Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

العراق والطائفية

أ.د/ طه جابر العلواني

ما تذكرت العراق إلا وتبادرت إلى ذهني آيتان من سورة سبأ، من قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (سبأ:15-21 وأتذكر معها أنَّ الجينرال/ عبد الكريم قاسم، زعيم أول انقلاب ناجح في ذلك البلد كان يكثر في خطبه الطويلة من ترديد الآيتين الأولين، وكان يعني بها التوكيد على الإقليميَّة العراقيَّة، وعدم التفريط باستقلال العراق في إطار ما كان يُعرف بالجمهوريَّة العربيَّة المتحدة، فقد كان عبد الكريم قاسم يرى أنَّ الاتجاهات القوميَّة للعراقيين تسعى للتنازل عن استقلال العراق والتفريط بوحدته الوطنية لصالح الوحدة العربيَّة التي كان يعارضها بشدة، فمنذ ذلك التاريخ بل وقبله قد فتح الله على العراقيين أبواب نعم كثيرة، ففي العراق البترول، والغاز، والكبريت، والفوسفات، واليورانيوم، ونماذج من جميع معادن الأرض، وفي الوقت نفسه تنعم بتسعة أنهار، واثنين وثلاثين مليون نخلة سنة 1958م، تضم جميع أنواع التمور، وكان العراق المصدر الأول لها، وفيه جميع الخضر والفواكه والمزروعات، ولديه في كلها فائض يصدرها إلى خارجه بعد أن يستوفي الداخل احتياجاته.

وكانت حكومات العهد الملكي تحرص على إعمار العراق، وقررت رصد خمس وسبعين في المائة من موارد البترول لإعمار العراق، وقد بدأت خطة إعمار العراق على ذلك العهد، وبدأت مظاهر ذلك الإعمار تظهر، وكان المنتظر أن تشكر النعم لا تبطر، وأن يحمد الله عليها، وأن يعود العراق على أهله وجيرانه ببعض تلك النعم، لكن الذي حدث غير ذلك، على أنَّ المعروف أنَّ العراقيين والحق يقال كانوا أكثر شعوب المنطقة اهتمامًا بإخوانهم وجيرانهم، ولا يستخسرون شيئًا يهدى إلى جيرانهم وإخوانهم في العروبة والإسلام من بترول أو تمور أو أموال، ومعروف أنَّ العراقي بطبيعته تشغله هموم العرب والمسلمين أكثر مما تشغله أحيانًا همومه الخاصَّة، قال ذلك كل من عرف العراقيين وزار العراق وخالطهم في العهد الملكي، وشهد ذلك بنفسه، ومع ذلك بقي جانب التقصير والتفريط في جنب الله كبيرًا وواسعًا ومنتشرًا، فانتشرت أفكار شيوعيَّة ويساريَّة وبعثيَّة وليبراليَّة وما إليها، أمَّا الإسلاميَّة فبقيت محصورة في فئتين: الإخوان المسلمون، والحزب الإسلامي للسنَّة، وحزب الدعوة للشيعة، وكان قصارى ما يفعل في بلد خرَّج أئمة أهل السنة الثلاثة أبا حنيفة وأحمد والشافعي، وكانت فيه مدارس الإسلام المنهجيَّة الفلسفيَّة المتعمقة تتمثل في مدارس أولئك الأئمة كافَّة، بل حتى اللغة العربيَّة كانت لها مدرستان، مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة، وبعد كل ذلك يجلس رئيس محكمة الشعب فاضل عباس المهداوي ليفخر في أحاديث مذاعة ومتلفزة بأنَّ العراقيين يكثرون من شرب الخمر؛ لأنَّهم يعتبرونها حليب السباع، وكان يعاير المصريين والإيرانيين بتعاطي الحشيش الذي لا علاقة له بالشجاعة بل هو من المفترات، وكانت الهتافات تتعالى في محكمة هذا المهداوي بالدعوة إلى الإعدام وسحل الناس وسحقهم، وبدأت النعم تتراجع، والمشاكل تتعاظم، والوحدة الوطنيَّة الهشة تظهر فيها الشروخ التي أدت فيما بعد إلى كل ذلك التفكك، لم يلتفت أحد إلا القلائل الذين لا تُسمع أصواتهم ولا كلماتهم إلى أنَّ الانحراف عن سبيل الله وعن صراطه المستقيم وكفر النعمة وعدم استعمالها فيما خلقت له قد أدى إلى كل تلك المشاكل، وأنَّ الناس مطالبون بالعودة إلى الله (جل شأنه) والرجوع إلى كنفه (سبحانه وتعالى)، والتوبة عما سقط الناس فيه، بل ظل الناس يزيدون عبر العصور في الانحرافات، وصار عندهم الحكم مغنمًا يتنافسون عليه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “إذا فعلتْ أمَّتي خمسَ عشرةَ خَصلةً فقد حلَّ بها البلاءُ. قيل: وما هي يا رسولَ اللهِ؟ قال: إذا كان المغنَمُ دُوَلًا، وإذا كانت الأمانةُ مَغنمًا، والزَّكاةُ مَغرمًا، وأطاع الرَّجلُ زوجتَه، وعقَّ أمَّه، وبرَّ صديقَه، وجفا أباه، وارتفعت الأصواتُ في المساجدِ، وكان زعيمُ القومِ أرذلَهم، وأُكرِم الرَّجلُ مخافةَ شرِّه، وشُرِبتِ الخمرُ، ولُبِس الحريرُ، واتُّخِذتِ القَيناتُ والمعازفُ، ولعن آخرُ هذه الأمَّةِ أوَّلَها، فليرتقِبوا عند ذلك ريحًا حمراءَ، أو خسفًا، أو مسخًا”[1].

وحين أصبحت الأمور بهذا الشكل حق على بعضهم القول، فصار المعروف عندهم منكرًا، والمنكر معروفًا، ولم نستطع أن نذكر بالله ونرجع إليه، ونتخلَّص من تلك الرذائل، فبدأت أحوالنا تنزل من سيئ إلى أسوأ، وكلما هلك طاغية قام طاغية آخر، وكلما هلك مستبد وصار لدى الناس أمل بأنَّ عصر الاستبداد قد ولى عاد بشكل دكتاتور آخر ومستبد آخر.

 أمَّا الطائفيَّة: فقد ورد في مقولة شهيرة للملك فيصل الأول 1921، أول ملك بعد ثورة العشرين: “أقول وقلبي ملآن أسىً … إنَّه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشريَّة خياليَّة، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينيَّة، لا تجمع بينهم جامعة، سمَّاعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائمًا للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكِّل شعبًا نهذبه وندرِّبه ونعلِّمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضًا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل.. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي”.

  هذا تقييم ملك حكم العراق ما يقرب من اثنتي عشرة سنة، والكفر هنا ليس بالكفر المخرج من الملة، بل المراد بالكفر ستر النعمة، فهو كفران بها، والله أعلم. كانت النزعات الطائفيَّة والعنصريَّة في حاجة إلى من يعالجها، وكانت الأجيال العراقيَّة في حاجة إلى من يعيد تأهيلها ولكن قدر الله، وما شاء فعل.

[1] الراوي: علي بن أبي طالب المحدث: المنذري، المصدر: الترغيب والترهيب، الصفحة أو الرقم: 4/75

خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *