أ.د/ طه جابر العلواني
أنَّ الله (تبارك وتعالى) كما شرع الحلال والحرام شرع الحدود والتعاذير، وأمر الأمَّة بالالتزام بها دون زيادة أو نقصان ﴿…وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾(مريم:64)، ولم يرد في كتاب الله وفيما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه حرق أحدًا بالنار، فأيَّة زيادة أو نقص فيما حدَّه الله (جلّ شأنه) تعد حكمًا في غير ما أنزل الله، وذلك أمر معلوم من الدين بالضرورة، لم نكن نظن أنَّ الجهل بالمعرفة الشرعيَّة يبلغ هذا الحد، بحيث يتناسى الناس صفات هذه الرسالة وخصائصها وصفات حاملها (عليه الصلاة والسلام)، فحاملها أرسل رحمة للعالمين ليس بجبار ولا بمسيطر ولا سباب ولا لعان ولا فاحش ولا فظ ولا غليظ، فهو على خلق عظيم بشهادة ربه، وهو رحمة للعالمين كافَّة لا للمؤمنين وحدهم، فقد نفى الله (جلّ شأنه) عنه الغلظة والفظاظة والشدة والتعسير فلا يمكن أن نثبت له عكس ذلك، وما يناقض صفات رسول الله خاصَّة، وصفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وردت في كتب الله الثلاثة: التوراة والانجيل والقرآن، كما وردت كذلك في هذه الكتب صفات أصحابه -رضوان الله عليهم: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح:29)، وأمَّا خصائص شريعته فهي خصائص تتوقف عليها عالمية هذه الشريعة وشمولها وعمومها؛ ولذلك أختار لهم هذه الصيغة: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ (الأعراف:155).
والتحريق عمل ينافي كل ما وصف به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالذي قال لأعتى أعدائه الذين أخرجوه من قريته وفرضوا عليه وعلى أصحابه النفي والهجرة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” يستحيل أن يقوم هو أو أحد أصحابه -خاصَّة إذا كان قد تربى في حجره وتأثر بأخلاقه مثل الإمام علي (كرم الله وجهه)- بتحريق الناس بالنار.
إنَّ كثير من كُتبنا تحتاج إلى تحقيق علميّ دقيق، خاصَّة الكتب المهمة في الحديث والتفسير؛ لكي نطمئن إلى أنَّه لم يضف إليها ولم يحذف منها شيء، وطباعة الكتب دون تحقيق أو تدقيق علمي موضوعي سليم -حاصل من أهله والقادرين عليه- يجعل كثيرًا مما يرد في هذه الكتب موضع تساؤل، خاصَّة إذا جاء على معارضة نصوص القرآن الكريم، فالقرآن كتاب الله هو المصدق والمهيمن، يهيمن على غيره ولا يهيمن عليه سواه.
وقد استمعت إلى الجدل الذي دار حول تحريق الإمام علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- بناءً على حديث قد روي بأنَّه -كرم الله وجهه ورضي الله عنه وأرضاه- قد بلغه أنَّ أناسًا نسبوا له الألوهيَّة فنادى خادمه قنبر، وقال:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا *** أوقدت ناري ودعوت قنبرا.
إلى آخره ..، وأنَّه ألقى بهم في النار فكانوا يتضاغون ويستصرخون فيها ويقولون: “لقد ثبت أنَّك ربنا لأنَّه لا يعذب في النار إلا إله”، ثم ذكروا أنَّ ابن عباس -رضي الله عنه- عاتب عليًّا على ذلك، وروي له حديثًا آخر ينهى الناس عن التعذيب بعذاب الله وعن المثلة.
إنَّ هذه الواقعة كلها تحتاج إلى أن تُدرس بعناية، وفي نور وهداية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته ومنهجه في تربية عليّ -رضي الله عنه. وصاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصفه ربه بالرأفة والرحمة وعدم الغلظة، فهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، ولم يكن فظًا ولا غليظ القلب، فقد قال القرآن الكريم: ﴿.. وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ..﴾ (آل عمران:159).
وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يستغفر لأعدائه، فحين آذوه في مكة وفي الطائف وخيِّر في الانتقام منهم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): “إنَّما أرجو الله أن يُخرج من أصلابهم مَن يوحِّد الله (عزَّ وجلَّ)”، فالذي تربى في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن بلغ أشده، وتزوج ابنة رسول الله وحبيبته فاطمة وأنجب منها الحسنين ريحانتي رسول الله لا يمكن أن يغفل عن ما تنبه له فيما يذكرون عن ابن عباس، لكن الإمام عليًّا -كرم الله وجهه – ذكر يومًا شيئًا وقال للناس الذين بدى من بعضهم شيء من الاستغراب مما قاله الإمام فقال –رضي الله عنه وأرضاه-: “إنَّما أنا محارب فإذا حدثتكم عن نفسي فإنَّ حديثي حديث محارب” أي يمكن للمحارب أن يدافع عن نفسه وعن وجهة نظره ويرد على خصومه بمثل ما يواجهونه به: ﴿.. فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة:194).
لكن الإمام أردف قائلًا: فإذا حدثتكم عن رسول الله فلن أكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالظن لا يزيل اليقين، والشك لا يهدم العلم اليقينيّ، وطلبة العلم في حاجة إلى مراجعة هذه الأمور بمنهجها القرآني، وإخضاعها لميزان القرآن المجيد؛ لئلا يسيئ بعضهم من حيث أراد أن يحسن، فمثل تلك الواقعة لو حدثت لرواها الملايين من أهل الشام وأهل العراق، فأهل الشام الذين كانوا يسبُّون الإمام عليًّا من فوق المنابر في عهد بني أمية –قبل أن يوقف ذلك عمر ابن عبد العزيز- من مصلحتهم أن يروجوا مثل تلك الدعايات عنه، وأيضًا أشياعه في العراق يحبون أن يظهروا عنفوانه وقوته وشديد بأسه على مخالفيه، فخبر مثل هذا لو صح فإنَّه كما يقول الإمام أبو حنيفة: “مما تعم به البلوى، لا يقبل إذا روي من أفراد معدودين بل لابد أن يكون هناك تناسب بين رواته ومضمونه”، ويقول –رضي الله عنه– مشيرًا إلى ما يرد في السنَّة النبويَّة المطهرة نوع من التغليظ والتشديد فيه لتحذير الناس من الاستهانة به، فيروي حديثًا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ): مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا.
فسئل أبو حنيفة في ذلك وقال له السائل: فما قولك في أناس رووا “إنَّ المؤمن إذا زنا خلع الإيمان من رأسه كما يخلع القميص ثم إذا تاب أعيد إليه إيمانه” أتشك في قولهم أم تصدقهم؟ فإن أنت صدقت قولهم دخلت في قول الخوارج، وإن شككت في قولهم شككت في أمر الخوارج، ورجعت عن العدل الذي وصفت، وإن كذبت قولهم (أيّ روايتهم) قالوا: أنت تكذِّب بقول نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن هم رووا ذلك عن رجال حتى ينتهي إلى رسول الله”.
فأجاب أبو حنيفة: أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهؤلاء وردي عليهم تكذيبًا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأنا مؤمن بكل شيء تكلم به النبي (عليه الصلاة والسلام) غير أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخالف القرآن في شيء، ولو خالف النبي القرآن وتقَوَّل على الله غير الحق لم يدعه لله (جلّ شأنه) حتى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين، كما قال الله في القرآن: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ (الحاقة:44-46).
ونبي الله لا يخالف كتاب الله، وهذا الذي رووه خلاف القرآن؛ لأنَّ القرآن لم ينف عن الزانية والزاني اسم الإيمان، بل قال (جلّ شأنه): ﴿وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ..﴾ (النساء:16)، فقوله: “منكم” إنَّما عني به المسلمين، ثم خلص الإمام –رضي الله عنه وأرضاه-إلى قوله: “فرد كل رجل يُحدِّث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخلاف القرآن ليس ردًا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا تكذيبًا له. ولكن رد على من يُحدِّث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالباطل أو بما يخالف القرآن”. ثم أردف -رحمه الله- قائلًا: والتهمة دخلت عليه لا على نبي الله (عليه الصلاة والسلام)، وكل شيء تكلم به نبي الله سمعناه أم لم نسمعه فعلى الرأس والعينين قد أمنَّا به ونشهد أنَّه كما قال نبي الله، ونشهد أيضًا على نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه لم يأمر بشيء نهى الله عنه، ولم يقطع شيئًا وصله الله، ولم يصف أمرًا بغير ما وصفه به الله، وكان موافقًا لله في كل شيء، لم يبتدع ولم يتقوَّل على الله بغير ما قال، ولا كان من المتكلفين؛ ولذلك أمرنا الله بطاعته، فطاعته طاعة لله (عز وجلّ).