Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المسؤوليَّة (3) مسؤوليَّة المُغرَّر بهم

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.

أمَّا بعد:

فنواصل الكلام عن المسئوليَّة كما تناولها شيخنا الراحل الدكتور محمد عبد الله دراز –يرحمه الله- الذي علم في وقت مبكر أنَّه لا يمكن إقامة أي نظام أخلاقي بدون بيان المسئوليَّة مفهومًا وحقيقةً وأمانةً وأركانًا، وتوضيح جوانبها المختلفة، بحيث تظهر بوضوح لا تنتطح فيها شاتان، ولا يختلف عليها اثنان، فإذا تم ذلك فبإمكان الفرد والأمَّة أن يحققا الوعي بالواجب، والإدراك للمسئوليَّة بأسلم الطرق وأنجعها، والله الموفق.

فبينما يتدارس التلميذ والأستاذ قضيَّة المسئوليَّات الخُلقيَّة في نظر القرآن..

قال المربي لتلميذه: هل بقيت لديك يابني شُبهة في أنَّ تَعلُّل الجاني بأنَّه ارتكب جريمته مُكرهًا، تحت سلطان الأمر من رئيسه، تعلل غير مقبول، لا في دساتير الأرض ولا في وحي السماء؟

قال الطالب: إنَّي لأعتذر إلى الله ثم اليك، إن كنت جادلتك عن أولئك الذين يختانون أنفسهم وهم يعملون طاعةً لسادتهم وكبرائهم، وائتمارًا بأمر رؤسائهم .. لقد كنت أراهم في وضع يجعل اقترافهم للإثم ليس عن طوع واختيار، ولكن عن إلجاء واضطرار. فالآن كشفت الغطاءَ عن عيني في هذه القضيَّة، فتبينت ما هو إكراه، وما هو شبه إكراه، وما ليس بإكراه، وعرفت الفرق بين الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ، وعرفت الفرق بين أنَّ أمر الرئيس لمرؤوسه بغير الحق لا يُبرئ المرؤوس من مسئوليَّته أمام الله وأمام الشرع والقانون، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق..

غير أنِّي قد بقيت عندي شُبهة قويَّة، لا أستطيع دفعها عن نفسي بشأن فريق آخر، لا يقترفون الإثم عدوانًا عن علم وعمد، ولكن عن غفلة وحسن قصد. إنَّهم يفعلون السيئة وهم يحسبونها حسنة، ويعتنقون الباطل وهم يظنونه حقًا .. لقد وقعوا فريسة للدعايات الكاذبة، والأقاويل الخادعة والمضللة .. صدقوا ماسمعوا، فامتثلوا واتبعوا .. أليس هؤلاء جديرين بأن نرفع عنهم كل مسئوليَّة ومؤاخذة، وأن نجعل وزرهم كله على الذين ضللوهم وخدعوهم؟.

قال المربي: هيهات هيهات! إنَّه لو كان الأمر كما تظن، لقال الله عن رؤوس الكفر والضلالة أنَّهم سيحملون أوزار أنفسهم وأوزار أتباعهم كاملين، ولكنَّه يقول: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (النحل:25)، فترك على المخدوعين المضلَّلين وزرًا باقيًا. ولا تحسبن أنَّ كلمة: “من” ها هنا معناه التخفيف عن هؤلاء التابعين. كلا، بل المعنى أنَّ ذنوبهم ستكون سببًا في أن يُحمَل مثلُها على متبوعيهم من غير أن يُنتقَص عنهم شيء منها. بهذا صرحت الآيات الأخرى: ﴿.. وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ .. (العنكبوت:12). ﴿.. وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ .. (فاطر:18). بل في القرآن ما هو أصرح من ذلك، ألم تستمع إليه وهو يقول: ﴿.. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (الأعراف:38).

قال الطالب: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ)؟ كيف هذا؟ قد أفهم أن يكون للمضللين عذاب مضاعف؛ عذاب الضلال وعذاب الإضلال. أمَّا المضلَّلون ففيم يضاعف لهم العذاب؟!

قال المربي: لأنَّهم بعد ضلالهم جعلوا أنفسهم آلة لترويج الضلال، وأداة لنشر الفساد.

قال الطالب: الذي لم أفهم بعدُ، هو تلك المسئوليَّة التي نحملها لهذا المسكين، الذي أُتُّخذ معه من وسائل الإقناع، وأساليب التغرير، ما أصبح به سقيم الفكر، مبتور العزم، لا يرى إلا بعين واحدة، ولا يسمع إلا بأُذن واحدة. بل لا يرى بتلك العين إلا لونًا واحدًا، ولا يسمع بتلك الأُذن إلا صوتًا واحدًا، بقدر ما يأذن له سيده أن يرى ويسمع . أمَّا ما وراء ذلك فقد أصبح عنه غافلاً كالنائم. أليس الله أرحم من أن يكلِّف مثل هذا العاجز الغافل؟!. ﴿ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (الأنعام:131).

