أ.د/ طه جابر العلواني
في عام 1963م كنت في العراق، وفي الرابع عشر من رمضان الموافق للثامن من فبراير –آنذاك- قامت ثورة أو انقلاب قادها عبد السلام عارف وبعض البعثيين والقوميين ضد عبد الكريم قاسم، ونجحت في القبض عليه في السادس عشر من رمضان العاشر من فبراير/ شباط فقتلته، وكان عبد الكريم قاسم –آنذاك- محبوبًا لدى فقراء العراقيين، يقضي ساعات كثيرة من الليل في تفقد المخابز والأحياء الفقيرة، وكثيرًا ما يقدم هدايا وأموالًا للفقراء في الضواحي المحيطة ببغداد، وحين رأى هؤلاء انتصار خصوم عبد الكريم قاسم عليه، دفعتهم ردة الفعل إلى نوع أسود من الإحباط جعلهم يفطرون أيام رمضان تلك، ويتنكرون للدين، وترك كثير من الناس الصلاة، وصرنا نسمع لكثير من هؤلاء قولة: “كيف يتخلى الله عن هذا الزعيم لصالح أناس آخرين”.
وسادت موجة من التمرد على الدين، وصرنا نسمع ألفاظ الكفر من كثير من الناس الذين لم يكونوا فيما سبق إلا في صفوف المتدينين، وأخذنا نتفكر في تلك الحالة، ووجدنا القرآن المجيد يشير إلى شيء من جذور هذه الظاهرة بقوله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ (الواقعة:82)، وبعض العامَّة يربطون بين وفرة الرزق وقلة التدين، وفي المثل العامي العراقي يقولون: “اتصوم وتصلي رزقك يولي، تزني وتسكر رزقك يكتر”، وهي ترجمة لـ”تجعلون رزقكم أنكم تكذبون” بطريقة أخرى، وخلال المصائب التي تحيط بالعراقيين والسوريين واليمنيين والليبيين إلى آخر العرباويين، بدأت تنتشر ظواهر يعدّها البعض ظواهر إلحاد وكفر، ويخشى على مستقبل الدين منها، وسمعت شكوى من كثيرين عن المخاوف على مستقبل الدين في هذه البلدان نتيجة ضغوط الفتن والفقر واللجوء والتشرد والطغيان، والمشكلات التي تعيش فيها هذه البلدان، وأن يكون هذا الإلحاد أو التنكر للدين ظاهرة ثابتة تهدد المستقبل الديني، والذي أراه -والله أعلم- أنَّها ظاهرة عتاب من هذه الطبقات التي وجدت نفسها فجأة في دوامة من الفتن والمآسي والمصائب قلبت الموازين وغيَّرت الأوضاع رأسًا على عقب، وصار الإنسان يمسي غنيًا ويصبح فقيرًا يتسول، يمسي من منزله ويصبح خارج الحدود شهيدًا طريدًا وهكذا، فهل هي ظاهرة إلحاد كما يتصور البعض أو هي ظاهرة العتاب التي يلجأ العامي إليها عندما تفاجئه مصيبة، أو يداهمه ابتلاء، أو يفتك به اضطهاد، أو تحيط به فتن، لا يجد مخرجًا منها، يجد أطفاله بين يديه يتضورون جوعًا، يبحثون في القمامة عن لقمة عيش، يهيم ويهيمون معه بالبراري بحثًا عن أمن عَزَّ مناله، وهربًا من ظلم وطغيان وقصف ودك وهدم وحرق وما إلى ذلك.
يقول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “كاد الفقر أن يكون كفرًا”، أي أن يدفع إلى الكفر، وإذا سرنا مع هذا الأمر فنستطيع القول: “كادت الفتنة أن تكون كفرًا أو تجر إلى كفر، وكادت المحن أن تكون كفرًا”، وهكذا، إلى آخر القائمة التي لا تنتهي.
وقد سبق لي أن كتبت مقالة عن قطعة مما يكتبه الخطاطون تعلق على الجدران، وكان المألوف أن يكتب عليها: “ما بعد الضيق إلا الفرج”، لكنَّني وجدت هذه القطعة تبدَّل ما يكتب عليها حتى أصبح: “ما بعد الضيق إلا الخوازيق”، تعبيرًا عن يأس ذلك الآدمي من أن يصل إلى بر أمان، وتجاهلًا أو تناسيًا منه لأنَّ الله جعل العسر بين يسريين: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح:5-6)؛ لذلك وددت أن أُطمئن من لديه قلق بأنَّ الدين بخير، وأنَّه لن يكون الإلحاد أصيلًا، وأنَّ هذه الموجات هي سُحب سوداء، لا استقرار لها ولا بقاء، وعندما يعود الأمن والطمأنينة وتنتهي آثار الفتن والمصائب سوف يتنفس الناس الصعداء، ويعلمون أنَّ الله هو الحق: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الحج:6)، وأنَّه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق: ﴿.. مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ (الروم:8)، وأنَّ دولة الباطل لابد أن تزول، وأنَّ الحق والخير والجمال الأصل، وأنَّ الله (جلَّ شأنه) هو العدل، والحق، وأقام كل شيء على ذلك، اشتدي أزمة تنفرجي، وأهل الإيمان يهديهم ربهم بإيمانهم، لا ينال منهم اليأس، ولا يصيبهم القنوط، ولا يجاوزون حدود الأدب مع الله؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ دولة الباطل ساعة، وانتصار الحق والعدل والقيم هو الأصل حتى قيام الساعة.
اللهم اكشف الغُمة عن سائر أقطار الأمَّة.