أ.د/ طه جابر العلواني
حين كتبت ما سميته النقد الذاتي لكتاب أدب الاختلاف لم يكن في ذهني أنَّني أخطو خطوة هامَّة تبشر بافتتاح عصر جديد، هو عصر المنهج، ولكن بعد أن انتشرت تلك المقالة الهامَّة، واطلع عليها كثيرون، وأعجب فيها عدد لا يستهان به من أهل العلم، ونشرتها مجلات علميَّة في مقدمتها مجلة الأزهر، كلمني صديق عزيز هو الدكتور ناجي الطاهر، عرفته منذ كان طالبًا باحثًا في مجال الدكتواره، وجمعت بيننا رؤية مشتركة لكثير من قضايا أمَّتنا، وتعاونَّا في كثير من المشروعات المعرفيَّة في كندا وأمريكا، والدكتور الطاهر من الذين اهتموا بدراسة ابن خلدون، والتراث الخلدوني، وأعدَّ دراسته في ابن خلدون، وحصل على الدكتوراه، ولكن الرجل قليل الكتابة لا يعرفه إلا القليل، والذين يعرفون قدراته ويثمنونها عدد أقل، كنت بفضل الله في مقدمتهم، وكذلك قرينتي الفيلسوفة الراحلة منى أبو الفضل، وكنا نؤمل فيه الكثير.
اتصل الدكتور ناجي بي، فإذا به يقول: أنت تعرف أنَّني أتتبع كل ما تكتب، وكل ما يصدر عنك، وأعتبر أنَّ مقالتك هذه التي نقدت فيها كتابك، أهم مقالة كتبتها منذ عرفتك؛ فدهشت! فقال: لا تستغرب، إنَّ مقالتك هذه تؤذن بأنَّك قد وصلت إلى المرحلة التي وصل إليها ابن خلدون من قبل، فابن خلدون تبرز عظمته وآثاره ودوره بفعل منهجي، أنبأتنا به مقدمته التي اشتهرت بمقدمة ابن خلدون، ثم كتابه العبر، وذلك أنَّ ابن خلدون القاضي المؤرخ الفقيه المجتهد المفكر وقف وقفة مثل هذه؛ ليعد لنا مقدمته التي يعتبر الفارق بينها وبين كل ما تقدم من كتابات هامَّة أمثال كتابات الإمام الشافعي والجويني والغزالي، مرورًا بمئات من العلماء الأفذاذ وصولًا إلى ابن تيمية، ومدرسته.
ابن خلدون في المقدمة اكتشف سر تخلُّف المسلمين وتذبذبهم الحضاري، واضطراب العمران فيهم، بذلك الفصام الذي حدث بين علوم الأمَّة والعمران، فكتب مقدمته ليعيد الارتباط بين علوم الأمَّة والعمران ليضع الأمر في نصابه، لعل ذلك إذا عم وانتشر يبعث الفاعليَّة في الأمَّة فتنطلق من جديد باتجاه الفعل العمراني، بعد أن يعاد الارتباط والاندماج بين علوم الأمَّة والعمران.
وأنت في مقالتك هذه قدمت لنا إشراقات حول رؤية منهجيَّة يمكن أن تتابعها ونتابعها معك، لينبثق عنها منهج كامل، يتكامل مع مشروع ابن خلدون؛ لأنَّ مشروعك هذا إذا استكملته فإنَّه يقدم للأمَّة منهجًا لإعادة بناء الأمَّة، بحيث تكون قادرة على فهم التوحيد والتزكية والعمران والأمَّة والدعوة، كما حددتها باعتبارها مقاصد قرآنيَّة عليا، حاكمة على كل ما عداها، ونبين على هدي منها المنهج الذي نبحث عنه لنضعه إلى جانب الشرعة، بحيث يعاد تأسيس علوم الأمَّة على هذه المقاصد العليا، ويعاد الارتباط بين القرآن والأمَّة وعلومها، ومقومات كيانها، لتنهض من كبواتها كلها، وتخرج من أزمتها.
جلست بعد مكالمة أخي ناجي حوالي يومين أتأمل فيما قال، وفيما قلت؛ فوجدت أنَّ دكتور ناجي قد أصاب كبد الحقيقة، فما تقلبت فيه طيلة الخمسين عامًا المنصرمة، كنت أحوم خلال تلك السنين كلها حول هذا المنهج، بدأت بعد تخرجي وحصولي على الدكتوراه ودخولي الحياة العمليَّة في التدريس الجامعي في إعادة النظر في التعليل ومسالكه، بل وفي القياس جملة، والجدل الذي دار حوله، والرأي وحجيَّته، والاجتهاد، ثم التقليد. وهل أراد الله لنا (تعالى) أن نكون أمَّة مجتهدة وأن يكون الاجتهاد فينا حالة أمَّة، أو حالة أفراد؟ وهل الاجتهاد كان محصورًا في الجانب الفقهي وحده أم أنَّه نظام حياة، ومسلك نسلكه؟ وإذا كان لكل أمَّة مسلكها كما لها منسكها فإنَّ مسلك هذه الأمَّة الاجتهاد؛ ولذلك قال (جل شأنه): ﴿.. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ..﴾ (المائدة:48)، وفي (منكم) وموضعها من الآية الكريمة دلالة لا تخفى عن المتدبرين.
وإذا تابعت دراساتي واهتماماتي منذ سنة 1970 وحتى اليوم أجد أنَّ الأسئلة الملحة الدائمة التي كانت تطرق على ذهني باستمرار هي: أسئلة في المنهج والمنهجيَّة، صحيح إنَّ كلمة منهج لم تأتي ببنائها اللفظي إلا في الآية 48 من سورة المائدة مقترنة بالشرعة ﴿.. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ..﴾ (المائدة:48)، ولكن من الواضح أنَّ إشارات القرآن للمنهج تعددت بأشكال مختلفة وفي سور عديدة.
إنَّ الشرعة بيِّنة وظاهرة، وقد فصَّل الله لنا ما حرم علينا، وما أوجب، وما شرع، وما أباح، وما استثنى من هذا وذاك، بحيث لا يخطئ الباحث تفاصيل ذلك، أمَّا المنهج فكأنَّه (جل شأنه) جعله شائعًا منتشرًا في سور القرآن كلها، يحتاج الباحث للوصول إليه إلى كثير من التتبع والنظر.
مؤتمر لوجانو:
وحين عقدنا مؤتمر لوجانو صيف 1977 كانت المنهجيَّة والمنهج أبرز محاور مداولاتنا لمدة أسبوع، شارك فيها علماء أعلام، من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، منهم: إسماعيل الفاروقي، ومحمود أبو السعود، والمهدي بن عبود، ومحمد المبارك، وآخرون بلغوا سبعًا وعشرين مشاركًا، واتفقوا في النهاية على ضرورة تأسيس معهد بحوث ودراسات يكرس جهوده كلها وجهود باحثيه وعلماءه وأساتذته للبحث في المنهج والمنهجيَّة، فكان بعد ذلك المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وكنت سعيدًا في أنَّني كنت بين الرعيل الأول من مؤسّسي وبناة هذه المؤسَّسة، التي لم تتوقف حتى اليوم عن البحث في المنهج والمنهجيَّة، ولا تكاد ندوة من ندواته أو دورة من دوراته التكوينيَّة تخلو من محور أو أكثر في الدراسات المنهجيَّة، فأين نحن من ذلك؟.
أستطيع القول بأنَّ ما أعانني الله عليه في هذا المجال مع مجموعة نادرة، مثل: الفيلسوفة الراحلة منى أبو الفضل، والأستاذ الشهيد إسماعيل الفاروقي، وآخرين من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، واستمروا في البحث عن المنهج، ورابطوا على ثغرته بكل إخلاص، قد وصلوا إلى معالم ذلك، وإذا كان الله (جل شأنه) قد نسأ في أجلي وبكرامة القرآن والإخلاص له والحرص على تدبره وبذل الجهد على الدوام في إتقان تلاوته أو تلاوته حق التلاوة، قد أتاح لي فرصة الوصول إلى بعض المعالم، فإنَّني سعيد بأن أقدمها لأمتي بشكل مباشر دون انتظار الكمال والاكتمال؛ لأنَّ ذلك قد يدفع بعض المتعجلين إلى المسارعة إلى نشر بعض المعالم، قبل أن تأخذ مداها من الدراسة والإنضاج؛ فلا يحسن الناس فهمها، لكن هناك كثيرين أمثال: دكتور ناجي الطاهر لا يفوتهم الربط بين تلك الحلقات والمساهمة والمشاركة في إنضاج العمل، وإيصاله إلى الأمَّة في الوقت المناسب؛ ولذلك فإنَّني أقدم هذه الملاحظات، أحيانًا في إطار الدراسات القرآنيَّة التي أقدمها، وأحيانًا في مقالات خاصَّة، أو كتب مثل: معالم المنهج القرآني. وكتابنا في المقاصد العليا التوحيد والتزكية والعمران وتعديلاته الأخيرة بإضافة مقصد الأمَّة والدعوة إليها لتصبح مقاصد خمسة (التوحيد والتزكية والعمران والأمة والدعوة).
ولعل هذه المقالة وما سيتبعها إضافة إلى دراساتنا القرآنيَّة تشكل معالم وحلقات من حلقات المنهج القرآني، وتدبر القرآن، وتفسير القرآن بالقرآن، ستكونان من الوسائل الأساسيَّة في الوصول بهذا المشروع إلى ما يشبه المشروع الخلدوني، فإنَّ ابن خلدون نفسه قد قال كلمة هامَّة في مقدمته وهي: “وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنَّما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأَّنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث”[1].
فنحن اليوم في حالة مستأنفة تمامًا، ومشروعنا هذا في هذا الظرف بالذات يمثل مشروع أمَّة وجدت نفسها في هذه الحالة المستأنفة، فلا يصلح لها أن تظل تواجه كل شيء بذلك الرصيد الموروث الذي استهلك واستنفذ في معظمه أغراضه، وصار موضعًا لاستغلال الأدعياء والأغبياء من قادة الفتن ودعاة العنف، وحملة السيوف الخشبيَّة.
[1] ابن خلدون، المقدمة، طبعة (القاهرة، لجنة البيان العربي، 1957)، ص258.