قال المربي: بل إنَّ الرجل الذي يَصِلُ التغرير به إلى الحد الذي وصفت، مسئول عن هذه النهاية؛ لأنَّه هو الذي جرَّها إلى نفسه باستنامته واستسلامه منذ البداية. لقد جعل الله لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، وما بَرِح كتاب الله يهتف بنا: ﴿.. أَفَلَا تَسْمَعُونَ (القصص:71)، ﴿.. أَفَلَا تُبْصِرُونَ (القصص:72)، ﴿.. أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (الأنعام:50). ولكن الرجل ألغى تفكيره وعطل مشاعره، فلم يبذل جهدًا في استبطان الأمور، واستنباط الحقائق، بل سلَّم زِمامَ رأيه لغيره، فجعل يصدق كل ما يسمع، ويثق الثقة العمياء بكل ما يُروى ويُدعى، حتى فسدت فطرته وانتكست فكرته؛ فلو أنَّ السواد الحالك سُمي له بياضًا ناصعًا لاتهم حاسته ووجدانه، ولو أنَّ الشر المحض صُور له خيرًا خالصًا لقال: لعل صاحبي يرى أعمق مما أرى .. فمثل هذا المخدوع الإمعة، في احتماله تبعةِ أعماله كمثل السكران الذي يصل به السكر إلى العبث والعربدة، فهو مسئول عن عبثه وعربدته في حال سُكره؛ لأنَّه هو الذي أدخل على نفسه السُكر باختياره.

قال الطالب: هب هذا المضلل المسكين يعيش في بيئة كل الناس فيها يسمعون ما يسمع، ويرون ويفكرون كما يرى ويفكر .. ألا يكون هذا عذرًا له في الاستمرار على خطئه وغفلته؟ إذ من ذا الذي يخطر بباله أن يتهم قومه كلهم بالاجتماع على ضلالة؟

قال المربي: قد يكون هذا عذرًا ما للعامَّة والدهماء المستضعفين الذي لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً .. ومن هنا بعثت الرسل منبهين ومذكرين، لئلا يقول الناس إنَّا كنا عن هذا غافلين..

قال الطالب: وهل يكفي التذكير والتنبيه لتحرير العقول وإطلاقها، وهي حبيسة في حظيرة العقليَّة الجماعيَّة؟ ألست ترى أنَّ الفرد في الجماعة لا يفكر بملء حريته واستقلاله، ولكنَّه ينساق انسياقًا في تيار الفكر الجمعي؟.

قال المربي: صدقت يابني. وأنَّ القرآن الحكيم لم يغفل هذه الحقيقة، ولم يهمل علاجها، فقد دعا كل واحد منَّا أن يخلو بنفسه ويتساءل في هدوء وطمأنينة، عن حقيقة الأمر في كل ما حوله من أفكار وعقائد، وأخلاق وعوائد؛ ليخرج منها برأي مستقل، يتحمل هو مسئوليَّاته وتبعاته. هكذا يقول –تسامت حكمته-: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ .. (الروم:8). غير أنَّه لما كان تمحيص الرأي الفردي لا يتم أحيانًا إلا بمعونة الغير، حصر القرآن هذه الرخصة في أضيق حدودها، ولم يأذن بأن تدور هذه المحاورة بين أكثر من اثنين اثنين، حتى لا يتشعب الرأي ويتبدد، وحتى لا يقع الفرد تحت سلطان العقليَّة الجماعيَّة. فذلك هو أساس الحكمة التي دعا إليها القرآن، وجعلها هي الوصية الوحيدة لطلاب الحق: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا .. (سبأ:46).

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمَّا بعد:

عن أبي مريم الأزدي -رضي الله تعالى عنه- عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: (من ولاه الله شيئًا من أمر المسلمين، فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم احتجب الله دون حاجته)[1] .

روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قوله: لو تعثرت بغلة في العراق, لحاسبني الله عنها، لمَ لم تصلح لها الطريق يا عمر؟.

        ورأى إبلًا سمينة، قال: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لابنك عبد الله، غضب أشد الغضب واستدعى ابنه، وقال له: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لي، اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى المرعى لتسمن، فماذا فعلت؟ قل لي: ماذا فعلت؟ قال: يقول الناس: اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا بن أمير المؤمنين؛ أعلمت لماذا هي سمينة؟ لأنك ابني.

فاللهم أعنا على عدم تضييع الواجبات والحقوق، وارزقنا اللهم مراقبتك في السر والعلن. إنَّك سميع مجيب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

[1] أخرجه أبو داود والترمذي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *