Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

إسقاطات التراث على الواقع بعض المستويات الأخرى من القيم والمقاصد 3

أ.د. طه جابر العلواني

القيمة الثانية: العدل:

والعدالة من عدل، وفيها معنى المساواة، والمعادلة، ويقال العدل والعِدل بكسر العين وهما متقاربان، قال (تعالى): ﴿.. أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا .. (المائدة:95)، والعدل والعديل أكثر ما يستعمل في الأمور المحسوسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات، ويكون المراد به تقسيم الأشياء وتقسيطها على سواء، وفي الأثر: بالعدل قامت السموات والأرض. ويراد بالحق والتسوية، فلو اعتبرنا أركان العالم أربعة أو أكثر أو أقل فالتقدير الإلهي يجعلها متوازنة متساوية فيما قدر فيها من أقوات أو قدر لها من أدوار بحيث لا ينقص ركن منها.

 والعدل يأتي مطلقًا ونسبيًّا، فالعدل الإلهي مطلق، والعدل النبوي مطلق بملاحظة العصمة، ونسبي بملاحظة صفة القضاء، قال (تعالى): ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل:90)، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “إنكُم تَخْتَصِمونَ إليَّ، ولعلَّ بعْضَكُم ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ من بعضٍ، فمن قضَيتُ له بحَقِّ أخيهِ شيئًا بقوله، فإنما أقْطَعُ له قِطْعَةً من النارِ، فلا يأخُذها”[1]، فالعدل المساواة في الجزاء والمكافأة إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، والإحسان أن يفعل الإنسان أكثر من العدل بأن يقابل الخير  بما هو أكثر منه، ويقابل الشر بما هو أقل منه.

 ولقد أسس القرآن لمفهوم العدل وجعله شاملًا، واستعمله في مواضع كثيرة، في الشهادة، وغيرها، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعلن: ﴿.. وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ .. (الشورى:15)، وجاء بالعدل بين النساء، وجاء في القضاء كما في قوله (جل شأنه): ﴿.. وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:8)، وفي سورة المائدة: ﴿.. أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ .. (المائدة:95)، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (المائدة:95).

وذم الله الذين كفروا أنَّهم بربهم يعدلون أوثانهم وشركاءهم ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (الأنعام:1)، ولا يقوم ملك ولا يدوم إذا فقد صفة العدل، وكل ما هو أساسه العدل إذا لم يحدث العدل فيه فإنَّ عاقبته أن يؤول إلى الجور والظلم، والظلم لا يدوم، وإذا دام دمر، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة في العدل، كما في بعض الآثار حيث روي أنَّ اللهَ تبارَك وتعالى لمَّا أراد هُدى زيدِ بنِ سَعْنةَ قال زيدُ بنُ سَعْنةَ: إنَّه لم يبقَ مِن علاماتِ النُّبوَّةِ شيءٌ إلَّا وقد عرَفْتُها في وجهِ محمَّدٍ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) حينَ نظَرْتُ إليه إلَّا أثنين لم أخبُرْهما منه: يسبِقُ حِلْمُه جهلَه ولا يزيدُه شدَّةُ الجهلِ عليه إلَّا حِلمًا فكُنْتُ أتلطَّفُ له لِأنْ أُخالِطَه فأعرِفَ حِلْمَه وجهلَه قال: فخرَج رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) مِن الحُجُراتِ ومعه عليُّ بنُ أبي طالبٍ فأتاه رجلٌ على راحلتِه كالبدويِّ فقال: يا رسولَ اللهِ قريةُ بني فلانٍ قد أسلَموا ودخَلوا في الإسلامِ كُنْتُ أخبرته أنَّهم إنْ أسلَموا أتاهم الرِّزقُ رغدًا وقد أصابهم شدَّةٌ وقحطٌ مِن الغيثِ وأنا أخشى يا رسولَ اللهِ أنْ يخرُجوا مِن الإسلامِ طمَعًا كما دخَلوا فيه طمَعًا فإنْ رأَيْتَ أنْ تُرسِلَ إليهم مَن يُغيثُهم به فعَلْتَ قال: فنظَر رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) إلى رجلٍ إلى جانبِه أراه عمرَ فقال: ما بقي منه شيءٌ يا رسولَ اللهِ قال زيدُ بنُ سَعْنةَ: فدنَوْتُ إليه فقُلْتُ له: يا محمَّدُ هل لك أنْ تبيعَني تمرًا معلومًا مِن حائطِ بني فلانٍ إلى أجلِ كذا وكذا؟ فقال: (لا يا يهوديُّ ولكنْ أبيعُك تمرًا معلومًا إلى أجلِ كذا وكذا ولا أُسمِّي حائطَ بن فلانٍ) قُلْتُ: نَعم فبايَعني (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) فأطلَقْتُ هِمياني فأعطَيْتُه ثمانينَ مثقالًا مِن ذهبٍ في تمرٍ معلومٍ إلى أجلِ كذا وكذا قال: فأعطاها الرَّجلَ وقال: (اعجَلْ عليهم وأغِثْهم بها) قال زيدُ بنُ سَعْنةَ: فلمَّا كان قبْلَ محلِّ الأجلِ بيومينِ أو ثلاثةٍ خرَج رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) في جِنازةِ رجلٍ مِن الأنصارِ ومعه أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ ونفرٌ مِن أصحابِه فلمَّا صلَّى على الجِنازةِ دنا مِن جدارٍ فجلَس إليه فأخَذْتُ بمجامعِ قميصِه ونظَرْتُ إليه بوجهٍ غليظٍ ثمَّ قُلْتُ: ألا تقضيني يا محمَّدُ حقِّي؟ فواللهِ ما علِمْتُكم بني عبدِ المطَّلبِ بمُطلٍ ولقد كان لي بمُخالَطتِكم عِلمٌ قال: ونظَرْتُ إلى عمرَ بنِ الخطَّابِ وعيناه تدورانِ في وجهِه كالفلَكِ المستديرِ ثمَّ رماني ببصرِه وقال: أيْ عدوَّ اللهِ أتقولُ لرسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) ما أسمَعُ وتفعَلُ به ما أرى؟ فوالَّذي بعَثه بالحقِّ لولا ما أُحاذِرُ فَوْتَه لضرَبْتُ بسيفي هذا عنقَك ورسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) ينظُرُ إلى عمرَ في سكونٍ وتُؤدةٍ ثمَّ قال: (إنَّا كنَّا أحوجَ إلى غيرِ هذا منك يا عمرُ أنْ تأمُرَني بحُسنِ الأداءِ وتأمُرَه بحُسنِ التِّباعةِ اذهَبْ به يا عمرُ فاقضِه حقَّه وزِدْه عشرينَ صاعًا مِن غير مكانَ ما رُعْتَه) قال زيدٌ: فذهَب بي عمرُ فقضاني حقِّي وزادني عشرينَ صاعًا مِن تمرٍ فقُلْتُ: ما هذه الزِّيادةُ؟ قال: أمَرني الله (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) أنْ أزيدَك مكانَ ما رُعْتُك فقُلْتُ: أتعرِفُني يا عمرُ؟ قال: لا، فمَن أنتَ ؟ قُلْتُ: أنا زيدُ بنُ سَعْنةَ قال: الحبرُ؟ قُلْتُ: نَعم، الحبرُ، قال: فما دعاك أنْ تقولَ لرسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) ما قُلْتَ وتفعَلَ به ما فعَلْتَ فقُلْتُ: يا عمرُ كلُّ علاماتِ النُّبوَّةِ قد عرَفْتُها في وجهِ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) حينَ نظَرْتُ إليه إلَّا اثنتينِ لم أختبِرْهما منه: يسبِقُ حِلْمُه جهلَه ولا يزيدُه شدَّةُ الجهلِ عليه إلَّا حِلْمًا فقد اختبَرْتُهما فأُشهِدُك يا عمرُ أنِّي قد رضيتُ باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دينًا (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) نبيًّا وأُشهِدُك أنَّ شَطْرَ مالي -فإنِّي أكثرُها مالًا- صدقةٌ على أمَّةِ محمَّدٍ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) فقال عمرُ أو على بعضِهم فإنَّك لا تسَعُهم كلَّهم قُلْتُ: أو على بعضِهم فرجَع عمرُ وزيدٌ إلى رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) فقال زيدٌ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) فآمَن به وصدَّقه وشهِد مع رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) مشاهدَ كثيرةً ثمَّ توفِّي في غزوةِ تبوكَ مُقبِلًا غيرَ مُدبِرٍ[2].

واختصم يهودي إلى شريح القاضي ضد علي -رضي الله عنه وأرضاه- على درع مملوك لعلي –كرم الله وجهه- فحكم شريح لليهودي لعدم وجود أدلة كافية تثبت حقيقة ملكية سيدنا علي له، فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين، سقط منك ليلا. فأهداه أمير المؤمنين الدرع.

 ولقد اشتهرت الحضارة الإسلاميَّة بأنَّها حضارة العدل، ولولا التوحيد وأهميته وبناء كل ما في الإسلام عليه وعلى أركانه وقواعده لكان العدل أهم المقاصد والقيم الحاكمة. ونستطيع القول  بأنَّ التوحيد بالنسبة لعلاقتنا بالله (جل شأنه) هو أعلى المقاصد والغايات، والعدل بالنسبة لعلاقاتنا ببعضنا هو أعلى المقاصد وأهمها؛ ولذلك فلابد من العناية به، ووعي الناس بحقيقته، وتكريس برامج التعليم والإعلام لغرسه في عقول الناس وقلوبهم، بحيث لا يفارق أحد منهم العدل، ولا ييبتعد عنه في أي شيء من الأشياء، والله (سبحانه وتعالى) في تنظيمه للأسرة المسلمة أحل تعدد الزوجات بشروط كثيرة، جعل أهمها العدل بينهن، والعدل في أبنائهن وبناتهن، والذي لايستطيع أن يحقق العدل فلا يحل له أن يأخذ برخصة التعدد، ثم يبين الله (جل شأنه) أنَّ العدل في هذا المجال ليس من السهل تحقيقه، وكأنَّه بذلك أراد أن يغلق باب التعدد؛ لأنَّ تحقيق العدل والمساواة التامَّة بين الزوجات المتعددات أمر يتجاوز طاقات الإنسان، وقدراته العاطفيَّة، ومن لا يستطيع أن يسوي بينهن في العواطف والمشاعر فقد لا يسمح له ذلك بأن يكون عادلًا في المعاملة.   

هذا الذي ذكرناه في هذه المقالات الثلاثة هو تنويه وتنبيه إلى أهميَّة البحث في المقاصد العليا الحاكمة، والغايات القرآنيَّة المهيمنة التي تقتضي أن نبني وعي الأجيال بها وعليها، فإن لم نفعل تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

[1] الراوي: أم سلمة هند بنت أبي أمية، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 2680، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[2] الراوي: عبد الله بن سلام المحدث: ابن حبان، المصدر: صحيح ابن حبان، الصفحة أو الرقم: 288، خلاصة حكم المحدث: أخرجه في صحيحه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *