أ.د/ طه جابر العلواني
أصبحت المدن السنيَّة في العراق والقرى والنواحي تعيش حالة لا نظن أنَّ مسلمي العراق واجهوها إلا في عهد التتار، والاجتياح المغولي، فهذه القرى السنيَّة والمدن يدخلها الداعشيون فيقتلون من لا يرحب بهم، وينهبون ديارهم، ويأخذون منهم الرهائن، وينتهكون أعراضهم، ويسلبون أموالهم، ويذلون أعزاؤهم، ويفقرون أغنياءهم، ويفعلون بهم الأفاعيل، فإذا جاء العسكر العراقيون لإخراج الداعشيين أحرقوا ما قد يكون بقي في تلك البلدان من بيوت دون استثناء، ودون تمييز بين مسجد ومستشفى ومسكن مأهول أو مهجور، فالمدينة كلها ينالها التدمير، والتخريب بشتى أنواعه، وإذا بقي شيء منها واقفًا على سوقه دخلت المليشيات التي يطلقون عليها شتى الأسماء، وهناك مليشيات الحشد الشعبي، ومليشيات تابعة للقيادات السياسيَّة الشيعيَّة المختلفة، والتي صارت قيادات دينيَّة وسياسيَّة، وهناك مليشيات أحزاب وفئات مختلفة لتقوم تلك المليشيات على اختلافها بقتل من بقي وما بقي من الأحياء، حرقًا أو رميًّا بالرصاص، أو بهدم وإحراق ما يكون قد بقي من بيوت الناس أو مواشيهم أو مزارعهم أو أموالهم.
يعرفني الجميع وخاصَّة القيادات الشيعيَّة، وفي مقدمتهم أحمد الـﮕلبي، والحوزات الخاصَّة بآل الحكيم، والسيد عادل عبد المهدي، وكثير من السادة والمشايخ في الحوزات وغيرها، وكذلك آل الخوئي، والصدر، والخالصي، بأنَّني أبعد الناس عن الطائفيَّة، وأنَّني أكره الطائفيَّة بقدر ما أكره الكفر، وأنَّني لم أقف بفضل الله (تعالى) موقفًا طائفيًّا إلى يوم الناس هذا، ولن أفعل ولن أقبل بضغط الطائفيَّة أو أسمح له من أن يغير من طبيعتي، ولكنني أستنكر الجرائم، سواء أكانت ضد مناطق سنيَّة أو مناطق شيعيَّة، استنكرها من منطلق إنسانيتي أولًا، ومن منطلق انتمائي لآدم، وبشريتي، ومن منطلق إسلامي وديني وانتمائي وهويتي، ومن منطلق عروبتي، وعراقيتي، ومن منطلق المشتركات الإنسانيَّة لا من منطلق الانتماء إلى هذه الطائفة أو تلك.
لقد تابعت كل وصايا العبادي رئيس الوزراء لقواته المسلحة الذاهبة لإخراج الدواعش من تكريت وما جاورها، لقد ظن العبادي وغيره أنَّ التوصية كافية لحماية تلك المدن والقرى السنيَّة من التدمير والقتل والاستباحة، وهم يعلمون أنَّهم يتعاملون مع عامَّة، وأناس يتنقلون بين مجالس عاشوراء وصفر وغيرها، حيث يصور لهم الردادون السنة بقتلة الحسين –عليه السلام- وتمتلئ قلوبهم مثل قلوب سائر محبي آل البيت نتيجة تلك الدروس التحريضيَّة، والهوسات والمجالس بكراهية السنة باعتبارهم المسؤولين عن مجزرة كربلاء، وهذه الجماهير التي تدخل مع الجيش أو ترافقه معظمها من هؤلاء الذين امتلأت قلوبهم بالكراهية، وشحنت بالبغضاء، وأترعت برغبات التدمير، فإذا صحبتها تحريضات من بعض حملة العمائم السوداء والبيضاء فإنَّها في هذه الحالة تنطلق باتجاه التدمير، لا تلوي على شيء.
ولقد شاهدت قرية العلم وقرية البوعجيل وبعض أطراف تكريت، واستمعت إلى أصوات بعض قادة المليشيات وهي تنادي بوجوب إحراق كل ما على الأرض في هذه المناطق، بشرًا أو زرعًا أو بيوتًا أو بهائم أو أي شيء، فسمعت تلك الأصوات الكريهة تنادي: “احرقوهم احرقوهم احرقوهم احرقوهم، لا تبقوا على أحد منهم”، لم تكن تلك حالة فردية فهي نفس الأصوات الكريهة التي كنا نسمعها في عهد عبد الكريم قاسم من الشيوعيين: “اعدم، اعدم، اعدم، يا شعب الثائر اعدم”، “اسحلوهم اسحلوهم اسحلوهم، ما كن مؤامرة تصير والحبال موجودة”، تلك الأصوات الكريهة التي سمعناها في المد الأحمر هي نفس الأصوات المبحوحة التي نسمعها اليوم عند دخول هذه المناطق المنكوبة من قبل أشخاص لا شك أنَّهم من ورثة وخلفاء أولئك، فهل يليق بحاكم ينتمي إلى حزب ديني يسمي نفسه حزب الدعوة ينتمي إلى الصدر وإلى أمثاله من أهل العلم أن يمارس في عهده نفس ما كان يمارس أو قريبًا منه أو مثله في ظل الشيوعيون والمد الأحمر وفاضل المهداوي وأمثالهم؟.
وكيف ينادي بنفير عام في وطن مشترك فيه فتنة داخليَّة يفترض أن تعالجها قوات نظامية منضبطة تكون قد دربت تدريبًا خاصًا على الحرب في الشوارع والتعامل مع فتن داخلية، والتمييز بين البريء والمتهم، وبين حامل السلاح وبين المعتزل، والتمييز بين المسجد والمستشفى والسكن الآمن وبين المباني التي تقاتل، وتتخذ منطلقات للقتال، وإلا فإنَّ هذه الجزائم تعد من جرائم الحرب، وتعد جرائم عامَّة، تتوزع المسؤوليَّة فيها وعنها بين الحاكم ورئيس الوزراء ورئيس الجمهوريَّة ونوابه وكل الوزراء المشاركين، إضافة إلى مجلس النواب وسائر المنتمين إلى ذلك الكيان المسخ الذي لا يستطيع أن يحمي أبناءه، ولا يستطيع أن يفرق بين المنتمين له والمعادين له.
أين الدين هنا؟ وأين المذهب؟ وأين الغيرة الوطنيَّة؟ وأين الهُويَّة؟ وأين الإنسانيَّة؟ إنَّ الذي يُفعل اليوم من قبل هؤلاء الذين يحرقون ويدمرون في المناطق السنيَّة لم يُفعل في فلسطين، لا في 1936م ولا في 1948م ولا فيما بعدها، ولم يفعل مثل ذلك في أماكن أخرى. لقد تفوق الطائفيون العنصريون على كل أولئك، ولكن ألا يعلم أولئك أنَّهم مسؤولون، محاسبون بين يدي الله، وأين المراجع من هذه المنكرات؟ ألا يعتبر من المنكرات في دين الله انتهاك الأعراض المسلمة، وقتل الأطفال، وحرق البيوت، أين وصايا الإمام علي –كرم الله وجهه- حين قاتله الخوارج وغيرهم وفرضوا عليه القتال، فروي عن أميرِ المؤمنينَ علِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عنهُ- أنَّهُ: “لما قاتل أهلَ الجملِ لم يَسْبِ لهم ذُرِّيَّةً، ولم يغنم لهم مالًا، ولا أجهَزَ على جريحٍ، ولا اتَّبَع مُدبِرًا، ولا قتل أسيرًا، وأنه صلَّى على قتلى الطَّائفتينِ بالجمَلِ وصِفِّينَ، وقال: إخوانُنا بَغَوْا علينا”[1]، فمن أدبر عن القتال أو فر منه لا يتابع، ولا يزفف على جريحهم أي لا يقضى عليه، ولا نمنعهم الصلاة في مساجدنا ولا ولا ولا إلى غير ذلك.
فإن كنتم أيُّها المراجع والعلماء وأعضاء حزب الدعوة والمتدينون تدَّعون بأنَّكم من شيعة علي –كرم الله وجهه- فهذا هو علي، وهذه آدابه في التعامل مع أعدائه ومخالفيه، فلو فرضنا أنَّ هؤلاء الذين وقعوا بين سندان داعش ومطرقة المليشيات من أعداء علي فعاملوهم وفقًا لما أمر علي بأن يعامل فيه خصومه وأعداءه الذين قتلوه فيما بعد، ولكن تلك العقول التي ورثت الأحقاد قرونًا عديدة، وورثت سخائم الكراهية والحقد وتوارثتها جيلًا بعد جيل، هل يرجى منها أن تتفهم سيرة أمير المؤمنين علي وأخلاق سيدنا الحسين وأئمة آل البيت؟.
لقد أثبتوا أنَّهم أقل من ذلك، وأنَّ سلوكيَّاتهم تدل على أنَّهم أعداء لآل البيت، وأنَّ عداءهم لآل البيت ولو غلف بغلالة من دعوى المحبة لكنَّها غلالة رقيقة كاذبة، لا تستر عورات الحقد، ولا تغطي تلك الأنواع السوداء من الكراهية والأحقاد والسخائم التي طفح بها التراث، تراث الكراهية الذي أشاعه الروافض والنواصب على حد سواء، وكرسته الاتجاهات الصفوية، فهذه الخلطة العجيبة من الكراهية في حاجة إلى استحضار آداب أمير المؤمنين وبنيه وأئمة آل البيت وقادة الصحابة؛ لكي تساعد في إخماد هذه الفتن التي جعلت من هؤلاء يتركون وراءهم كل قضايا العرب وسائر قضايا المسلمين ليتفرغوا إلى تدمير بلدهم وإخوانهم وإنهاء وجوده.
وليعلم هؤلاء أنَّ الأيام دول، وأنَّ الشيعة لن ينهوا الوجود السني في العراق، ولن يستطيع السنة أن ينهوا الوجود الشيعي فيه، وأنَّه لا يسعهم إلا أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم، ويحرموا ما حرم الله من سفك الدماء وهتك الأعراض وتدمير الممتلكات، والتعايش المشترك والتسامح، وإلا فإنَّهم جميعًا هالكون، يهلك السني اليوم بيد الشيعي، وغدًا يهلك الشيعي بيد السني.
نسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يكشف الغمة عن هذه الأمَّة، وأن يفرج الكروب، ويمنحنا الأمن والطمأنينة، ويعيدنا إلى الرشد، إنَّه سميع مجيب.
[1] الراوي: المحدث: ابن تيمية، المصدر: حقوق آل البيت، الصفحة أو الرقم: 34، خلاصة حكم المحدث: ثابت من وجوه.