الحلقة الثانية
أ.د/ طه جابر العلواني
استدرج رئيس فرنسا إلى مثل ما استدرج إليه جورج بوش الثاني، حين قال: إنَّها حرب صليبيَّة، ووضع المسلمون أكفهم على قلوبهم، خائفين لا يدرون أي بلدانهم ستكون الضحيَّة، وقد كانت ضحايا ضرب البرجين أفغانستان والعراق والصومال، إضافة إلى كثير من الخسائر التي مُنِّي بها العالم الإسلامي، وذلك يعني أنَّ صراع الحضارات الذي تنبَّأ به هنتنجتون Huntington في التسعينيَّات صراعًا حقيقيّ، لا متخيَّل، وقد أطلق آباؤنا على الحروب التي وقعت واستغرقت حوالي قرنين من الزمان حروب الفرنجة، أمَّا الأوروبيُّون وأتباع الباباوات والنبلاء فقد سموها بالحروب الصليبيَّة لتحريض آل الصليب جميعًا وتأليبهم ضد المسلمين، وهذا ما يحدث الآن في صراع الحضارات، كأنَّ المطلوب استئصال كل ما هو إسلاميّ، وإخضاعه للتغيير الجبري بالقوة، وبالجواري السابحات في محيطات الأرض كالأعلام.
إنَّ من المعروف أنَّ فرنسا بالذات قد فقدت استقلالها مرتين، وفي كلا المرتين كان المنقذ الإسلام والمسلمون، ففي الحرب العالميَّة الأولى قاتل أجداد هؤلاء الذين خنقوهم حتى فضلوا الموت على الحياة والانتحار على العيش الذليل، ولقد أعطت الدول المغاربيَّة لفرنسا زهرة شبانها لتحريرها، وإعادة الاستقلال إليها، ورفع أعلام الحريَّة فيها، وكان المسلمون -أجداد هؤلاء المطاريد اليوم ضحايا تلك الحروب- يلقى بهم في الصفوف الأماميَّة، فداءً لأحفاد قبائل الغال الفرنسيّين، وما رفضوا ولا وهنوا ولا استكانوا، وافتدوا فرنسا بمهجهم وأرواحهم، إلى أن عادت إليها حريَّتها، واستقلالها، وأمنها واستقرارها.
بلغ عدد المغاربة الذين انضمُّوا للجيش الفرنسي خلال الفترة الممتدة ما بين 1942 ونهاية الحرب العالميَّة الثانية في 1945، زهاء 85 ألف محارب إلى جانب الجنود الفرنسيّين حيث سقط خلال هذه الحرب 15 ألف قتيل في معارك شمال أفريقيا وأوروبا، كما ساهم المغرب مساهمة اقتصاديَّة مهمة في الحرب إلى جانب الحلفاء، فقد قام بتزويد فرنسا بالمنتجات الفلاحيَّة من البطاطس ومن عدد المواشي كوسيلة لسد حاجيَّاتها الأساسيَّة. وقد كان لمساهمة المغرب بشكل كبير لتلبية حاجيَّات فرنسا أثر سلبي على الاقتصاد المغربي حيث ارتفعت نسبة الصادرات واستنزفت الموارد المغربيَّة.
وأيضًا شارك عشرات الآلاف من الجزائريين والتونسيين والموريتانيين مع فرنسا، وكانت القيادات الفرنسيَّة تأمر بوضع المتطوعين المسلمين والمجندين المغاربيين في وجه أعداء فرنسا مباشرة، وتضع خلفهم فرنسيّين صدرت إليهم الأوامر بقتل كل من يتردد في الإقدام على الاشتباك مع أعداء فرنسا أو يجبن عن ملاقاة أولئك الأعداء، وسلبه شرف الجنديَّة، ووضع يافطة على صدره تقول: إنَّه قتل جبانًا، فكان كثير من أولئك الجنود رغم تطوع البعض منهم ينتهون إلى قتلى وضحايا بأيدي أعداء فرنسا أو بأيدي الفرنسيّين، ولا تزال المقابر وشواهد القبور التي تنتشر في جميع الساحات التي كانت ساحات قتال تشهد على تلك التضحيَّات الجسام التي قام بها أبناء البلدان المغاربيَّة.
كان يفترض بفرنسا ألا تعزل هؤلاء وأبناءهم وأحفادهم عن المجتمع الفرنسيّ، وأن تمنحهم كل الفرص التي تمنح للأبطال وأسرهم لكي يحيوا حياة كريمة طيبة، ويحاط أجدادهم بكل وسائل التقدير والاحترام، ويُدَرَّس تاريخهم لأبناء فرنسا كافَّة؛ ليعرفوا فضل المسلمين على فرنسا، وخدمات أولئك الذين يُطارد أحفادهم اليوم بمختلف التهم؛ ليذهبوا إلى ساحات الانتحار بعيدًا عن ديارهم وبلدانهم، أو يتحولون أعداء لبلد لم يعرف لآبائهم وأجدادهم حقوقهم، ولم يستطع أن يستوعبهم ويحتويهم، ويدمجهم بكل تقدير واحترام في مجتمعه.
إنَّنا لا نقول هذا من قبيل الدفاع عن أولئك الذين يقتلون الأبرياء من المدنيين، ويفجرون المباني، ويهلكون الحرث والنسل، بل نقولها لأولئك الذين كانت تصرفاتهم من أسباب تلك الاحتقانات التي غذت الفئات المتطرفة بالمتطوعين، والمقاتلين في صفوفهم، وتحويلهم من مواطنين هضمت حقوقهم فأصيبوا بالإحباط والاحتقان إلى مواطنين عاديين يحبون بلدانهم ومجتمعاتهم، إنَّهم بتلك التصرفات الطائشة جعلوا هؤلاء يسفهون أحلام أجدادهم وآباءهم الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا، وشاركوا في تحريرها واستقلالها، وتركوا أبناءهم لخلفاء أولئك الطلقاء يحرمونهم حقوقهم ويقللون من شأنهم، ويضايقونهم إلى درجة الانفجار، ويصبحون موضع اتهام بكل سيئة وبكل أمر يحدث لتلك البلاد رغم تاريخ آبائهم وأجدادهم الناصع في الدفاع عن الحريَّات، وعن السلام، وحماية الاستقلال.
من المعروف أنَّ أول من اعترف بالثورة الأمريكيَّة وشرعيَّتها وأنَّها ثورة تحرر من الاستعمار، كان سلطان مراكش المغربي، الذي لم يعد أحد يذكر صنيعه ذاك، ولا قيمة دعمه المعنوي في تلك المرحلة للثورة الأمريكيَّة، فماذا عليهم لو أنَّهم اعترفوا بفضل هؤلاء ومنحوهم حقوقهم كاملة، وأفسحوا قلوبهم وصدورهم لهؤلاء؟ ووضعوهم مواضعهم من تاريخ تلك البلدان وجغرافيَّتها؟ إنَّها لو فعلت وأقامت العدل والمساواة بين مواطنيها لتجنبت كثيًرا من الاحتقانات، ولما فتحت السبيل للمرضى وذوي العاهات أن ينفذوا إليهم، أمَّا اللجوء إلى الاتهامات قبل التحقيق وجعلها بمثابة فرصة للادينيين والملحدين فذلك أمر لن يخدم الأمن والاستقرار، ولا السلام، ولا الطمأنينة، لا في أوروبا ولا في غيرها.