أ.د. طه جابر العلواني
هناك مستوى آخر يتفرع عن القيم والمقاصد العليا تندرج فيه:
القيمة الأولى: الكرامة الإنسانيَّة: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء:70)، وهذا المقصد يقتضي أولًا: احترام آدميَّة الإنسان، فلا يكْرَه على شيء؛ لأنَّ الله (جل شأنه) قد سبق منه الإذن لهذا الإنسان المكرم أن يأتمنه على حريته في الاختيار، في اختيار الدين، فلا إكراه في الدين ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود:28)، ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)، ﴿.. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ..﴾ (ق:45)، وحين أبدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرصًا شديدًا على إنقاذ الناس بالإيمان قال الله له (جل شأنه) معاتبًا: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (الكهف:6)، ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء:3)، ثم قال له: ﴿.. أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:99)، وحين يمنح الله (جل شأنه) الإنسان هذا الحق وهو أهم حقوقه (جل شأنه) عليه أن يؤمن به ويعطيه الخيار: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ..﴾ (الكهف:29)، فلا يمكن أن يسمح لأحد آخر أن يكرهه على الولاء له، مهما كان مركزه أو درجته أو مكانته.
ثانيًا: حق التعبير: وقد ضرب الله لنا مثلًا رائعًا في قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النحل:75-76)، فالله (جل شأنه) يعطي العبد حريته في التعبير عما يريد، ويرد عليه حين يخطئ، فإذا قال اليهود: يد الله مغلولة، يرد عليهم: بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ..﴾ (المائدة:64)، وكل ما قاله المشركون والكفار رد عليه بطريقة مماثلة.
ثالثًا: الحق في الخصوصيَّة: فليس لأحد أن ينتهك خصوصيَّات الإنسان، ففي جسده سواء أكان ذكرًا أو أنثى أجزاء سميت بالعورة، ليس لأحد أن يكشف سترها، إلا بحقها، وفي ظل قيود خاصَّة. ولبيته حرمته، لم يبح الله لأحد أن ينتهكها، أو يجترئ عليها بحال؛ ولذلك فإنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين دخل مكة وفيها أعداؤه وأعداء أصحابه الذين طالما عذبوهم وأهانوهم وسلبوا أموالهم، قال: ” .. من أغلق عليه بابه فهو آمن ..”، فبالرغم من كونهم مقاتلين لم يمنح أحدًا من أصحابه حق اقتحام أي بيت من تلك البيوت، أو انتهاك حرمتها؛ وذلك لإعلاء شأن حق الخصوصيَّة.
وروي أنَّ رجلًا اطَّلع من جُحرٍ في بابِ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ) ومع رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ) مُدرًى يُرَجِّلُ به رأسَه. فقال له رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ): “لو أعلمُ أنك تنظر، طعنتُ به في عينِك. إنَّما جَعلَ اللهُ الإذنَ من أجلِ البصرِ”[1] دليلًا على حق الإنسان بالدفاع عن خصوصياته. كما روي أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه، فوجد عنده امرأة، وعنده خمرا، فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي، إن أكن عصيت الله واحدة، فقد عصيت الله في ثلاث، قال (تعالى): ﴿.. وَلَا تَجَسَّسُوا ..﴾ (الحجرات:12)، وقد تجسست، وقال الله (عز وجل): ﴿.. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ..﴾ (البقرة:189)، وقد تسورت علي، ودخلت علي من ظهر البيت بغير إذن، وقال الله (عز وجل): ﴿.. لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ..﴾ (النور:27)، فقد دخلت بغير سلام. قال عمر -رضي الله عنه: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبدا، قال: فعفا عنه، وخرج وتركه”.
والخصوصيَّات كثيرة، فالمكالمات التليفونيَّة، والمراسلات بين الناس جزء من خصوصيَّاتهم إلا إذا أباحوها بأنفسهم، وتبرعوا بها على طريق قول كسير عزة:
هنيئًا مريئًا غير داء مخامر *** لعزة من أعراضنا ما استحلت.
أمَّا إذا لم يفعلوا؛ فليس لأحد أن ينظر في رسائل أحد، أو يتنصت على نجواه، أو مكالماته، أو يتتبع عوراته، وسورة الحجرات تعد من السور المتخصصة في بيان تلك الحقوق تقريبًا، وأمراض الناس أيضًا يعتبر كثير منها من خصوصيَّاتهم، وليس للطبيب الذي يطلع على تلك الخصوصيَّات أن يكشفها لسواه إلا بإذن صاحب ذلك المرض، بل إنَّ طعام الإنسان في بيته يعد من خصوصيَّاته، فليس لأحد أن يدخل منزل أحد فيخرج ليتكلم عن فراشهم وطعامهم وما رأه في منزلهم.
ولقد طرد داود بن علي الظاهري مؤسس المذهب الظاهري أحد أصدقائه وطلب منه أن لا يزوره في منزله مرة أخرى حين أخبر الناس بأنَّ داود بن علي زاهد من كبار الزهاد، وأنَّه قد بلغ من زهده أنَّه دخل عليه وهو يأكل الخبز اليابس بالماء، وظن الرجل أنَّه بذلك سوف يخدم سمعة داود من خلال إشادته بزهده، لكن داود قال له: لا تدخل لي بيتًا بعد الآن، فأنت رجل لا تؤتمن على ما ترى، ولم يشفع له عند داود أنَّ الرجل كان يريد مدحه والإشادة بزهده، فقال له: أنَّك تعلم بأنَّي ما أردت إلا الخير؟ قال: نعم ولكن من يذيع الحسن اليوم قد يذيع السيئة غدًا، فلا تدخل لي بيتا.
فالخصوصيَّة حق شديد الأهميَّة وهو جدير بالاعتبار والاهتمام به وتحقيقه، كفله القرآن وشرحته السنة المطهرة ومواقف الصحابة الكرام الذين تربوا على مائدة القرآن الكريم.
[1] الراوي: سهل بن سعد الساعدي المحدث: مسلم، المصدر: صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 2156، خلاصة حكم المحدث: صحيح.