أ.د/ طه جابر العلواني
موقفان لا أنساهما لاثنين من قادة العمل الإسلامي “السياسي”، أحدهما شيعي، الذي رشح نفسه لرئاسة الجمهوريَّة الإيرانيَّة في ثاني انتخابات أُجريت في عهد الراحل الخميني، كان المرشح أديبًا فارسيًّا مشهورًا، اسمه جلال الدين فارسي، كنت في بيروت بعد أن انتهى جواز سفري العراقي، وصدر علي حكم بالإعدام، ولم أكن أملك جواز سفر، فكان السماسرة الذين يُرشحون لي قادمين ذاهبين؛ ليعرضوا عليَّ جوازات السفر الصحيحة أو المزورة التي يمكن أن أستفيد بها في تلك المرحلة؛ لأخرج من لبنان، جاءني أحدهم يخبرني بأنَّ هناك سيدة من “إياهن” تعرف عددًا من أصحاب المراكز العليا في بلدان عربيَّة مختلفة، وهي على استعداد لأن تأتيني بجنسيَّة وجواز سفر من هذا البلد أو ذاك، من البلدان التي لها نفوذها فيها مقابل ألفي دولار.
لم أكن أملك هذا المبلغ فسكت وسكتنا، حتى قيَّض الله لي السيد/ أمين الحسيني، مفتي عموم فلسطين -تغمده الله برحمته- فاستخرج لي في حينه جواز سفر يمنيًّا، أتاه به أحد الدبلوماسيين اليمنيين فارغًا، وعُبئ في منزل السيد/ الحسيني، ووُقِع، وسلمه لي، فلم أستطع استعماله إلا في رحلة واحدة كان من سوء الحظ أنَّها كانت للسعوديَّة، حيث اكتشف الشرطي السعودي أنَّ حامل ذلك الجواز ليس بينه وبين اليمن أيَّة صلة، فسألني متضاحكًا هل أنت زيدي؟ وعبارته هو كانت: “أنت من الزيود؟. فقلت له: أنا منهم بالولاء ما دمت أحمل هذا الجواز. فابتسم الرجل، وقال لي: أنا لن أوقفك، فمن الواضح أنَّك تمر بظروف خاصَّة، لكن لا تدخل بهذا الجواز مرة أخرى إلى السعوديَّة خاصَّة، فنحن لا يخفى علينا اليمني الحقيقي من اليمني المزيف”.
بعد أن عدت إلى بيروت لأبحث من جديد عن جواز سفر بديل، نزلت عند صديق لي –تغمده الله برحمته- هو محمد صادق فهمي، وكان صديقًا لكثير من قادة الثورة الإيرانيَّة، وفيما أنا عنده استأذنني بأن يدعو جلال فارسي المرشح للرئاسة إلى الغداء في المنزل؛ ليعرفه بي، وليستمع إليَّ، وجاء جلال الدين فارسي، الذي كان قادمًا من العراق في حالة مترفة، فجميع بدلاته وأربطته كانت جديدة لامعة، مظاهر الثراء تبدو عليه، وأخرج من جيبه جواز سفر عراقي دبلوماسيًّا، فعجبت للأمر، عراقي عربي يستطيع أن يعد إلى الجد السابع عشر يبحث عن أي جواز سفر، وإيراني فارسي مرشح لرئاسة الجمهوريَّة الإيرانيَّة –فيما بعد- يحمل جواز سفر دبلوماسي عراقيًّا، ويحمل من الأموال العراقيَّة ما استحل!.
ناقشته في ذلك وقلت له: ما رأيك لو ذهبت إلى إيران، وطلبت من شاه إيران أن يزودني بجواز سفر إيراني دبلوماسي أو عادي، ويمنحني من الأموال والتسهيلات ما منحته لك حكومة صدام؟ فهب منتفضًا يقول: يا أخي لا يجوز هذا، فشاه إيران عميل، وخائن، ولا يجوز الاستعانة به في هذا الأمر، قلت له: وبالنسبة لي كمعارض عراقي أستطيع أن أصف صدام بجميع الأوصاف التي تصف بها شاه إيران، وإذا بالرجل لا يقبل ذلك ويرفضه، ويُصرُّ على ترديد مناقب صدام الوطنيَّة والقوميَّة، وأن استعانتهم به تختلف عن الاستعانة بالشاه، فقلت: يا سبحان الله تبيحون لأنفسكم ما تحرمونه على سواكم!. ثم افترقنا من غير أن يقنع أيُّنا الآخر بوجهة نظره.
فرأيت نموذجًا يسوِّد الأبيض ويبيِّض الأسود بحسب مصلحته، ويعطيه من الألوان ما يشاء، فلجوءه هو يعتبره صفحة من نضال، ودليل إخلاص ووطنيَّة، أمَّا لجوء غيره إلى عدوه وخصمه الشاه في تلك المرحلة، فإنَّه خيانة عظمى وعمالة للاستعمار ووو إلخ.
والموقف الثاني حين لقيت الراحل عدنان سعد الدين، في مرحلة كان يعتبر فيها من أبرز قيادات الإسلاميّين في سوريا، وكان يحمل معه أربعة صناديق من كتب وخطب ميشيل عفلق، الذي كان يصر على تكنيته بأبي محمد، كان قادمًا من بغداد ولقاؤنا تم في الخرطوم، في عهد الصادق المهدي، حين دعاني السيد/ المهدي إلى مؤتمر في السودان حول أسلمة المعرفة، جاءني عدنان وقال: هذه خطب لأبي محمد، قلت له: من أبو محمد؟ قال: الأستاذ ميشيل عفلق، قال: أتيت بها إلى هذا المؤتمر وأرجو أن تساعدني في توزيعها على الحضور، فاستغربت استغرابًا شديدًا، كيف يسوَّغ لإسلامي مسؤول يُعدُّ في قمة المسؤوليَّة آنذاك أن يقوم بهذه المهمة، وكأنَّه صبي من صبيان الأستاذ يوزِّع له كتبه ومقالاته، وكيف رضي لنفسه هذه المكانة؟.
ولم أستطع أن أخفي استغرابي فقلت له: هناك شيء اسمه الولاء والبراء، وما إلى ذلك، هل قرأت فيهما؟ هل علمت موقعهما في العقل المسلم؟ قال يا أخي أنا متأكد لو أنَّك عرفت أبا محمد كما أعرفه لأحببته، ولوزعت كتبه، فأنت لا تدري هذا الرجل، وما يتحلى به من أخلاق وسلوكيَّات، وما يحمله من حب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجعلني لا أشك لحظة بأنَّني أمام إنسان مسلم يكتم إيمانه، وأخذ يعطي من المسوغات ما شاء، فقلت له كثيرًا مما قلت لجلال الدين فارسي سابقًا، ولكن الرجل كان متشبثًا بموقفه متعصبًا له، حريصًا على كيل الثناء إلى السيد ميشيل عفلق أبي محمد.
فانظر يا هداك الله كيف تتصرَّف النفس حينما يسيطر عليها الهوى، لتجعل من أهم الأمور وأكثرها ثباتًا سائلًا متحركًا لا يصمد ولا يثبت، فالحلال ما حل في الجيب، والطيب ما استطابه السيد، والوطني من نفع هؤلاء، والعميل من تنكَّب سبيلهم، فلم ينتفعوا به، إنَّ الثوابت ثوابت، والمتغيرات متغيرات، وإنَّ الخلط بين الثوابت والمتغيرات مدمر، لا يبقي على دين، ولا يحفظ دنيا، ولا يحمي من سوء، ولا يحقق مصلحة، ولا يدرأ مفسدة، يا قومنا فرقوا بين الثابت والمتغيِّر، وميزوا بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، ولا تسيلوا المفاهيم، ولا تتساهلوا بها، وقولوا انظرنا واسمعوا، وللكافرين عذاب أليم.