Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

 خطبة عيد الأضحى

أ.د/ طه جابر العلوانى .

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فإنَّ الله (سبحانه وتعالى) قد أبدلنا بأيام الجاهليِّة ورسومها وأعيادها عيدين كريمين سعيدين، وربط بين كل عيد وركن من أركان الإسلام الهامَّة؛ العيد الأول نحتفل به تكبيرًا وتهليلًا وحمدًا وتسبيحًا لله (جل شأنه) أن هدانا للإسلام وكتب علينا الصيام، ونظم لنا الزمان، وأعاننا على صيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهو: عيد الفطر؛ نبدأه بعبادة تذكرنا بركن آخر ألا وهي :صدقة الفطر ثم صلاة العيد، والعيد الآخر عيد نحتفل فيه بما منَّ الله علينا من فريضة الحج ، ومكَّن المستطيعين منا ومن قُدِر لهم أداء هذا الفريضة ؛ فنلبي ،ثم نكبر، ونستهل ذلك بالأضحية، والطواف بالبيت العتيق.

وقد ألِف الخطباء في عيد الأضحى الذي نحتفل به هذه الأيام أن يتحدثوا عن الدروس المستفادة من قصة سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل؛ باعتبار كل منهما كان رمزًا للتضحية، وعنوانًا لطاعة الله )جل شأنه(، ولا شك أنَّ في هذه القصة عبرة، وفيها دروس، وتدل على عظمة هذين النبيين ؛ حيث أسلم وتله للجبين حتى ناداه ربه: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (الصافات:103-105)، وهذا درس آخر بأنَّ طاعة الله (جل شأنه) في أي شأن من الشئون ينبغي أن يبادر الإنسان إليها، وأن لا يتردد أو يتأخر عن القيام بها ؛ بل يقبل عليها بعزيمة صادقة، وقلب مخبت مطيع ؛ راغب  فيما عند الله ؛ متقبل لكل ما يترتب على طاعة الله (جل شأنه) ؛ لأنَّ الإنسان خلق الله وملكه وعبده ؛ لا ينبغي له أن يتردد في القيام بأي شيء يُؤمر به ؛ حتى لو جاء ذلك الأمر على مستوى الرؤية المنامية التي ما أنزل الله بها شريعة ولا نبوة ، ولا كانت جزء من الوحي الملزم.

 وخلال عرض الخطباء لهذا الأمر يفوت الناس الدرس الأعظم من هذه القصة ألا وهو: أنَّ المشركين من أباطرة وكهنة وفراعنة أسسوا “للقربان البشري” فاعتبروا البشر سواء أكانوا من الأبناء، أو البنات ؛ بعض ما يمكن التضحية بهم . فإذا غضب النيل فلتزف إليه عروس ؛ تلقى فيه ليسترضى، وقد ينذر بعض الرجال أو النساء أحد أبنائهم إذا رزقوا بذرية قربانًا للكهنة أو القبور، أو من اتخذوهم آلهة من أباطرة وأموات وأحياء، فقدر الله (جل شأنه) أن يعلم البشريَّة فداحة هذه الجريمة البشعة “جريمة التضحية بالإنسان” وتقديمه قربانًا بشري وحماية الكرامة الإنسانيَّة من أن يستهان بها، أو أن يسوى بينها وبين القرابين من بهيمة الأنعام؛ فكلَّف خليله لا بوحي صريح ولكن برؤية مناميَّة؛ لأنَّ الله لا يأمر بالفحشاء، وقتل الأولاد فحشاء؛ بل أكبر الفحش أن يضحي بولده؛ ليتحول الأمر إلى قصة لا تستطيع البشريَّة أن تتجاهلها أو تتناساها، بل تذكرها على الدوام.

 فإذا إبراهيم السامع المطيع لربه يقول بعد شيء من التفكير فيما رأى في منامه لولده إسماعيل بكل ما يملك الإنسان من رقة وعاطفة جياشة نحو الولد الحبيب: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات:102)، ولو كان الأمر وحيًا إلهيًّا واجب التنفيذ لما استشار خليل الرحمن ولده في تنفيذ الأمر من عدم تنفيذه ؛ لكن استشارته تنبه إلى أنَّ الأمر أمر رؤيا منام، والتشريع والأوامر والنواهي تنزل على الأنبياء وحيًا صريحًا لا رؤية منامية ؛ لكن ولده البار وهو يعرف مَن أبوه سارع إلى قول السامع المطيع يا أبتي، افعل ما تؤمر -إن كنت تعتبر أنَّ ذلك أمرًا- ستجدني إن شاء الله من الصابرين. إنَّ إبراهيم وإسماعيل يَعْلمان أنَّ الله (جل شأنه) لا يأمر بالفحشاء، ويعلمان أنَّه لا يجوز لمؤمن فضلًا عن نبي رسول أن يؤمن بأنَّ الله قد يأمر بالفحشاء؛ فأوامر الله بر كلها، وخير كلها وزكاة وطهارة كلها، ولكن المشركين: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (الأعراف:28-29).

ويذكر القرآن لنا أنَّ الشياطين كانت تأمر المشركين، وتزين لهم قتل أولادهم على سبيل القربان وغيره فقال (جل شأنه): ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (الأنعام:137) .اقتلع الله (جل شأنه) عادة قد تأصلت لدى أهل الشرك والكهانة وملوك الجور وهي تقريب الإنسان للكهنة والآلهة، والتحول إلى تكريم الإنسان بالتوحيد وبرسالات الرسل المنقذة للإنسان من جور الجائرين؛ ابتُلي إبراهيم وإسماعيل بتمثيل هذا الأمر وقطع دابره والقضاء عليه، وتخليص البشريَّة من هذه الجريمة إلى الأبد ؛ كما حدث بالنسبة لرسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين حمل عمليَّة استئصال، وقطع دابر جريمة التبني.

 والقارئ لآيات سورة الأحزاب يستطيع أن يرى ويدرك المعاناة النبويَّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ ليستأصل من المجتمع البشري قضايا التبني التي كانت قد تأصَّلت وصارت لها جذور في الحياة الإنسانيَّة، وتغلغلت في كل جانب منها: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الأحزاب:4-5)؛ لذلك فإنَّنا أحوج ما نكون إلى أن نضيف لكل الدروس والعبر التي نرددها في قصة سيدنا إبراهيم وإسماعيل ؛ المقصد الأسمى من هذه القصة كلّها في إنهاء حالة القربان البشري والتخلص من الاستهانة بالحياة الإنسانيَّة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *