Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الهجرة (ج2) من خواص عصر النبي الخاتم

من خواص عصر النبي الخاتم خطبة الجمعة الرابعة من المحرم

أ.د: طه جابر العلواني

الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين، ثم أمَّا بعد:

فإنَّنا نحمد الله (جل شأنه) أن وفَّق بعض أبناء هذه الأمَّة لأداء فريضة الحج، فقضوا تفثهم، وطوفوا بالبيت العتيق، ووفوا بنذورهم، وذبحوا هديهم وأضاحيهم، وأكملوا مناسكهم أو أنَّه لم يبقى منها إلا القليل؛ ليغادروا البيت الحرام آمنين كما دخلوه آمنين، ولعل أهم ما يشعر الحاج به بعد شعوره بالسعادة بأداء المناسك هو ذلك الشعور بالأمن والطمأنينة الذي جعله الله (جل شأنه) شعورًا طبيعيًّا فطريًّا يحسه ويلتذ به كل مؤمن ومؤمنة مَنَّ الله عليه بدخول الحرم، وأداء المناسك.

إنَّنا حين نُقبل على الحرم نقول لله (جل شأنه): “اللهم إنَّ البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك؛ فحرمني على النار، وآمنِّي من عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك، وسعني برحمتك، يارب هذا البيت”، هناك إحساس عجيب يحس الإنسان به إذا كان مؤمنًا مخبت القلب نقي السريرة بمجرد دخوله حدود الحرم، ألا وهو الإحساس بالأمن والطمأنينة، إحساس لا يمكن أن يوصف لكن الإنسان يحس به ويشعر ببرده، وهو يستمتع به، هذا الإحساس بالطمأنينة يجعل تلك البقعة المحرمة الطيبة المباركة أحب للإنسان من أيَّة بقعة على وجه الأرض، ولما لا؟ وهي بقعة منسوبة إلى ربه، بيته المحرم، وقبلة عباده، ومكان طوافهم، ونسكهم، وخضوعهم، وتبتلهم إلى الله (جل شأنه) فلا غرابة أن يشعر العبد وهو في حضرة المليك المقتدر بالسعادة تغمر جوانحه وتستولي على قلبه، وتمنحه إحساسًا يصعب إن لم يتعذر وصفه، لكن الموجود في الحرم يشعر به ويعايشه ويستمتع به، فإذا تذكَّر دار إقامته أو ما يسمى وطنه تجده لا يفارق الحرم إلا باكيًا، فكأنَّه هو موطنه الأصلي، وفيه كل آماله، وفي رحابه كل سعادته، فينطلق ليبتعد عنه وقد ترك قلبه ومشاعره وعواطفه تنوب عنه في الطواف والعبادة والتمتع بالنظر إلى بيت الله العتيق.

 ثم يغادر شبه مكره، فإذا غادر تلك البقعة الطاهرة تبدأ مرحلة الإحساس بالذكرى تعطيه شيئًا من الصبر أو التصبُّر حتى يرى ذلك الحرم مرة أخرى، ومهما كانت المشاق والمتاعب التي يعانيها الحاج في رحلة الحج بحيث قد يقرر بعضهم أنَّه لا يفكر في العودة لما عاناه؛ لكنَّه سرعان ما ينسى ويتمنى العودة مرات ومرات، بل ويسعى إليها، وإذا لم يستطع فإنَّ مشاعره تحاول أن تقوم بعمليَّة تعويض، فقد تدفعه إلى أن يلبي مع الملبين ويكبر مع المكبرين، ويقنع نفسه وكأنَّه واحد من أولئك الطائفين العاكفين والركع السجود، وينتهي شهر ذو الحجة ويبدأ المحرم، وفي المحرم رسوم، وفي المحرم أمور أخرى لا تندرج في الأعياد؛ لكنَّها تقدم وتوحي بأمور أخرى، فالمحرم بداية السنة الهجريَّة، هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهجرة من مكة المكرمة من البيت الحرام إلى المدينة المنورة، هجرة عانى المهاجرون فيها وعلى رأسهم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معاناة هائلة شديدة وهم يفارقون مكة.

لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوقع في أيَّة مرحلة من مراحل حياته المباركة قبل البعثة أن يخرجه أهل مكة من حرمها، وأن يضايقوه حتى يضطروه إلى الهجرة، فيلتفت إلى مكة وهو يغادرها قائلًا: والله إنَّك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت”.

ولم يكن أي من المهاجرين أقل منه (عليه الصلاة والسلام) حبًا لمكة، وعشقًا للعيش فيها، رغم سائر الظروف، ولكن لم يكن أحد يعرف عظمة مكة حق المعرفة مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هل كانت الهجرة هروبًا من الموت أو القتل؟ هل كانت الهجرة لجوءًا سياسيًّا؟ هل كانت الهجرة رحلة استنصار وسعي وراء منعة أو قوة؟ أو ماذا كانت؟ وكيف أخذت الهجرة كل ذلك الاهتمام من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ولما سمي الناس بها فقيل لهم المهاجرون، وسمي مستقبلوهم من إخوانهم بالأنصار؟ وما الدروس الهامَّة التي تستقى من الهجرة؟ ولما جعل الله (جل شأنه) للهجرة بداية ونهاية؟ أمَّا بدايتها ففي خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة بعد أمر من الله صدر إليه، وفي ذلك يبين الله (جل شأنه) للناس أنَّه أخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيته واختار له رفيق طريقه، وجنبه مخاوف الطريق وأفشل كل جهود قريش التي بذلتها للقبض على رسول الله وصاحبه؛ ليصل رسول الله وصاحبه المدينة محوطين بعناية الله (جل شأنه) مصحوبين بمعيته، ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة:40)

ويسجل القرآن الكريم لنا هذه الهجرة، فالذين كفروا ظنُّوا أنَّهم هم الذين أخرجوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وظنُّوا أنَّهم بذلك أنهم قد أعلوا كلمتهم وحققوا وعيدهم؛ فأهانهم الله (جل شأنه) وأذلهم وأعلى كلمته، وجعل كلمتهم السفلى وكلمة الله هي العليا، فكانت هجرة نبويَّة محددة بإرادة إلهيَّة، وقدر رباني، فكما جاء موسى على قدر إلى طور سيناء بعد أن أكمل اتفاقه مع شعيب، وأنهى مهر زوجه وسدده عملًا عند أبيها عاد من مدين إلى طور سيناء فجاءها على قدر، وأوحي إليه ﴿.. ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (طه:40)؛ فإنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء المدينة على قدر، وكان الوحي قد بدأ بالنزول عليه وهو في مكة، في حرم الله؛ ليحظى النبي ابن الحرم بعصمة وحماية وحفظ رب الحرم، وليحظى الكتاب النازل على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعصمة رب الحرم وحفظه وجمعه وقرآنه، وحفظه من بين يديه ومن خلفه، وحفظه من العوج والاختلاف.

 هكذا كانت الهجرة بداية لتأسيس ذلك المجتمع التوافقي؛ ليكون نموذجًا للتسامح والتعايش بين الناس، ولو اختلفت أديانهم ومذاهبهم وآراؤهم وأصولهم وجذورهم، فيقيم مجتمع المدينة (عليه الصلاة والسلام) من عدة أمم؛ لحكمة إلهيَّة أطلق الله عليها أممًا لينبه إلى أنَّ كل أمَّة من هذه الأمم المتوافقة سوف تحتفظ بخصوصيَّاتها إن شاءت، ولن يهدد صاحب الرسالة ولا رسالته تلك الخصوصيَّات، بل سوف يحافظ النبي الكريم عليها ويعززها، ويحميها، فلا غرابة أن نجد في رسالة هذا النبي الخاتم التصديق على ما سبق والهيمنة عليه، والمحافظة على الصالح منه، دون تفريط، والاعتراف بكل من سبق من النبيين والمرسلين، الذين قص الله (جل شأنه) على رسوله قصصهم، منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك، فكل هؤلاء أمرنا بتعظيمهم وتوقيرهم وتصديقهم والتصديق على ما أنزل عليهم، وجعله دائمًا في حالة صدق، وحفظه في هذا الكتاب الكريم بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت:42)، ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (البقرة:136).

ووصف (جل شأنه) التوراة بأنَّها هدى ونور ووصف الإنجيل بنحو ذلك، وكذلك الزبور، وصحف الأنبياء من قبل، صحف إبراهيم وموسى، كل ذلك ليبين وحدة الدين، ووحدة أمَّة الأنبياء، ووحدة المنطلق، والغاية والهدف، فما كان الدين ولن يكون عاملًا من عوامل الفرقة والاختلاف والصراع وكيف يكون ذلك والله يدعو إلى دار السلام، ويقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (البقرة:208)، فعدم الدخول في السلم اتباع لخطوات الشيطان، وانحراف عن طريق الرحمن، نسأل الله (جل شأنه) أن يوفقنا وإياكم لاتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاهتداء بهداه، إنَّه سميع مجيب.

الخطبة الثانية: والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، ثم أمَّا بعد:

الحمد لله رب العالمين،

إذا كانت الهجرة قد بدأت حين أُمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمغادرة إلى المدينة المنورة بعد أن تهيأت جميع الأجواء لاستقبال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبقى بيت من بيوت المدينة إلا وقد سمع برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعرف عنه ما ينبغي أن يعرف من نبوته ورسالته، ووقوف المشركين وأحلافهم بوجهه وصدهم عن سبيل الله بعنادهم، فإنَّ الهجرة قد انتهت بفتح مكة، فبمغادرتها بدأت وبفتحها انتهت، فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، حدثنا علي بن عبد الله حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سفيان قال: حدثني منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا”[1]  فالذين يرون أنَّ الهجرة شيء متكرر مع الزمان مخطئون جدًا، ولم يدركوا معنى الهجرة ولا مغزاها ولا الحكمة من وراء ابتدائها وانتهائها في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى يديه، وأنَّه لن يأتي أحد إلى الأرض بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليفتح باب الهجرة، ويعتبر الخروج عن المجتمع أيًّا كان خروجًا وهجرة؛ لأنَّ هذه أمور قد ارتبطت بتأسيس الأمَّة على يدري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

 فأمَّة الإسلام أمَّة أرسى قواعد بنائها ووضع دعائم أسسها إبراهيم (عليه السلام) ورفع منها القواعد وأكمل بناءها محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتكون الأمَّة التي تتجلى فيها كل رسالات الرسل، والصحف المنزلة، وسائر القيم التي جاؤوا (عليهم السلام) لإرساء دعائمها وتثبيت أركانها، فحينما نتذكَّر الهجرة علينا أن نتذكَّر عمليَّة بناء الأمَّة وكيف تأسست وأخذت مدارها في صيرورة الزمان والمكان؛ لتكتمل بعد ذلك أمَّة وسطًا خيِّرة شاهدة على الناس، فنسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويشرح صدورنا لإعادة بناء أمتنا بناءً سليمًا قويمًا يحظى بعناية الله، ويتشرف بتأييده، ونصره (جل شأنه) ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم.

[1]  صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، (2631).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *