Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الاجتهاد الجماعي بين الحقيقة والخيال

أ.د/ طه جابر العلواني.

بالنسبة للمحيط السني حاول أهل العلم منذ أن صدمتهم الحضارة الغربيَّة بعد دخول نابليون مصر، وتحول الاحتكاك بالغرب إلى شيء مباشر؛ حصلت لديهم حالة وعي بأنَّهم أولوا عنايتهم الفائقة لدراسة ما لا ينفع كثيرًا العلم به، ولا يضر الجهل به، خاصَّة ما لا يمكن الاستفادة به في مجالات العمران، والتنمية الاقتصاديَّة، والاكتشافات العلميَّة، والكشف عن الطرق البريَّة والبحريَّة والبارود، التي يمكن أن تؤثر في قضايا المال والتجارة والصناعة، واستقلال الأمم وسيادتها وقوتها وضعفها، وقال الشيخ العطار المتوفى 1255 هجريًّا كلمته المشهورة: لقد اكتشفت بعد مقابلة هؤلاء أنَّنا ندرس في الأزهر علوم لا فائدة فيها، وأنَّنا تخلينا عن علوم فيها الفائدة كلها في إنشاء العمران لو أردنا. وهي العلوم التي طرحها عليه الفرنسيون.

ومنذ ذلك التاريخ بل وقبله بكثير والنداءات لا تتوقف، بضرورة فتح باب الاجتهاد، وكأنَّ الاجتهاد غرفة تم إغلاق أبوابها، ويحتاج الناس إلى فتح أو تكسير تلك الأقفال؛ ليلجوا إلى الداخل ويستردوا شجرة الاجتهاد، وقد فاتهم أنَّ الاجتهاد والتجديد حالتان عقليَّتان، ونفسيَّتان، توجدهما في الإنسان رؤيته الكليَّة، ووعيه بمقاصد خلقه، وأهداف وجوده، وإدراكه للقراءتين، وضرورة الجمع بينهما، في كل نوع من أنواع المعرفة أو العمل، وكما يقول البشير الإبراهيمي: كلما كثر النداء بالجهاد قل المجاهدون. وأنا أقول: كلما علت الأصوات بالدعوة إلى الاجتهاد قل المجتهدون.

وأول شيء نحتاجه لفتح أبواب الاجتهاد وإيجاد وعي على ضرورته هو أن ندرك أنَّ الاجتهاد ليس أمرًا منحصرًا في المجالات الفقهيَّة، ومجالات أصول الفقه، بل هو كما قلت: حالة عقليَّة ونفسيَّة أراد الله (سبحانه وتعالى) أن يخرج الناس إليها من ظلمات الآبائيَّة والتقليد والتبعية إلى نور الإحساس بالمسؤوليَّة وتحمل الجميع لها، والوعي بأنَّه ليس لأحد أن يستمع إلى دعوى أو يروج لها، أو يراها تنتشر ولا يقف في وجهها، إلا إذا أقام أصحابها الأدلة المعتبرة على صحة تلك الدعوى، وإذا اعتمدوا على الرواية فنحن لا نمنع من ذلك ولا نرفضه، ولكنَّنا نطالب من يروي بأن يقدم لنا الأدلة على صحة ما روى، إسنادًا ومتنًا، لفظًا ومعنًا، وبدون ذلك فلا تقبل الدعاوى ولا الروايات.

ومن الطريف أنَّ الإمام ابن حزم قد سئل: وأنَّى للعامي أن يجتهد؟ فقال: إنَّ عليه أن يجتهد في اختيار من يفتيه، فذلك نصيبه من الاجتهاد. ومعنى ذلك، فإنَّ العامي لابد أن ينال قسطًا من المعرفة، يسمح له بأن يسائل صاحب أي دعوى عن دليل صحة دعواه، وصاحب أيَّة رواية عن دليل صحة روايته، ومن يفسر هنا وهناك لابد أن يسند تفسيره بدليل معتبر، يعزز ذلك التفسير ويسنده، ويمنح قلوب الناس قبوله والرضى عنه، والشعور بالاطمئنان إليه.

هذه الحالة العقليَّة والنفسيَّة لو حدثت فإنَّ من شأنها أن تجعل المنتمين إلى هذه الأمَّة يتخلصون من عقليَّة العوام الذين لا يعرفون إلا التقليد، تسيّرهم عواطفهم، وأهواؤهم، ويتشبثون بالآبائيَّة، وهم جمهور جاهز لممارسة التبعية؛ لأنَّ التقليد قد جهزهم لذلك، وهيأهم له، فتخليصهم من عقليَّة العوام هذه والاتصاف بطبيعة القطيع ونفسيَّة العبيد لا يتم إلا بأن يتحول الاجتهاد والتجديد إلى حالة نفسيَّة، تشمل الأمَّة كلها، ولكن على كل فصيل من فصائل الأمَّة أن يقوم بالقسط المناسب له، الذي يدخل تحت قدرته حيث لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ليمارسه، وأقله أن يبحث عن الصادقين، ويجتهد في معرفتهم، والوصول إليهم؛ لأنَّ الله (جل شأنه) أمرنا: ﴿.. وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة:119). ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء الناس بالصدق وصدق به معهم.

إذًا فنحن محتاجون إلى خطوتين هامتين في بداية الأمر:

الخطوة الأولى: أن نخرج الاجتهاد من الانحصار في الدائرة الفقهيَّة إلى العموم والشمول في دوائر الحياة علمًا وعملًا ومعرفةً وسلوكًا، وتحويله إلى حالة عامَّة في الأمَّة، في سائر جوانب حياتها.

 والخطوة الثانية: أن نتخلص من إسار التقليد؛ لأنَّه أخطر أعداء الاجتهاد، فالأصوليُّون كافَّة يعرفون التقليد بأنَّه: “قبول قول الغير بلا حجة”، وهذا أمر يرفضه الإسلام، ويأباه القرآن الكريم، الذي ينادي باستمرار بطلب الحجة والبرهان، ﴿.. قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (الأنعام:148)، ويقول: ﴿.. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (النمل:64)، ويقول: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ .. (النجم:23) ، فلابد من الدليل والبرهان والسلطان، وما السلطان هنا إلا الدليل والمصدر الذي يستند إليه.

والاجتهاد الجماعي الذي عرفته المجامع الفقهيَّة المعاصرة يعتمد على بحوث يكتبها الخبراء  في المسائل التي تعرض على تلك المجامع، ويلخص الخبير نتائج بحثه، ويقوم أعضاء المجمع بمناقشتها إذا كانوا قد قرأوا البحث وأولوه عنايتهم، أمَّا إذا لم يقرأوا -وهذا هو الغالب- فسيوافقون مع الأكثريَّة بالقبول أو الرفض، وبالتالي فهو في حقيقته اجتهاد فردي، يعتمد على اجتهاد الخبير الكاتب، وهؤلاء لا يجتهدون، لا هم ولا الذين يناقشون بحوثهم من الأعضاء العاملين؛ لأنَّهم يؤمنون بقواعد موروثة، تنزلت إلينا جيلًا بعد جيل، منها: (ما ترك السالف للخالف شيء). ومنها: (ليس في الإمكان أبدع مما كان). وقد يردد بعضهم قول الشاعر: (هل غادر الشعراء من متردم).

ولذلك فإنَّ أحسن ما يمكن أن يتطلع إليه المجتهد في هذه الأطر التقليديَّة أن يقوم بالقياس على أمر قد يكون ثبت عند الفقيه المجتهد بالقياس، مع قولهم: بعدم جواز القياس على القياس، ولكنَّهم يلجأون إليه ويمررونه في تلك الأمور؛ لأنَّهم يخافون أن يجتهدوا، ويخافون أن يتهموا بالإتيان بأقوال لم يقل بها من سبقهم من الأئمة الذين تلقت الأمَّة تراثهم بالقبول، بعد أن كتب الكاتبون في مناقبهم آلاف الصفحات، فالإمام الشافعي كتب الشافعيَّة في مناقبة ما يزيد عن أربعين كتابًا، وتجد مثل ذلك حول الإمام أبي حنيفة، ومالك، وابن حنبل، وسواهم، خاصَّة وأنَّ تاريخنا قد عرف فتاوى بتحريم الاجتهاد بعد اجتهاد الأئمة السابقين الأربعة المتبوعين، بل لقد احتفظت لنا كتب التراجم بنماذج من علماء سجنوا بتهمة الاجتهاد، وذلك في نحو كتاب البدر الطالع في تراجم أهل القرن التاسع، وابن تيمية من مشاهير أولئك الذين تجرأوا على الاجتهاد في ثلاث مسائل، فسجن الرجل وشيع من سجنه إلى قبره في جامعة دمشق الآن مقابل كلية الشريعة؛ ولذلك فإنَّه لا أحد ممن نعرف من فقهاء العصر يتجاوز الاجتهاد بالمعنى الذي وضعوه له في غير مسألة أو مسألتين أو تخريج على أقوال المتقدمين، أو قياس على بعض فتاواهم.

أمَّا الرجوع إلى كتاب الله (سبحانه وتعالى) وإلى سنة وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذلك أمر لا يملك الجرأة على القيام به أحد من هؤلاء، خشية الاتهام بمخالفة إجماع، أو تجاوز الأئمة المتبوعين، أو تقديم شيء قد يثير بين الناس فرقة أو فتنة أو ما شاكل ذلك؛ ولذلك فمع كثرة الكلام والكتابة عن هذا الاجتهاد الجماعي فإنَّني ما رأيت من يمارسونه لحد الآن، أو يجترؤون على ممارسته، وقصارى ما يقوم به هؤلاء اختيار بين أقوال المتقدمين، أو ترجيح بعض أقوالهم على البعض الآخر، أو شيء نادر من التخريج على قواعدهم، وذلك كله لا يندرج في أبواب الاجتهاد.

وفتح باب الاجتهاد يقتضي أول ما يقتضي أن نكسر الحواجز بيننا وبين القرآن المجيد، ونهدم جدر الهجر له والعناية بسواه، ثم الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون من ناحية، والجمع بين قراءة الكتاب والسنة من ناحية أخرى، فالكتاب الكريم هو المصدر المنشئ للأحكام، والسنة النبويَّة هي المصدر التطبيقي لها، والله أعلم.

أ.د/ طه جابر العلواني.

بالنسبة للمحيط السني حاول أهل العلم منذ أن صدمتهم الحضارة الغربيَّة بعد دخول نابليون مصر، وتحول الاحتكاك بالغرب إلى شيء مباشر؛ حصلت لديهم حالة وعي بأنَّهم أولوا عنايتهم الفائقة لدراسة ما لا ينفع كثيرًا العلم به، ولا يضر الجهل به، خاصَّة ما لا يمكن الاستفادة به في مجالات العمران، والتنمية الاقتصاديَّة، والاكتشافات العلميَّة، والكشف عن الطرق البريَّة والبحريَّة والبارود، التي يمكن أن تؤثر في قضايا المال والتجارة والصناعة، واستقلال الأمم وسيادتها وقوتها وضعفها، وقال الشيخ العطار المتوفى 1255 هجريًّا كلمته المشهورة: لقد اكتشفت بعد مقابلة هؤلاء أنَّنا ندرس في الأزهر علوم لا فائدة فيها، وأنَّنا تخلينا عن علوم فيها الفائدة كلها في إنشاء العمران لو أردنا. وهي العلوم التي طرحها عليه الفرنسيون.

ومنذ ذلك التاريخ بل وقبله بكثير والنداءات لا تتوقف، بضرورة فتح باب الاجتهاد، وكأنَّ الاجتهاد غرفة تم إغلاق أبوابها، ويحتاج الناس إلى فتح أو تكسير تلك الأقفال؛ ليلجوا إلى الداخل ويستردوا شجرة الاجتهاد، وقد فاتهم أنَّ الاجتهاد والتجديد حالتان عقليَّتان، ونفسيَّتان، توجدهما في الإنسان رؤيته الكليَّة، ووعيه بمقاصد خلقه، وأهداف وجوده، وإدراكه للقراءتين، وضرورة الجمع بينهما، في كل نوع من أنواع المعرفة أو العمل، وكما يقول البشير الإبراهيمي: كلما كثر النداء بالجهاد قل المجاهدون. وأنا أقول: كلما علت الأصوات بالدعوة إلى الاجتهاد قل المجتهدون.

وأول شيء نحتاجه لفتح أبواب الاجتهاد وإيجاد وعي على ضرورته هو أن ندرك أنَّ الاجتهاد ليس أمرًا منحصرًا في المجالات الفقهيَّة، ومجالات أصول الفقه، بل هو كما قلت: حالة عقليَّة ونفسيَّة أراد الله (سبحانه وتعالى) أن يخرج الناس إليها من ظلمات الآبائيَّة والتقليد والتبعية إلى نور الإحساس بالمسؤوليَّة وتحمل الجميع لها، والوعي بأنَّه ليس لأحد أن يستمع إلى دعوى أو يروج لها، أو يراها تنتشر ولا يقف في وجهها، إلا إذا أقام أصحابها الأدلة المعتبرة على صحة تلك الدعوى، وإذا اعتمدوا على الرواية فنحن لا نمنع من ذلك ولا نرفضه، ولكنَّنا نطالب من يروي بأن يقدم لنا الأدلة على صحة ما روى، إسنادًا ومتنًا، لفظًا ومعنًا، وبدون ذلك فلا تقبل الدعاوى ولا الروايات.

ومن الطريف أنَّ الإمام ابن حزم قد سئل: وأنَّى للعامي أن يجتهد؟ فقال: إنَّ عليه أن يجتهد في اختيار من يفتيه، فذلك نصيبه من الاجتهاد. ومعنى ذلك، فإنَّ العامي لابد أن ينال قسطًا من المعرفة، يسمح له بأن يسائل صاحب أي دعوى عن دليل صحة دعواه، وصاحب أيَّة رواية عن دليل صحة روايته، ومن يفسر هنا وهناك لابد أن يسند تفسيره بدليل معتبر، يعزز ذلك التفسير ويسنده، ويمنح قلوب الناس قبوله والرضى عنه، والشعور بالاطمئنان إليه.

هذه الحالة العقليَّة والنفسيَّة لو حدثت فإنَّ من شأنها أن تجعل المنتمين إلى هذه الأمَّة يتخلصون من عقليَّة العوام الذين لا يعرفون إلا التقليد، تسيّرهم عواطفهم، وأهواؤهم، ويتشبثون بالآبائيَّة، وهم جمهور جاهز لممارسة التبعية؛ لأنَّ التقليد قد جهزهم لذلك، وهيأهم له، فتخليصهم من عقليَّة العوام هذه والاتصاف بطبيعة القطيع ونفسيَّة العبيد لا يتم إلا بأن يتحول الاجتهاد والتجديد إلى حالة نفسيَّة، تشمل الأمَّة كلها، ولكن على كل فصيل من فصائل الأمَّة أن يقوم بالقسط المناسب له، الذي يدخل تحت قدرته حيث لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ليمارسه، وأقله أن يبحث عن الصادقين، ويجتهد في معرفتهم، والوصول إليهم؛ لأنَّ الله (جل شأنه) أمرنا: ﴿.. وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة:119). ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء الناس بالصدق وصدق به معهم.

إذًا فنحن محتاجون إلى خطوتين هامتين في بداية الأمر:

الخطوة الأولى: أن نخرج الاجتهاد من الانحصار في الدائرة الفقهيَّة إلى العموم والشمول في دوائر الحياة علمًا وعملًا ومعرفةً وسلوكًا، وتحويله إلى حالة عامَّة في الأمَّة، في سائر جوانب حياتها.

 والخطوة الثانية: أن نتخلص من إسار التقليد؛ لأنَّه أخطر أعداء الاجتهاد، فالأصوليُّون كافَّة يعرفون التقليد بأنَّه: “قبول قول الغير بلا حجة”، وهذا أمر يرفضه الإسلام، ويأباه القرآن الكريم، الذي ينادي باستمرار بطلب الحجة والبرهان، ﴿.. قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (الأنعام:148)، ويقول: ﴿.. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (النمل:64)، ويقول: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ .. (النجم:23) ، فلابد من الدليل والبرهان والسلطان، وما السلطان هنا إلا الدليل والمصدر الذي يستند إليه.

والاجتهاد الجماعي الذي عرفته المجامع الفقهيَّة المعاصرة يعتمد على بحوث يكتبها الخبراء  في المسائل التي تعرض على تلك المجامع، ويلخص الخبير نتائج بحثه، ويقوم أعضاء المجمع بمناقشتها إذا كانوا قد قرأوا البحث وأولوه عنايتهم، أمَّا إذا لم يقرأوا -وهذا هو الغالب- فسيوافقون مع الأكثريَّة بالقبول أو الرفض، وبالتالي فهو في حقيقته اجتهاد فردي، يعتمد على اجتهاد الخبير الكاتب، وهؤلاء لا يجتهدون، لا هم ولا الذين يناقشون بحوثهم من الأعضاء العاملين؛ لأنَّهم يؤمنون بقواعد موروثة، تنزلت إلينا جيلًا بعد جيل، منها: (ما ترك السالف للخالف شيء). ومنها: (ليس في الإمكان أبدع مما كان). وقد يردد بعضهم قول الشاعر: (هل غادر الشعراء من متردم).

ولذلك فإنَّ أحسن ما يمكن أن يتطلع إليه المجتهد في هذه الأطر التقليديَّة أن يقوم بالقياس على أمر قد يكون ثبت عند الفقيه المجتهد بالقياس، مع قولهم: بعدم جواز القياس على القياس، ولكنَّهم يلجأون إليه ويمررونه في تلك الأمور؛ لأنَّهم يخافون أن يجتهدوا، ويخافون أن يتهموا بالإتيان بأقوال لم يقل بها من سبقهم من الأئمة الذين تلقت الأمَّة تراثهم بالقبول، بعد أن كتب الكاتبون في مناقبهم آلاف الصفحات، فالإمام الشافعي كتب الشافعيَّة في مناقبة ما يزيد عن أربعين كتابًا، وتجد مثل ذلك حول الإمام أبي حنيفة، ومالك، وابن حنبل، وسواهم، خاصَّة وأنَّ تاريخنا قد عرف فتاوى بتحريم الاجتهاد بعد اجتهاد الأئمة السابقين الأربعة المتبوعين، بل لقد احتفظت لنا كتب التراجم بنماذج من علماء سجنوا بتهمة الاجتهاد، وذلك في نحو كتاب البدر الطالع في تراجم أهل القرن التاسع، وابن تيمية من مشاهير أولئك الذين تجرأوا على الاجتهاد في ثلاث مسائل، فسجن الرجل وشيع من سجنه إلى قبره في جامعة دمشق الآن مقابل كلية الشريعة؛ ولذلك فإنَّه لا أحد ممن نعرف من فقهاء العصر يتجاوز الاجتهاد بالمعنى الذي وضعوه له في غير مسألة أو مسألتين أو تخريج على أقوال المتقدمين، أو قياس على بعض فتاواهم.

أمَّا الرجوع إلى كتاب الله (سبحانه وتعالى) وإلى سنة وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذلك أمر لا يملك الجرأة على القيام به أحد من هؤلاء، خشية الاتهام بمخالفة إجماع، أو تجاوز الأئمة المتبوعين، أو تقديم شيء قد يثير بين الناس فرقة أو فتنة أو ما شاكل ذلك؛ ولذلك فمع كثرة الكلام والكتابة عن هذا الاجتهاد الجماعي فإنَّني ما رأيت من يمارسونه لحد الآن، أو يجترؤون على ممارسته، وقصارى ما يقوم به هؤلاء اختيار بين أقوال المتقدمين، أو ترجيح بعض أقوالهم على البعض الآخر، أو شيء نادر من التخريج على قواعدهم، وذلك كله لا يندرج في أبواب الاجتهاد.

وفتح باب الاجتهاد يقتضي أول ما يقتضي أن نكسر الحواجز بيننا وبين القرآن المجيد، ونهدم جدر الهجر له والعناية بسواه، ثم الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون من ناحية، والجمع بين قراءة الكتاب والسنة من ناحية أخرى، فالكتاب الكريم هو المصدر المنشئ للأحكام، والسنة النبويَّة هي المصدر التطبيقي لها، والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *