أ.د/ طه جابر العلواني
عرف الإنسان الشعار وأتخذه عنوانًا يختصر ويختزن كمًا هائلا من القيم والأهداف والمواصفات والخصائص الذاتية المتعلقة بأصحاب الشعار، فحين نجد بلدًا أتخذ من الشمس شعارًا، وتصرف تصرفاً ما في أشعتها متموجة أو مستقيمة أو مسننة، فإننا نستطيع أن نكتشف بأن لهذا البلد أو الشعب صلة ما بالشمس وإلّا فلم أتخذها شعارًا أو رمزًا له، وقد تكون حياته ترتبط بالشمس من حيث زراعة أو مياه أو غيرها.
ولقد مرَّ على الناس حين من الدهر، كانت بعض الأمم الجاهليّة تتخذ من شعاراتها آلهة أو شركاء تقدسها وتعظمها وتقدم لها القرابين وما إلى ذلك، ففي اللغة الإنجليزية يطلق على طائر (الديك الرومي)(تركى) (Turkish)، وتطلق عليه بعض شعوبنا (الفسيفس) وبعضهم يسميه (الطاووس) أو (على شيش) أو (شيش طاووق)، ويطلق عليه الأمريكان ومن إليهم اسم تركى كذلك، وهو اسم موروث شاع في البلدان التي تحولت وصارت أوروبا بعد حروب الفرنجة (الحروب الصليبية)، ثم ظهور الدولة العثمانيّة في نهاية تلك المراحل كمنقذ لبقايا العالم العربي وبقايا الدولة العباسية وما آلت إليه، وتحولت الدولة العثمانية إلى خطر على البلدان التي صارت فيما بعد أوربا، فأطلقوا على هذا النوع من الطيور المأكولة تركى؛ تفاؤلا بأنهم سيقضون على الخطر الإسلامي القادم من الشرق، بل سيأكلونه. وكذلك الحال بالنسبة لخبز (الكرواسون) لدى الفرنسيين ففيه رمز إلى أن الهلال سيؤكل بالصليب أو من أهل الصليب، وقد لا ينتبه الناس وأنا منهم فكثيرًا، ما كنا نأكل هذا النوع من الخبز ونسميه بالتسمية نفسها ونأكل في أمريكا التركي ونسميه نفس التسمية الأمريكانية، وهنا في بلداننا حين عربّنا الاسم سميناه بالديك الرومي، فهل هو من قبيل الرد كأننا نقول ما يؤكل ليس بالتركي و إنما ما سيؤكل هو الرومي .. الله أعلم
في كل الأحوال تبقى الشعارات في دائرة الأمور المهمة جدًا التي تقتضى مزيدا من الحذر؛ لئلا يتبع تحريف الرمز تحريفات في الواقع شديدة، وسواء أكانت تلك الشعارات وضعت شعارات لدول أو لمؤسسات أو شركات أو لأى شيء آخر فللشعار دلالاته ورمزيته مما يقتضى ملاحظة جميع الأبعاد ودراسة سائر الاحتمالات لتلافى أي ايحاءات سلبية يمكن أن يعطيها الشعار والبلدان التي انتقلت الى الإسلام وتبنته وحملت رايته وكانت لها شعارات قبل أن تستنير بنور الإسلام ، ينبغي لها أن تكون شديدة الحذر والحرص في هذه الناحية، وأذكر أن عبدالكريم قاسم حين غيّر شعار الدولة العراقية، كان يشرف بنفسه ويشارك الفنانين الذين عهد إليهم بتصميم الشعار الجديد ويطلب منهم ألّا يغفلوا أيّ فترة من فترات التاريخ العراقي، وبقىّ فترة من الزمن بعد إقرار الشعار يفتخر لزواره بمساهمته بتصميم ذلك الشعار ويشرح لهم تفاصيله وجميع الايحاءات المتعلقة بالأشكال وبالألوان، وكان يشير إلى أن الشعار في نصف منه يذّكر بالتاريخ و النصف الآخر منه يذّكر بالحاضر والأمل في المستقبل وسواء نجح في هذا أم أخفق فإن الشعار من المنطقيّ أن يكون رمزًا، يقود إلى احترامه واحترام ما يرمز إليه، ويذّكر الأجيال بماضيهم و ينبههم إلى حاضرهم و قد يقود تطلعاتهم نحو المستقبل القريب منه والبعيد .
ولذلك فإننّا نتمنى على الدول والمؤسسات الكبرى إذا ما أرادت انشاء شعار أو تطوير شعار موجود أو تغييره أن تناقش ذلك على مستوى واسع من خبراء التاريخ والاجتماع والنفس والفقه والقانون إضافة إلى الفنانين الذين لهم باع في هذا المجال ليتداولوا معهم في كيفية تعديل الشعار أو رسمه أو بنائه ليكون جديرًا بالاحترام ومعبرًا عن الأمّة وتاريخها وثقافتها. والله الموفق.