Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

السلاطينُ والعلماءُ، والألقاب

أ.د/ طه جابر العلواني

      كانت الألقاب عند العرب، تطلق للتذكير بمناسبات أو صفات أو أيام ووقائع، يذكر فيها الملقَّب، أو الممدوح، أو المذموم، كأن يقال: أبو الفوارس، مُقري الضيفان، عميد الخيل،     عقيد القوم، وما شاكل ذلك، ويغلب أن تكون تلك الألقاب حقيقيَّة وصادقة، ونعرف أُسرًا ما تزال تحتفظ ببعض الألقاب، الدالة على تلك الصفات، أو الحرف، والمهن، وما إليها، وكانوا يميلون في تلك الألقاب إلى الصدق والبساطة، وجاءت مراحل تاريخيَّة معينة اشتهرت بالمبالغة بالألقاب، والإفراط بتلك الأوصاف، وكانت هذه الظواهر حين تطل بأعناقها البغيضة فإنَّها تدل على نوع من التراجع، والفراغ لدى تلك الطوائف من الناس، والفئات التي تلتفُّ حولها، ويغلب أن تنتشر وتشيع وتشتد المبالغة بها في أوقات الصراع، وشاع ذلك بين السلاطين، والحكَّام، وبين العلماء.

     فبالنسبة للسلاطين برزت ألقاب مثل: ظلُ الله في الأرض، ويغفل الناس وهم يرددونها عن أنَّها كلمة قد تعبر عن كفر، فليس لله شبيه، وليس له أصل وصورة، وظل وشاخص، ولكن استعملت وشاعت، وبقي كثيرون يرددونها منذ القرن السادس الهجري، إلى سقوط دولة آل عثمان، ولا يقتصر عادة على لقب مفرد، بل غالبًا ما تتعدد الألقاب وتكثر، فهو ظل الله في أرضه، وسلطان العالمين، ومغيث الخلق، وسيد الخافقين؛ وقد يجمع له البعض المشارق والمغارب وما إلى ذلك، فإذا انتقلنا إلى العلماء-وهم الفئة الثانية من فئات أولي الأمر-وجدنا ألقابًا أخرى كثيرة، منها: شيخ الإسلام والمسلمين، حجة الله على خلقه، آية الله، أمير المؤمنين في الحديث، أمير المؤمنين في الفقه، أمير المؤمنين في علم الحقيقة، وحيد دهره، وفريد زمانه، ونسيج وحده، ولم ترَ عيناه مثله، مفتي الثقلين، فقيه العالمين، الحامل لمفاتيح الدين …إلخ.

       هذه الألقاب في كثير منها ما هو مرفوض إسلاميًّا، وبعضها ينافي التوحيد، وفي بعضها تضليل شديد، واستعارات قد تشير إلى عُقَدٍ، خاصَّة أمراء المؤمنين في الحديث، وفي العلوم الأخرى، ذلك كله كان يحدث أيام التخلُّف والصراع على استعباد الناس، وفرض السيطرة عليهم سواء أكانت: سيطرة سلطانيَّة في إطار القوة والحكم والسلطان، أو سلطة معرفيَّة في إطار العلم والمعرفة.

       والمسلمون الأوائل قلَّ أن نجد فيهم مبالغةً في الألقاب، أو عناية كبيرة بها، والكثير منَّا يذكر قصة الصحابي الجليل، الذي دخل على معاوية وخاطبه قائلًا: أيُّها الأجير، فقال له بعض الجالسين من حوله بل قل: أيُّها الأمير، قال: لا والله إنَّه الأجير، استأجرتْهُ الأمَّة لخدمتها، وقرُّاء الصحابة وعلماؤهم لا نجد لأيٍّ منهم ألقابًا مثل تلك، التي شاعت في عصور التخلُّف، وهي عند إنعام النظر وإجالة الفكر، تنبه إلى صراع معلنٍ أو خفي بين فرق أو مذاهب، كلٌّ منها يحاول أن يضفي أحسن الصفات على مراجعه ومن يمثلونهم، وأقل الصفات على مخالفيهم، علمًا بأنَّ الإسلام في آدابه له موقف من هذه الأمور، كان ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار.

      وقد رويَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ: وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَالَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلانًا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا” [1]، وما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن هشام عن فاطمة عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثني محمد بن المثنى حدثني يحيى عن هشام حدثتني فاطمة عن أسماء أن امرأة قالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. رواه البخاري.

     ويذكرني هذا بمرثيَّة الشيخ عبد الكريم دبان، حين رثى شيخة عبد الوهاب البدري بحضور شيخه الآخر السيد أحمد الراوي، فقال مخاطبًا البدري عند دفنه:

     ما كنت أدري قبل حطك في الثرى *** بأن َّالجبال المشمخرة تلحد.

     وهو بيت جاء في قصيدة الشريف الرضي، يرثي به أبو إسحاق الصابي، حيث قال الشريف:

     ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى … أنَّ الثرى يعلو على الأطواد.

     والبيت قد طوره الشيخ عبد الكريم، ليرثي به شيخه عبد الوهاب البدري، الذي درس عليه في مدرسة سامراء الدينيَّة-قبل أن يستولي عليها القائمون على مرقد العسكري في سامراء- فقال له شيخه السيد أحمد الراوي: وماذا أبقيت لشيخك الآخر-يريد نفسه؟ فقال له عبد الكريم: ما تزال البحار موجودة فلا تقلق؛ فسأرثيك بما هو أبلغ من هذه، وهذه كلها من الاستعارات البلاغيَّة اللطيفة، ومجيئها في معرض الرثاء أمر قد يكون مستحسنًا، لكن مجيئها في غير ذلك الموقف أمر يجعلها تندرج تحت المبالغة في المديح والأوصاف وما إلى ذلك.

     ولقد رأيت عبد الكريم قاسم حين كان يحكم العراق، يصرُّ على كتابة البيان اليومي للتشريفات-أي للمقابلات التي تجري معه-ويضع بخطه جميع الألقاب، التي كان العراقيُّون يلقبونها بها، ومنها: قولهم الزعيم الأوحد والأوحد والأوحد، فكان يكتب بخطه: قابل سيادة الزعيم الأوحد في مكتبه على الساعة كذا السيد فلان وفلان…، حتى بلغ به الغرور أن أقنعه المدَّاحون-وكانوا كثرًا ما يمدحونه شعرًا ونثرًا-بأنَّه مُلْهَمٌ، وأنَّه أوحد، فقال كلمته المشهورة: إنَّني قوة منطلقة في التاريخ، يستمد الشعب القوة مني في حياتي وبعد مماتي يستمدها من كلماتي والبيان الأول للثورة.

     فالألقاب والمبالغة فيها لها أثر كبير في دفع بعض الناس إلى الغرور، وخداعهم عن أنفسهم، وجعلهم يشعرون بأنَّهم فوق البشر بشكل أو بآخر، منها جاء استقباح الشارع ورفضه لهذه الظاهرة المنافية البغيضة…؛فهل يا ترى من متعظ؟

[1] مسند أبو داود الطيالسي، حديث رقم (895).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *