Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

أول مؤسس للعنف

أ.د/ طه جابر العلواني

زارني أحد الصحفيين، وفرض نفسه عليّ دون رغبة مني، وقبلت أن آراه؛ لأنه أكدّ أنه سيجري معي حوارًا حول أمور سهلة ميسرة، ليست من تلك الأمور الخلافيّة، أو التي يمكن أن تزعج أحدًا من الناس، لكنه فاجأني بعد أن صار في منـزلي وجهًا لوجه بتغيير الأسئلة كلها، فبَعْدَ اللَّتَيَّا والتي، وافقت على أن يكون لي حق الإمساك عن الإجابة إذا لم يروق لي السؤال.

انطلق الرجل، وقال: أريد أن أسألك عن أول من أسس للعنف في الإسلام؟ وكيف ظهر؟ ومتى؟ وما هي أعمال العنف الأولى التي مورست؟، فضحكت، وقلت له: أن العنف أقدم من الإسلام، وقد بدأ قبله بكثير جدًا، فإنّ العنف -فيما أعلم- بدأه ابليس الذي يعدّ عندي المؤسس الأول له، وذلك عندما أدخل الله (جلًّ شأنّه) آدم الجنة وزوجه، وتغشاها أول مرة في الجنة، وحملت، ووضعت فيها، ثم دخل الشيطان “ابليس”، فأزلهما “أي آدم وحواء معًا” عن أمر الله، والالتزام به، وذلاهما بغرور، حتى أكلا من الشجرة، ولما حدث ذلك، وبدت لهما سوآتهما، وأدركا الخطأ الذي ارتكباه في طاعة الشيطان، وعدم الالتزام بتحذير الله لهما من الوقوع في ذلك الخطأ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة إن الشيطان لكما عدو مبين، فعصيتماني واطعتماه حتى أورداكما هذا المورد. ﴿ فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾(الأعراف 22).

الشيطان دفعه غروره وكبرياءه إلى الاستعداء على آدم، والشعور بالاستعلاء  عليه، فرفض أنّ يسجد لبديع خلق الله، والخضوع لتدبيره وتقديره، وتمرد، وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (الأعراف:12)، وحين طرده الله (جلّ شأنّه) من جنته، ومن رحمته، دفعه ذلك إلى الإصرار على مضاعفة جهوده في إغواء بني آدم وجنوده، لكن الله لطف بآدم ولقنّه كلمات التوبة، فتاب وقبل الله منه، وأمَّا ابليس فأصر على معصيته، وخروجه عن طاعة ربه، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن ْرُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *  إِلَّا  إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾[i] (الحجر 33:28).

فنحن نرى كيف أسس اللعين الإرهابيّ الأول، وحامل العنف الأول، لثقافة العداوة، والبغضاء، والحسد، والاستعلاء، والإضلال، والإغواء، وأعطى لنفسه الحق بأن يستعمل كل الوسائل دون استثناء؛ لتحقيق تلك الأهداف الخبيثة، وفي الوقت نفسه أسس آدم ثقافة التوبة، والرجوع عن الخطأ، والاستعداد للعودة إلى طريق الصلاح، بعد أن غُرر به، وانقاد إلى طريق الغواية، فاستحق ابليس الطرد النهائيّ، فلا توبة، ولا عفو، وميز الله (جلّ شأنّه) عليه آدم بتعليمه الأسماء، ومنحه الحرية، وأمانة الاختيار، والقدرة على التوبة، والرجوع عن الذنب، والانحراف مرة بعد مرة، وبدأ ابليس المؤسس للعنف ممارسة نشاطه الخبيث، فـانتقل من آدم وحواء إلى أبنائهما، وهنا لا يدخل القرآن المجيد بتفاصيل يمكن أن تشغل الإنسان القارئ المتدبر عن موطن العبرة في الصورة، فقال (جلّ شأنّه) ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة:27).

  أرأيت كيف استطاع الإرهابي الأول أن يوقع الفتنة بين ابني آدم عن طريق ربط الحدث بالتعبد، ففي القصة درس خطير يبين كيف يستطيع شيخ الإرهابيين “ابليس” أن يحول العبادة التي يفترض أنها ترقق القلب، وتهيئه لحب الله، وحسن عبادته، وطاعته، فإذا به يحولها بتحويل تلك الأمور الطبيعيّة في الإنسان إلى آلات إجرام.

فهل عرفت الآن من أسس للعنف والإرهاب؟ قال: ولكن هذه إحالة بعيدة، أنا أسألك عن الإرهاب المعاصر والعنف المعاصر، هذا الذي نحياه ونعيشه، قلت له: وقد أخبرتك، ودللتك على المجرم الحقيقيّ الذي يعتبر مصدر كل هذه الشرور وأساسها، والمؤسس لثقافة العنف والإرهاب، قال الرجل: إذا سلمت لك بما تقول فذلك يعني ألا أمل في توقف العنف والإرهاب، ما دام ابليس موجودًا وأبناءه الشياطين ينتشرون في كل مكان ،قلت له: أنّ الله (تبارك وتعالى) الذي علم آدم التوبة، وتاب عليه، وهداه، لم يتركه وحده، بل أنزل عليه الكتب، وأرسل إليه الرسل؛ ليعينوه، ويساعدوه، فإذا أحسن الإنسان فهم رسالات الأنبياء، والمرسلين، واستخلاص العبر والدروس منها، فإنّه يستطيع بعون الله أن يهزم ابليس، وثقافة الإرهاب، والعنف، والقسوة، وابليس ليس وحده بل لديه أعوان من الإنس ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام: 112).

إذًا لدينا حملة للإرهاب ولثقافة العنف من شياطين الجن وشياطين الإنس، لكن المؤسس والزعيم الأكبر للإرهابيين وأصحاب ثقافة العنف، إنما هو ابليس-لعنه الله –﴿ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأََتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾(النساء:118)، فقلتُ له: إمَّا أن تصدق رب العالمين، العليم بالخلق جميعًا، وهذا ما أخبرنا به، وإمَّا أن تصدق الآخرين، فلا يمكن أن نوجد أي وجه مقارنة بين أخبارهم وخبر الله (جلّ شأنّه).

 فاحرص الحرص كله على أن تفهم ما قلته لك، وتعرف هذا المؤسس الخطير للإرهاب والإرهابيين، أمّا ثقافة السلام، والبعد عن العنف، فهي التي ينشرها على الدوام رسل الله، فرسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيه ربنا: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ويهديكم سبل السلام، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة: 15-16)،فالسلام هو الأمن كله، تجده في مناهج الأنبياء وطرقهم، ودعواتهم، وسيرهم، وقصصهم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نادى في الناس: ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (البقرة:208).

أنّ مناهج الأنبياء تقوم على نشر التوحيد أولا، والتوحيد يعني: ألا نتخذ بعضنا بعضًا أرباب من دون الله، فربنا واحد، وكلنا من آدم، وآدم من تراب. فلا ينبغي أن يكون بيننا ممن يريد علوًا في الأرض، ولا فسادًا، ولا ينبغي أن يكون بيننا مستبدون، ولا مستعبدون للبشر، أولئك الذي قال (جلّ شأنّه) فيهم﴿ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾(البقرة:205).  وإذا رجعنا إلى قاعدة التوحيد، سنخلص من كل هذه الأمراض: البغضاء، والتعالي، وثقافة العنف، والإرهاب.

 والمقصد والهدف الثاني لمنهج الأنبياء: تزكية النفس، وتطهير عقولهم، وقلوبهم، وعلومهم من كل ما يمكن أن يساعد على ظهور، أو استقواء ثقافة التسديّة، وإذا جففت مصادر الانحراف، والتحاسد، والتباغض، فلا شك أنه سيستبدلون ذلك كله، بثقافة التقوى الشاملة.

والمقصد الثالث: إعمار الكون فلا تخريب فيه، وذلك يعني تحريم أسلحة الدمار الشامل، وتحريم صنعها، وبيعها، وإنتاجها، والإتجار فيها، فضلا عن استعمالها، وتدمير الحرث والنسل بها، وحماية الأرض، والذين يعيشون على الأرض من التعرض للهلاك بتلك الأسلحة المدمرة التي لا يمكن لإنسان يؤمن بالله واليوم الاخر أن يسهم في تداولها، واستعمالها، وتخريب العمران بها، وكل هذا الذي يحدث في سائر البلاد التي نعرفها وهو انحراف عن منهج الأنبياء والمرسلين، ومتابعة لمنهج الشيطان، فنحن نرى أنَّه لم يسلم أحد من البشر سواء منهم من يقاتل، أو يعتزل القتال من شرور تلك الأسلحة التي لا تستثني أحدًا، ولا طائرًا في جو السماء، ولا حيوان يعيش على الأرض، فالكل عرضة للدمار.

 ومنهج الأنبياء أسس لإقامة أمّة واحدة، تنهى عن الفساد في الأرض، وتجنب الطاقات البشريّة الخيرة كلها؛ لمقاومة الإرهاب، وزعيم الإرهابيين “ابليس” في كل خططه وبرامجه، ثم يؤسس منهج الأنبياء في تلك الأمّة الموحدة، مؤسسة تدعو إلى الخير، وتنهى عن الشر، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؛ لكي تُمكن لمشروع النبوة، وتجعله أقدر على مقاومة الشيطان مؤسس الارهاب وزعيمه، ومقاومة مشروعاته كلها، فلعلك قد فهمت، ولعلك تفهم غيرك.

قال الصحفي: سأحاول أن أقنع رئيس التحرير بنشر حوارك هذا، ولكني لا أظنه سيقتنع؛ لأنه سيقول: جئتني بحوار دينيّ، وليس حوارًا صحفيًا سياسيًا يعالج مشكلات العصر.

قلت له: إذا كان رئيس تحريرك من الذين يفقهون فلن يقول لك ذلك، وإذا كان من الذين لا يفقهون، فيفترض ألا يكون في موقعه ذاك، أمّا أنا فقلت لك ما عندي، ونصحت لكم مع علمي بأنكم لا تحبون الناصحين، وشكرًا.

[i] (واتل كذلك ما ورد في سورة البقرة وغيرها).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *