Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

النسق المغلق والنسق المنفتح.

أ/ د: طه جابر العلواني.

النسق المغلق: منظومة فكرية، أو تشريعية، أو معرفية من شأنها أن تنغلق، وتقف عند حد معين لا تتجاوزه، فاليهودية على سبيل المثال وإن اشتملت ديانتها على كثير مما يصلح لأن يعمم على شعوب أخرى، لكن الصلة الوثقى التي بناها مفكروا اليهودية بين الدين اليهودي، وبين القومية الصهيونية أغلق النسق اليهودي؛ فلم يعد قادرا على ضم غير اليهود والصهيونيين إلى ذلك النسق، أو الانفتاح على أحد منهم. وحتى التشريعات أدخلت في ذلك النسق المغلق لتصبح كأنها خاصة باليهود تصلح لهم، ولا تصلح لغيرهم. ولكي يحكم علماء اليهودية إغلاق ذلك النسق كانوا يتواصون بعضهم مع البعض الآخر؛ بأن لا يتحدثوا بما ينزله الله عليهم من وحي، ويقول بعضهم لبعض ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:76). كما قالوا حين كلفهم الله (جلَّ شأنه) بأن يوصلوا أنوار الرسالة التي أنزلت على موسى لشعوب أمية هي أحوج ما تكون إلى أنوار الوحي الإلهي فكان ردهم ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران:75). وما زال ذلك الانغلاق قائما. والتعاون بين بعض الطوائف المسيحية بينهم كان بمبادرة من بعض الطوائف المسيحية التي أسست لإتجاهات ال Judeo-Christian وحتى في دخولهم الأرض المقدسة لوحظ فيه إدخالهم إلى الأرض بعد طول تردد، وإمتناع حين قالوا  ﴿وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ* قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (المائدة23:22). فهم أمة مدخلة، وقد تعهد لهم أنبيائهم بأنه لا خطورة عليهم في الدخول، ولستم بحاجة إلى ما فعلتموه بعدها ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة:24) فادخلوا عليهم الباب فقط، فمجرد دخولكم الباب فإنكم غالبون.

ذلك مثل النسق المغلق الذي لا يمكن أن ينفتح و إذا أريد له ذلك فلا بد من الكسر، لأن إرادة الاغلاق والانغلاق أقوى من كل ما يشجع على الانفتاح على الآخرين.

أما “النسق المفتوح” فيمثل له بالنسق الإسلامي، فهو نسق منفتح في خطابه على العالمين جميعا دون استثناء ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ والأرض كلها ميدان لهذا النسق فلا ينبغي أن ينغلق على أي جزء منها، فاذا انغلق عنها تحت ضغط ظروف معينة فإنه ينفتح عند زوال تلك الظروف أو العوامل ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107) وقال تعالى ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء:105) وفي الحديث جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ليحقق رسالته ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان:1) فالخطاب عالمي للبشر كافة ولا حدود في الأرض رغم الإنطلاق من الحرم، فالأرض المحرمة لم تكن ميدانا للنسق الاسلامي، بل كانت منطلقا ومثابة ونموذجا للأمن، وكان هناك حث وترغيب على الإقامة فيها، فلا يكون هناك فرصة للإنغلاق. والشريعة شريعة تخفيف ورحمة تستطيع البشرية كلها أن تأخذ بها وتستمتع بما فيها من عدل وأمن و حكمة ورفع للحرج ووضع للآصار والأغلال وحل للطيبات وتحريم للخبائث وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ويستطيع الناس كافة أن يقوموا بها بالقسط ويتفيئوا وارف ظلالها، والأمة التي ألف الله بين قلوبها وجمع كلمتها على هذا النبي الخاتم والكتاب الأخير القرآن هي خير أمة أخرجت للناس لتصل إلى كل بقاع الأرض ولتوصل الرسالة إلى البشر كافة ولتستوعب الناس جميعا فلا يزيغ عنها إلا هالك، فهي نسق مفتوح يكفي أن يوقن من يريد أن يستمتع بها بأن لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لكي ينعم بالحقوق، ويكون عليه أداء الواجبات، فذلك يكفي أن يجعل منه عضوا عاملا في هذه الأمة لا يتميز عليه أحد بأي شيء إلا بالتقوى.

والتقوى هي أمر كسبي يستطيع أن يحققه بذاته فيتميز بذلك عن من هم أقل تقوى منه، هذا النسق المنفتح يؤمن بوحدة البشرية وبأن الناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وأن الناس كلهم قد خلقوا من نفس واحدة وخلق الله منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، وأن الانسان فيها بعمله في دنياه وفي أخراه ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر:10)

ذلك هو النسق المفتوح ويقابله ذلك النسق الذي ذكرناه قبلا كنسق مغلق.

والقرآن المجيد منفتح بطبيعته قادر على التصديق على رسالات النبيين كافة والمرسلين والهيمنة عليها، وهو قادر في الوقت نفسه على استيعاب الكون وحركته وبيان سنن الكون وسنن الحركة فيه والتصديق والهيمنة عليها، وفي الوقت نفسه هو قادر على استيعاب الإنسان وحركته والتصديق على أفعاله والهيمنة عليها وتقييمها، وكل ذلك مع ملاحظة خصائصه وما فيه من حذف ومكنون وإمتداد وتحد ونظم وأسلوب بحيث لا يمكن غلقه على طائفة أو قوم أو بيئة جغرافية، إذ إن أي انغلاق تأباه طبيعته وترفضه، ولذلك فإنه يستوعب كل ما ذكرنا وأكثر بل ويتجاوزه، والمستوعب المتجاوز لا يسعه الانغلاق بأي شكل من الأشكال، فبمكنونه يستوعب الأعصار والأزمنة وسائر الأقوام ولا يستوعبه شيء، ولذلك فإنه لا التفسير ولا اللغة ولا أسباب النزول والتعريفات الإصطلاحية ولا قواعد النحو والصرف ولا الأساليب البلاغية يمكنها أن تستوعب القران ومكنوناته وما تحمله من معان ودلالات، كما أن التعاريف الاصطلاحية لا تستوعب كلماته ولا تستطيع أن تقيدها إلى أية معان ظرفية وفي أي ظرف أو زمن من الأزمنة. ومن هنا جاءت المقولة: (إنَّ القرآن حمال أوجه) وهو ليس كذلك، لكنه المؤسس للنسق المنفتح الذي لا تحده حدود ولا تقيده قيود. والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *