Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

القِوامة

د.طه جابر العلواني

مفهوم القِوامة من أهم المفاهيم التي تُشكِّل حقل البحث المعرفي في قضايا الأسرة، التي هي الوحدة الصغرى والأساس، بل هي أنموذج مصغَّر للأمة.

والقِوامة أُسست على المصدر «قيامًا» وفعله قام، والقيام بالشيء أو القيام له هو المراعاة للشيء والحفظ له، ومنه قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾ (النساء:34). والقيام بالقسط: مراعاة العدل، ومنه قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ﴾ (آل عمران:18). ومن ذلك أيضًا اعتبار المال قيامًا للناس، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ (النساء:5)؛ أي شيئًا به تقوم مصالحكم وحياتكم ومعاشكم. ومنه كذلك قوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ﴾ (المائدة:97)؛ أي وجهة تقوم بها صلاتكم وعباداتكم ووحدتكم، وعلى التزام هذه الوجهة والتوحد حولها يقوم بناء كيانكم وأمتكم أمة الأنبياء وأمة التوحيد، وتكونون على «الدين القيِّم»، و«دين القيِّمة». وقد وردت صيغة القِوامة في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: آية النساء (34): ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾، وآية النساء (135): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ﴾، وآية المائدة (8): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ﴾.

وقوامة الرجل للمرأة -بنور هذا المعنى القرآني- رعايتها ومراعاتها والمحافظة عليها، والقيام بكل ما من شأنه تحقيق هذه الرعاية والمراعاة والمحافظة، وتجنيبها العنت، وتمكينها من أداء أدوارها الهامة في الحياة بدون حرج؛ فهي زوجة وأم وأخت وبنت… وهي عماد الأسرة، وعليها تعتمد سائر شبكات العلاقات القائمة على «البث» المأخوذ من قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء﴾ (النساء:1)، فما لم تتوافر لها كل وسائل الطمأنينة والاستقرار والسكن والرحمة والمودة؛ فلن تكون الأسرة لبنة قوية متينة من لبنات المجتمع ودعامة أساسية من دعامات الأمة الوسط التي تُبنى على الشهادة والخيرية والشورى والوسطية.

وقد أساء البعض فهم القِوامة، فظنَّها سلطة منحها الله للرجال على النساء، وهي ليست كذلك، بل هي مسؤولية وتكليف، تفرض على الرجال أن يكونوا مسؤولين عن أسرهم قائمين على رعايتها بالقسط؛ فيأخذ الرجل نفسه بتوفير حاجات زوجته المادية والمعنوية، بحيث يوفِّر لها السكن والطمأنينة، وعليه أن يقوم بذلك بمودة ورحمة لا بتفضل واستعلاء وتسلط، وأن تكون إدارة هذه المؤسسة الصغرى قائمة على الشورى والمناصحة والتكافل والتكامل. فالفضل بالرزق أو بالقدرة على الكسب لا ينبغي أن يتحول إلى تسلط واستبداد. وإذا كان الإسلام لم يعتبر إنفاق الغني على الفقير مسوِّغًا للمنِّ والتعالي والتسلط عليه؛ لأنه لم يفعل أكثر من أنَّه قدَّم ما هو «حق معلوم»، فإن إنفاق الرجل على زوجه قيام بأداء «حق واجب» كذلك، ولا يستلزم ذلك نقصًا في خصائص المرأة ولا ضعفًا ونقصانًا فيها.

إنَّ استحضار المفهوم القرآني للقوامة يجعل من مؤسسة الأسرة وحدة من وحدات مجتمع مدني متحضر، يتعلم فيها الناس الشورى والحرية والتكافل والتسامح والتعاون وحفظ الحقوق وأداء الواجبات، ومن هنا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ﴾ (المائدة:8). فالقِوامة وفق هذه الآية صفة من صفات المؤمنين، ومفهوم تفرَّع عن مفهوم يرتبط بالأمة كلها، ألا وهو مفهوم «الشهادة»؛ فإذا كان الاتصاف بالقِوامة بالنسبة للمؤمنين تكليفًا منه، فإنَّها صفة من صفات ذاته -سبحانه- فهو «الحي القيُّوم» بشؤون خلقه أجمعين.

لقد انعكس استبعاد المفهوم القرآني للقِوامة على كثير من الكتابات التي تناولت الحديث عن قضايا المرأة وأدوارها، فقد تمَّ الاستشهاد بآية القِوامة لتأكيد دونية منـزلة المرأة من الرجل في الإسلام، ونقصان أهليتها لتولي المناصب والمهام في المجتمع، كما وُظِّف الفهم الخاطئ لآية القِوامة -لدى البعض- في سياق إضفاء المشروعية على ممارسات العنف والتسلط ضد الزوجات، لتغيب معاني القِوامة التي تظهر بادي الرأي عند الاستهداء بنور المفهوم القرآني لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *