أ.د/ طه جابر العلواني
من صفات هذا القرآن الكريم قدرته الرهيبة على الاستيعاب، والتجاوز، وقد استوعب القرآن الكريم لسان العرب بشكل من الصعب أن يوصف، لكن من آتاه الله شيئًا من التذوق للسان القرآن المجيد وشيئًا من المعرفة بلسان العرب يستطيع أن يدرك لماذا كان القرآن المجيد يميِّز نفسه دائمًا بالإبانة، فلا يطلق على لسانه لسانًا عربيًا إلا ويصفه بالبيان، والوضوح، والظهور؛ لينبه إلى مزاياه، وليشير إلى أنَّ نسبته إلى لسان العرب هي نسبة الاستيعاب والتجاوز، فهو مستوعب للسان العرب، بكل مادته، ومتجاوز لها، حتى لتبدو وكأنَّها حرف في جملته، وجانب في ركن من أركانه، وجزء من ذلك المركب العجيب الذي تحدى الله الخلق كافَّة أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:88)، وأعلن عن عجزهم عن ذلك بعد وجود الدواعي الكثيرة وانتفاء الصوارف.
وقد اخترت كلمة الكفر التي نسمع لغطًا كثيرًا هذه الأيام حولها، والتي عدَّها خصوم لسان القرآن من الألفاظ المشتملة على التحريض، والتحيز ضد ومع، بل من ألفاظ التوحش في معاملة الآخرين، وحاولت تبين ما في هذه اللفظة العجيبة التي اشتملت في القرآن الكريم على معاني هائلة متسعة، وكانت في لسان العرب تبدو وكأنَّها كائن صغير لا يكاد يلحظ، فالعرب بألسنتهم المختلفة القرشي والهذلي والتميمي والقيسي والنزاري ومن إليهم قد استعملوها بديلًا عن كلمة ستر، فعل ماض، يفيد التغطية، فإذا غطى الإنسان شيئًا فهو بالخيار أن يقول كفرته أو سترته، والغريب أنَّ هذه اللفظة حين نقدم عين الفعل الذي هو الفاء تصبح دالة على شيء لا علاقة له بالستر والتغطية إلا من بعيد، فإنَّها تكون فكَّر، والتفكير عمل ذهني، والكفر بمعنى الستر عمل حسي، فاللفظة الساذجة البسيطة حين استعملها القرآن استوعب معنى الستر فيها، ومنحها مساحة واسعة للتعبير عن معان ما كان لها أن تعبر عنها لو بقيت حبيسة اللسان العربي، الذي حصرها في دائرة الستر.
فقد يقول لليل: إنَّه كافر، أي ساتر للأشياء، وقد يقول للزارع: إنَّه ساتر أي ساتر للبذرة، لكن القرآن يستخدمها فيخرج بها إلى تلك الرحاب الواسعة فيستعملها في كفر النعمة أو كفرانها، إذا لم يشكرها المنعم عليه، فيقول:﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾(الأنبياء:94)، فالأعمال الصالحة لا يمكن سترها، أو كفرانها، وكذلك النعم.
ويستخدم الكفران والكفور في جحود النعم، وإنكارها، وعدم إعطائها حقها من الشكر، ولذلك يقول: ﴿.. قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل:40)، فهو هنا مقابل الشكر لله (جل شأنه)، ويقول (جل شأنه): ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة:152)، ويقول فرعون لموسى: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ (الشعراء:19)، أي تحريت كفران نعمتي، ويقول (جل شأنه): ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم:7)، أي كفر النعمة، ثم يستخدمه في الجحود؛ لأنَّ الكفران لا يتوقف عند الستر، أي التغطية على النعمة، وعدم الإعلان عن شكرها، بل ينتقل إلى الجحود جحود النعمة، ولذلك يقول (جل شأنه) لبني إسرائيل: ﴿.. وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ (البقرة:41)، أي جاحد له، ويصف الإنسان كله بقوله (جل شأنه): ﴿.. إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ﴾ (الحج:66)، وكأنَّه يريد بذلك المبالغة في كفر النعمة، ويقول: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ (سبأ:17)، ويقول: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾ (الزخرف:15)، تعبير عن استعداده لكفران النعم الإلهيَّة، وعدم شكرها، ويقول (جل شأنه): ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ (عبس:17)، ويقول: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان:3)، فهناك من يسلك سبيل الشكر، ومن يسلك سبيل الكفر، ويجعله مقابل في قوله: ﴿.. اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ:13)، فالناس صنفان شكور وكفور، ثم لا يقف الأمر عند ذلك، وذلك حين يستعمل في أعلى أنواع الكفر، وهو جحود الألوهيَّة والربوبيَّة والنبوة والشريعة، والكفر بالدين: ﴿.. فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ (الفرقان:50)، ﴿.. فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا﴾ (الإسراء:99)، ﴿.. وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ .. ﴾ (البقرة:102)، ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النحل:106)، ﴿.. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:256)، ﴿.. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر:3)، ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ (عبس:42).
وهنا يفصل القرآن المجيد بين كفر يخرج من الملة، ويدخل الناس النار، وكفر أضعف وأقل منه لا يخرج من الملة، وإن كان سيئًا؛ لأنَّه يتعلق بشكر النعمة، وعدم جحودها، والثناء عليها، ووضعها مواضعها، وعدم التورط بجحودها، والمتتبع لآيات الكتاب العزيز يجد شبكة من المعاني ترتبط بهذا المفهوم، شبكة هائلة، تجمع من الصفات ما ليس من السهل حصره؛ ولذلك وددنا التنبيه إلى عبقريَّة ألفاظ القرآن الكريم ومفاهيميتها، واستيعابها للسان العرب؛ ولذلك فإنَّ من لا يعرف الفرق أو الفروق الدقيقة بين لسان العرب ولسان القرآن ولا يستطيع أن يدرك عمليَّات الاستيعاب والتجاوز في لسان القرآن فإنَّ ذلك قد يقوده إلى السقوط في معان تناقض مقاصد القرآن وغاياته.
إنَّ كثيرًا ممن يتصدون في أيامنا هذه للدعوة ويتحدثون عنها قد يقعون في هذا الإشكال، ويتوهمون هذه الألفاظ ويخطئون في فهمها، فقد يخلط بين كفر النعم وبين الكفر المخرج من الملة، وقد يضع كل منهما في موقع الآخر، وقد يخرج من الملة من لا يخرجه ذلك الفعل منها؛ ولذلك فإنَّ الخبرة بلسان القرآن ومعرفة معانيه ضرورة حتميَّة للدعاة ولحملة الخطاب القرآني، لئلا يخطئ الإنسان في أمور كهذه لا يقبل فيها الخطأ، فحين يوصف إنسان بالكفر لابد أن نعرف أي نوع من الكفر يراد أن يوصم به، فليس كل كفر مخرجًا من الملة، ومبيحًا لدم الإنسان، أو حريَّته، ولا مسوغًا لمعاقبته، والله أعلم.