Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

العراقيُّون وحكَّامهم الحلقة الثانية

أ.د/ طه جابر العلواني

المجتمع العراقي حين قام فيه انقلاب 14 تموز 1958 كان أشبه بالمجتمع الجماهيري، كما رسم معالمه وليم كول هاوزر في كتابه (السياسة في المجتمع الجماهيري)، فالحركات السياسيَّة في المجتمع الجماهيري سواء أكانت حركات معارضة أو موالاة تقوم على الاستقطاب الجماهيري، والاستقطاب الجماهيري يعتمد أكثر ما يعتمد على العقائد الشاملة أو ما سمي ب “النظام العقائدي الشمولي”، وطبيعة هذه الاتجاهات تفرز حركات فاشية ونازية كما حدث في إيطاليا وألمانيا، في إيطاليا موسوليني، وهتلر في ألمانيا، ذلك لأنَّ السمات المرتبطة بالمجتمع المعاصر تغلب عليها معطيات التكنولوجيا الحديثة، والسعي إلى امتلاكها، وإيجاد حداثة قائمة عليها، فيكون لها تأثيرات شديدة على النظم الاجتماعيَّة السائدة التي تبدأ اتجاهات الشك تنخر فيها وتدفعها إلى التشكك في صلاحية أي شيء، ومنه التشكك المطلق في النموذج الديمقراطي وقدرته على مواجهة حاجات المجتمع؛ ولذلك فإنَّ من المتعذر إقناع الشعوب ذات المجتمعات الجماهيريَّة بالديمقراطيَّة وبالنظم الليبراليَّة التي تقوم عليها، وإذا كانت الديمقراطيَّة موجودة في تلك البلاد فإنَّها سرعان ما تفقد بريقها لدى المواطنين الذين يثبت لهم في كل يوم عجزها عن الاستجابة لحاجاتهم ومطالبهم المجتمعيَّة، سواء خضعت تلك المجتمعات لعصى التحديث والتغير السريع أو للتأزم الاجتماعي فيها؛ ولذلك فإنَّ هذا النوع من المجتمعات سرعان ما يميل إلى إقامة أنماط سلطويَّة مستحدثة ذات أجهزة حكم مركزي قويَّة تتقبل معها أنواعًا من الضغوط الدكتاتوريَّة، فتفقد النخبة أيًا كانت سلطانها في تلك المجتمعات ويختفي الوسيط وتظهر الحاجة الشديدة إلى القواعد الضابطة والقنوات المنظمة، وبهذه الطريقة تشعر الجماهير بأنَّها تتخلص وتفرغ طاقاتها المختزنة في ساحة سياسيَّة تتجاوز سائر المسالك والمسارات المعروفة في العمل السياسي، فلا أعراف ولا قوانين ولا تقاليد وإنَّما يكون التمزُّق والتفتت سيد الموقف، وتصبح القيمة العليا التي ينادي الجميع بها ولكنَّهم لا يحققونها هي “المساواة”؛ لأنَّ المجتمع الجماهيري يتسم بالفرقة والتشتت والتفتت والتجزئة وإذابة الجماعات المتمايزة فيه، وقد تقع القيم نفسها ضحيَّة ذلك الاختلال فتذوب فيما يذاب في ذلك المجتمع وتفقد فيه كل أنواع السلطة الهيبة والاحترام، ويفتقر إلى معايير يستطيع الاحتكام إليها لضبط السلوك الاجتماعي والسياسي.

مجتمع كهذا تنتفي فيه الحدود والضوابط، ويمكن أن تتعرض فيه الأقليَّة والأغلبيَّة معًا لوطأة القيود الناجمة عن تلك الحدود والضوابط، ويعد هو البيئة الأنسب لتحكُّم قادة الانقلابات العسكريَّة وإقامة الدول التسلطيَّة، حيث تقوم القوة والسلطة بفرض نفسها على المجتمع بإذابة وتفكيك أيَّة قوة تجرأ على تحديها، فالأفراد يجردون من الانتماءات التي يمكن أن تقوم بحمايتهم تقليديًّا، فتنتفي قوة وقيمة الأسرة والعشيرة والطائفة والحزب والنقابة، ويصبح الأفراد كلهم أفرادًا أمام السلطة وأمام غيرهم، إذ لا يكون هناك أي ثقل جماعي يمكن أن تضبط به تصرفات الدولة أو الحكومة المركزيَّة فضلًا عن التفكير بوجود قوة تحاسبها، وتمسك الدولة –آنذاك- بمفاصل كل شيء، وتصبح البطاقة التموينيَّة التي تصدر عنها ولا ينال الفرد حصتها من الغذاء أو الطعام إلا بها جزءًا من سلطات الدولة، تجيع من تشاء وتشبع من تريد، وتصبح ظاهرة التفويض -أي تفويض تلك الحكومات لنفسها نيابة عن الشعوب المستبد بها- ظاهرة سائدة، فكأنَّنا والحالة هذه أمام مجتمع تآكلت أسسه التقليديَّة، وانهارت قبل أن تقام فيه أيَّة أسس جديدة، وهنا يصبح الفرد في تلك المجتمعات نَزَّاعًا إلى العزلة، شاعرًا بالاغتراب، يمكن أن يكون فريسة من خلال تلك المشاعر لأيَّة دعوات تصله؛ للانتماء وإعلان الولاء الكامل المطلق للحركة أو الحزب أو الزعيم الذي يقنعه بأنَّه يمكن أن يخرجه من ذلك الاغتراب.

 تلك هي حالة الشعب العراقي باختصار شديد عندما قام انقلاب 1958، فالنظام الملكي قد انهار، ولم يعد هناك برلمان ولا مجلس شيوخ، وحطمت الثقة بين الناس وشيوخ قبائلهم حينما سجن عدد كبير من شيوخ القبائل وصار الشيعيون ينادون في شوارع بغداد: “كل عشر شيوخ في ﮔونية”[1] ، وأمَّا الرموز الدينيَّة فكانت المظاهرات النسويَّة التي تقودها الشيوعيَّات تقول: “بعد شهر ما كو زواج ولا مهر، وانذب القاضي بالنهر”، وبمثل ذلك جرى التعامل مع المراجع الدينيَّة والعلماء، فلم ينس العراقيُّون حتى اليوم أنَّ الشيوعيين قد جاؤوا بحمار وربطوا به يافطة كبيرة وكتبوا عليه “الحمار الحكيم” يريدون بذلك سماحة المرجع الأعلى السيد محسن الطباطبائي الحكيم، وأطلقوها في مرقد الإمام علي في النجف الأشرف حيث كان المرجع يؤدي الصلاة هناك، فإذا ضرب الرأس الأكبر للشيعة بهذا الشكل فما بالك بعلماء السنَّة الذين قتل فيهم من قتل وسجن من سجن وهرب من هرب، فهم لا يتمتعون بعصبيَّة أو تأييد كالتأييد والعصبيَّة التي يحظى بها المراجع الشيعة خاصَّة المراجع الكبرى.

ولذلك استطاع الجنرال عبد الكريم قاسم أن يحكم العراق بمفرده، وبأجهزة لم تكن موالية له أربع سنوات ونصف، قتل فيها من شاء وسجن من أراد ونفى من نفى، وصادر أموال من صادر، دون مراعاة لأي شيء، وأصدر تهديده المعروف لاحتلال الكويت وتأميم النفط وتدمير المصالح الغربيَّة في المنطقة، وأطلق العنان للحزب الشيوعي حتى إذا أبغضه الناس وكرهوه سرعان ما قام بسوق قادته إلى المحاكم والتنديد بهم علنًا في خطابه المشهور في كنيسة مار يوسف 19 تموز في يونيو من عام 1959.

وهكذا تحوَّل الناس إلى أفراد هَم كل منهم كيف يحمي نفسه من بطش السلطة، وسجونها، ونقمة الشيوعيين، وتفننهم في التعذيب من سحل وقتل بشتى الطرق، في هذه الحالة يجد المستبد نفسه قادرًا على أن يقول للناس: “أنا ربكم الأعلى”، “أو “ما علمت لكم من إله غيري”؛ ولذلك قال عبد الكريم قاسم في واحدة من خطبه الشهيرة: “إنَّني قوة منطلقة في التاريخ، يستمد الشعب القوة مني في حياتي وبعد مماتي يستمدها من كلماتي والبيان الأول”، أمَّا الأفراد الذين يشكِّلون الشعب أو الجماعة السياسيَّة فيصابون بمرض الاغتراب الذي يؤدي إلى التقوقع، وتسوده فكرة انتظار المخلِّص بأشكالها المختلفة، وتنشط –آنذاك- الحركات السريَّة التي يلفها الغموض وتتخذ من استبداد المستبد والاغتراب والتقوقع مبررات ومسوغات لممارسة العمل السري، والعمل السري يمكن أن يكون مدخلًا لأنواع جديدة من الاستبداد، ففي العمل السري تُخفَى القيادة، وإذا طلب الفرد معرفة القيادة فهذا الطلب بحد ذاته قد يعد جريمة تعاقب عليها ضوابط وقوانين العمل السري، ويكلَّف الأفراد بالمعقول وغير المعقول، وبالمعروف المنكر، وليس لهم أن يناقشوا، أو يطلبوا توضيحات أو بيانات، فجميع التوضيحات والبيانات في رأس القائد الملهم، من حقه أن يكتم ما يريد، ويظهر ما يشاء، بحسب الظروف التي لا يقدرها إلا هو؛ ولذلك تسود هذا النوع من الحركات شعارات: “نفذ ثم ناقش”، وتصبح الأفكار كلّها محاطة بنوع من الأغلفة السريَّة التي تضفي عليها كثيرًا من الغموض والإبهام، ويتحسس قادة العمل السري ما يثور في أذهان البعض ليصادروا عليه مقدمًا، فيذكرونه للمقربين من أعضائهم بأنَّ أعداء الحركة أو الحزب أو التيار يفكرون بكذا، وبالطريقة الفلانية، يريدون إحراج القيادة، وحملها على أن تفضي لهم باستراتيجيَّتها وخططها المستقبلة، بحيث يصبح الفرد خائفًا من أن يقول أي شيء لئلا يتهم بالضعف، والتأثر بمؤامرات المتآمرين على التنظيم، فلا يملك إلا أن يكتم ما في نفسه ويعطل طاقات عقله وتفكيره ويتحوَّل إلى مجرد آلة يحركها من يطلق عليهم القادة؛ ولذلك جعل الله (جل شأنه) تنفيذ الإنجازات الحضاريَّة واجبًا على الأمم والشعوب والجماعات، أمَّا المحاسبة على الأفعال فإنَّها محاسبة فرديَّة، فأنت مع الجماعة لا تفقد شخصيَّتك ولا خصائصك، وليس من مهامك أن تكبت طاقاتك وتقلل منها لتنسجم مع الجماعة، بل على الجماعة أن تتعلم كيف تؤلف بين قلوب المنتمين إليها وتوظِّف خصائصهم على اختلافها في خدمة الرسالة المشتركة والمقاصد والغايات التي اجتمعت عليها الكلمة.

بقي العراقيُّون يتنقلون من انقلاب لآخر حتى سقطوا في انقلاب قاده حزب البعث وبعض العسكريين الذين عرفوا بانتهازيتهم وفشلهم وإنكفائهم على ذواتهم، وأتقنوا لعبة التظاهر بتبني أهداف سامية وقيم عالية مثل: الحرية والوحدة والعدل وما إلى ذلك، وهنا قرر هؤلاء مجتمعين أن لا يسمحوا للسلطة أن تتسرب من أيديهم مرة أخرى، فقرروا أن يعضوا عليها بالنواجذ حتى لو أنَّهم خيروا بين البقاء بالسلطة ودمار البلاد وهلاك العباد فإنَّهم يختارون البقاء بالسلطة ولو بدون شعب، ولا يختارون بقاء الشعب أو البلاد بدون سلطة، فصار وجودهم في السلطة مساوي لحياة الشعب ووجوده.

[1] الـﮕونية هو الجوال الذي توضع في الحبوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *