، ثم هدأت الأمور، وبعد 11 سبتمر 2001م، أعيد فتح هذا الملف، خاصَّة وأنَّ خاطفي الطائرات نسبوا إلى المملكة العربيَّة السعوديَّة، وأصبحت كل برامج التعليم في المملكة موضع رصد وملاحظة من قبل الجميع.
وقاد الإعلاميُّون الكبار في الإعلام الأمريكي حملة شرسة ضد مقررات الحديث والفقه والتفسير، ثم اجترأ بعضهم على القول بأنَّ القرآن الكريم نفسه يعد من مصادر ثقافة العنف والكراهية، واستدلوا بآيات كريمة مثل آيات القتال، وخاصة الآية 29 من سورة التوبة ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:29)، وصار الإعلاميُّون الأمريكان الكبار يجادلون في هذا الأمر، ويطالبون المملكة بتغيير برامجها، والتخلص من آيات القرآن الكريم الداعية للعنف، وكذلك الأحاديث وسواها، وأدرجت سائر النصوص التي تتحدث عن القتال والجهاد ضمن تلك النصوص المطلوب استبعادها، وصار هؤلاء الإعلاميُّون يقوموا بزيارات مطولة تمتد لأشهر أحيانًا لدراسة برامج معينة، والتقاط بعض العبارات أو النصوص منها، والقول: انظروا القرآن هو الذي يعلِّم هؤلاء العنف، ووصايا النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) هي التي تعزز فيهم هذه النزعات، وما لم يغيروا ما بأنفسهم، ويغيروا برامجهم، أو بالأخرى يحدثوا قطيعة تامَّة مع دينهم ومصادره فلا يمكن أن يقوم في الأرض السلام، ولا تستطيع المحبة أن تشق طريقها في الأرض.
وعقدت عشرات الندوات التي كان يقوم عليها الاستشراق الجديد، الاستشراق اليهودي، وهو من أقوى أنواع الاستشراق التي عرفتها المنطقة؛ لرصد كل عبارة في الكتب الفقهيَّة، والأصوليَّة، والتفسير، والحديث، وعلم الكلام، والملل والنحل، والفرق، وتشريحه وبيان ما فيه، وبطبيعة الحال من يقوم بذلك أعداؤنا، وينقل عن ماسنيون الفرنسي الذي كان يعد من المعتدلين أو المتعاطفين مع التراث العربي الإسلامي أنَّه قال لتلامذته يومًا في الفصل: إنَّ المرأة المسلمة إذا مات عنها زوجها فإنَّ دينها يفرض عليها أن تلبس ثياب الحدَّاد -بشدة فوق الدال الأولى بدلًا من كلمة الحدِاد- وأخذ يصف ثياب الحدَّاد المتسخة والممتلئة بالزيوت والقذرة، فيقول: هذا ما تلبسه لكيلا يطمع فيها الرجال قبل أن تمضي فترة الحدَّاد. نقل لي هذا أحد تلامذته اللبنانيين، يقول: فقلت له: برفسور الذي أعرفه أنَّها ثياب الحدِاد، ويُعْنَى بها ثياب لا زينة فيها، وليست ثياب الحدَّاد.
ولكن بعض المؤسَّسات التعليميَّة تنتظر مثل هؤلاء ليراجعوا لها التراث، بدلًا من أن تراجع تراثها بنفسها، فيكون “حدَّاد” وتكون المرأة “مُعْتَدِيَة” فبعد أن يموت زوجها عليها أن تعتدِي، لأنَّه لا يعرف كيف يفرق بين اعتدَّت واعتدَت، وبين حدِاد وحدَّاد، اتنتظرون يا مشايخنا أن يأتيكم مثل هؤلاء، ومعهم باربرا الإعلاميَّة الأمريكيَّة المعروفة وأمثالها ليقوموا بتنقية التراث، ومراجعته، وإصلاح شأنه؟!.
إنَّ الأمر جد خطير، ولم يعد يحتمل تأخيرًا، ولابد من تنادي الغيارى الحريصين على تراث هذه الأمَّة ومستقبلها، الراغبين عن أن ينهار كل شيء، أن يأخذوا زمام المبادرة، ويقوموا بمراجعة التراث كله، علوم الوسائل وعلوم المقاصد، مؤسَّسات ومناهج، ومعلمين ومتعلمين، ويصدقوا بالقرآن ويهيمنوا على التراث ووسائله ومقاصده، ويقوموا بعمليَّة إحياء كامل شامل، وبعث وتجديد، قائم على الاجتهاد، والنقد السليم، والمراجعة المنهجيَّة، فإنَّ هذه الأمَّة قد تخسر آخر أوراقها، فالمعاول قد كثرت، والهدَّامون قد انتشروا، والأقربون أولى بالمعروف.
ولنا عودة إلى هذا الأمر -إن شاء الله تعالى.