أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، نستغفره، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم النبيين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
هناك ظاهرة شائعة في الأفراد، وفي الشعوب، في الأحزاب، وفي الجماعات، وفي غيرها، كنَّا نظن أنَّها ظاهرة خاصَّة بالجاهليَّة التي كانت تعظم الآباء، دون نظر لما إذا كانوا على صواب أو على خطأ، يقول شاعرهم:
وننصر مولانا ونعلم أنَّه *** كما الناس مجروم عليه وجارم.
ولكن تبيَّن أنَّها ظاهرة عامَّة شاملة، لا يستثنى منها جيل، ولا فرد، ولا جماعة، ولا شعب، أطلقت عليها الحنين إلى الماضي، حنينًا قد يزكي ذلك الماضي، وينفي عنه الأخطاء، ويبرئه من سائر الاتهامات، ويكون الإنسان أو الشعب أو الأمَّة التي تفعل ذلك قد قالت في ذلك الإنسان كل ما قاله مالك في الخمر في حياته، لكنَّه حين يموت أو ينتهي عهده ويأتي عهد جديد فإنَّ الناس كثيرًا ما يغيِّرون مواقفهم، ويقولون: رحم الله من سبق، كان أفضل بالنسبة لهذا الذي نراه اليوم. فتحولت البارحة أو الأمس في آدابنا وثقافتنا إلى أنَّها الأفضل، وهي نظرة تشد الإنسان إلى الماضي، لا إلى المستقبل، وكثيرًا ما يقول البعض:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
وقال الآخر:
والمرء ما دام حيًا يستهان به *** ويعظم الرزء فيه حين يفتقد.
وهكذا تتحول حياة الإنسان في نظر هؤلاء إلى حاجب يحجب فضائله، ويصبح الموت والانتماء إلى الماضي بمثابة إزالة لذلك الحاجز، وتقول الصوفية: “المعاصرة حجاب”، فمعاصروا العالم أو الشيخ أو الحاكم أو الزعيم قد لا يرون فضائله، وقد لا يبدو لهم منه إلا مآخذهم عليه، فإذا انتقل إلى رحمة ربه؛ جاؤوا يترحمون عليه، ويذكرون له من الفضائل ما لو ذكروا بعضه له في حياته لربما اتسع أجله، وسعد بما يسمع، أما وقد مات فلم يعد منافسًا لأحد، ولا يشكِّل تهديدًا على أحد، حينها لا ضير أن يذكروه بخير؛ لأنَّه لم يعد في الأحياء رقمًا يذكر، وإن كان البعض من هؤلاء يخافهم الجبناء في الموت وفي الحياة.
يذكر أحدهم نكتة، أنَّه في فصل ربيع دخل رجل إلى مدينة تكريت، وكان هواءها آنذاك عليلًا منعشًا، وجوها جميلًا، فقال: “هذا هواء جميل يرد الروح”، فقال له صاحبه: اسكت اسكت. قال: ولم؟ قال: ألا تدري أنَّنا قريبون من قبر صدام، فماذا نفعل لو سمع وردت روحه، وعاد إلينا، وأنت تعرف كم عانينا منه.
وهكذا نجد أنَّ ظاهرة ذكر الماضي والترحم عليه، والأسف على انقضائه واليأس من عودته تجعله مطلبًا في بعض الأحيان، فما سبب ذلك؟
إنَّ سببه شيء من فطرة الإنسان وطباعه يجعله هكذا يحب العاجلة ويذر الآخرة، ويحفل بالماضي؛ لأنَّه عرفه، ويخاف المستقبل؛ لأنَّه لم يعرفه بعد، أذكر نكتة تروى أنَّ هناك نباش للقبور كان في مدينة من المدن، وكان يراقب المدافن فكلما دفن ميت جديد انتظر حتى إذا راح مشيعوه وجاء الليل فهرع إلى قبره وأخذ كفنه الجديد وانصرف، وكان يعيش على ذلك فكان الناس يلعنونه، ويلعنون هذا الذي جعل رزقه مرتبطًا بالاعتداء على الموتى، وانتهاك حرماتهم وهم في أول ليلة من ليال الآخرة، فكأنَّه صار جزءً من عمليَّات عذاب القبر، يلاحق الميت من أهل الدنيا، وكان لنباش القبور ولد يحزنه دائمًا أن يسمع كل يوم سيلًا من اللعنات يصب على رأس أبيه، فأقسم أن يجعل الناس يترحمون على أبيه بدلًا من أن يلعنوه، فلما مات أبوه، وفرغ من دفنه، عاد كئيبًا حزينًا؛ لأنَّه لم يعزه أحد، ولم يشاركه أحد في تشييع أبيه النباش، أو قراءة آية عليه، أو إسقاط دمعة على قبره، فقال في نفسه: سأجعلكم تندمون على ذلك، فصار بعد أن فرغ من فترة العزاء والحزن على أبيه يذهب إلى القبور كما كان أبوه يفعل، وينبش القبر، ويأخذ الكفن، ويفتح فم الجثة فإذا وجد سنًا من ذهب أخذه بعد أن يحطم فك الضحيَّة، ثم يأتي بخازوق يغرسه في جوف القبر ويجلس الميت عليه، فيظهر وكأنَّه جالس على كرسي، ويتركه على هذه الحالة وينصرف، وإذا بالناس يبدأون بالترحم على النباش الأول، الذي كان ينبش ويستولي على الأكفان، ولكنَّه لا يضع الجثة على خوازيق. وهكذا صدق الولد في نبوءته، وجعل القوم يترحمون على أبيه.
هذه الظاهرة نجدها عند شعوب كثيرة، ولقد عاصرت خلال عمري هذا عددًا من ملوك العراق الثلاثة، خاصَّة الملك غازي الأول ملك العراق، ثم ولده فيصل الثاني، عاصرت أباه وأنا طفل وعاصرته وأنا شاب، ثم عاصرت حكم عبد الكريم قاسم، ثم عبد السلام عارف، ثم عبد الرحمن عارف، ثم أحمد حسن البكر، وصدام، وبقايا حزب البعث، ووجدت الظاهرة قائمة، وكلما انقضى عهد وجاء عهد آخر بكى الناس أو تباكوا على العهد المنقضي.
حتى الاحتلال سمعت من يدافع عنه، ويبكي عليه، فكان لدينا بقال من عامَّة الناس شديد الدفاع عن بريطانيا التي احتلت العراق، ويجادل وبمنتهى الثقة والحدة عن جيوش بريطانيا المحتلة، فقيول على سبيل المثال: أسألكم بالله، إذا ذهبنا الآن إلى مركز الشرطة ورأينا المجرمين الذين ارتكبوا جرائم سرقة أو قتل أو اعتداء أو ما إلى ذلك، فهل سنجدهم منَّا نحن العراقيين أو نجدهم من البريطانين؟ وطبعا يكون الجواب دائمًا: إنَّ هؤلاء من العراقيين، فيقول: أرأيتم، إذًا أولئك مهذبون.
وأذكر أنَّني اعتقلت في 1959م في موقع واحد مع بعض شيوخ اليزيديين، وكان يزعجهم جدًا أن يسمعوا مني حين أقيم الصلاة: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، فيجادلونني بعد الفراغ بشكل جادلم أكن ألقي له بالًا في بادئ الأمر، لكنَّني بدأت أتفهم دوافعهم، فاتجاههم الديني يلقب الشيطان بلقب: “طاووس ملك”، ويرى اليزيديون أنَّ أفضل وسيلة للتخلُّص من عداوة الشيطان للإنسان في أن يسترضي الإنسان الشيطان، وأن لا يزعجه بالاستعاذه منه، بل يكف عن ذلك ويذكره بخير، وينفي عنه صفة الشر والوسوسة، فذلك سيجعل الشيطان يقدر له ذلك، ويحترم موقفه هذا، ويكف عن الوسوسة له، أو محاولة إغوائه، أو إيذائه؛ ولذلك فإنَّهم يريدون مني أن لا أستعيذ بالله منه، وطلبوا مني الالتزام بذلك، وإذا كان ولابد فينبغي أن لا أجهر بها، فذلك يزعجهم تمامًا، ويعتبر بمثابة التحرش الديني بهم.
واتفقنا على رمز بيننا أنَّني حين أقترب من شيء فيه ما يسيء إلى الشيطان في الاستعاذه أو اللعنة يقولون لي قبل الجهر بذلك: “لا تكسر الجرة”، فأفهم أنَّني قاربت أن أكسر الجرة بذكر الشيطان بسوء، وتتكرر من تلك الشخصيَّات ذلك، وصار بيننا نوع من المسالمة والتسامح، وأخذت أذكِّرهم في بعض الأحيان بجذورهم الإسلاميَّة، خاصَّة أنَّهم يعظمون يزيدًا، وينتشر بينهم اسم معاية ويزيد بشكل كبير، ولكن لم يكن ذلك ينفع المهم ألا يقرب أي منا الشيطان أو يلعنه أو يستعيذ بالله منه. ومرت تلك الأيام وجاءت الأخبار بما حدث لليزيديين في هذه العهود من تاريخ العراق.
فظاهرة الحنين إلى الماضي ظاهرة متأصلة، وهي سلبيَّة إذا لم نخرج منها بدروس الماضي وعبره، ونتجنب الوقوع بمثلها في الحاضر والمستقبل، وإلا فسنتحول إلى ماضويين، نقدس الماضي ونعظمه؛ لأنَّه ماض فقط، ونخشى المستقبل ونتجهمه، وحين نشعر بالضيق نتبرم بالحاضر، فبدلًا من أن نجعل ذلك دافعًا لتلافي أخطاء الماضي والحاضر والتركيز على بناء مستقبل أفضل خال من مشكلات الماضي والحاضر؛ ننكفئ إلى الماضي لنحيا فيه، ونمنح أنفسنا ساعات خدر موهوم لنستمتع بها فرارًا مما نعاني منه.
فالعراقيُّون اليوم يحنون إلى الماضي، ولا شك أنَّ وطأة الأحداث هي التي جعلتهم يحنون إلى ذلك الماضي أيًّا كان، ويرونه أفضل من الحاضر والمستقبل مهما بغى صانعوه ومهما طغوا وبغوا، وكان المفروض أن يربطوا بين المطر الذي يمطرون به اليوم، والغيوم التي تجمعت في الماضي، ويعرفون أنَّه لولا الماضي وأخطائه وما كان فيه لما كان الحاضر بهذا السوء، ولا المستقبل شيئًا مخيفًا.
إنَّ بعض البيوت العراقيَّة لم تعد تضع في أماكن الاستقبال -إذا وجد لدى الناس بيت اليوم فيه مكان للاستقبال-القطعة المشهورة كمنوذج للخط الجميل: “ما بعد الضيق إلا الفرج”، صاروا يضعون: “ما بعد الضيق إلا الخوازيق”، فانظر كيف يصادر الأمل، ويحبط الناس، ويهربون إلى الماضي، طلبًا لتناسي الحاضر السخيف، والمستقبل المخيف، وليس لها من دون الله كاشفة.