أ.د.طه جابر العلواني
حينما جئت مصر في المرة الأولى في حياتي كان ذلك في منتصف نوفمبر 1953م، وكان سني -آنذاك- فوق السابعة عشر بأشهر، واستطعت أن أدخل امتحانات البعوث المطلوبة، وتقدّمت لثانويَّة الأزهر ونجحت فيها. والتحقت بكليَّة الشريعة والقانون في السنة الدراسيَّة 1954/ 1955م ثمّ تخرّجت فيها، ثم حصلت على الماجستير ثم الدكتوراه. كل ذلك كان في مصر ولم أكن أغادرها إلا لأعود إليها، ومنذ أن عرفتها وعرفت كثيرًا من أهلها من أساتذة وطلّاب وجيران وشعوري بالانتماء إليها يزداد يومًا بعد آخر.
وأذكر من صفات المصريّ في تلك المرحلة، كونه إنسانًا طيب القلب سليم السريرة، يكرم ضيوفه ويهتم بهم، لا تستطيع أن تشعر وأنت تخالطه إلا أنَّك بين أهل وأقارب وأصدقاء، تحملك صفاتهم وأخلاقهم على احترامهم وحبهم والثقة بهم. وأنا في تلك السن المبكرة -دون العشرين- حينما لم أجد سكنًا في الرواق العباسيّ -الذي كانت حصة العراقيين فيه غرفتين، وكانتا مشغولتين بأربع من الطلبة العراقيين- استأجرت مع زميل لي شقة في العباسيَّة، بمبلغ اثنين جنيه ونصف، وفضّلت -آنذاك- أن أقتني دراجة هوائيَّة على أن أركب المواصلات من العباسيَّة إلى الأزهر؛ لأنَّ الدراجة الهوائيَّة -وإن كانت المواصلات آنذاك- مريحة إلا أنَّها تجنبني عمليَّة الانتظار، وتعطيني استقلالًا في الذهاب والإياب، وحريَّة لا تتوفر في المواصلات المشتركة.
ومن الطريف أنَّني ذهبت إلى محل يبيع الدراجات الهوائيَّة في أول الموسكي من ناحية الحسين، وبعد أن اخترت الدراجة وأردت معرفة الثمن ودفعه، طلب البائع ثلاثة عشر جنيها ثمنًا لها، بحثت في جيوبي فلم أجد أكثر من ثمانية جنيهات، فقلت للرجل: “للأسف ليس لدي المبلغ كاملًا الآن، فدع الدراجة لديك، وإنِّي مستعد أن أدفع عربونًا خمسة جنيهات لأعود غدًا ببقيَّة المبلغ وأتسلم الدراجة”، إذا بالرجل يبتسم ويقول لي: “لا والله، تأخذ الدراجة ولا تدفع شيئًا الآن، وغدًا حينما تأتي إلى الكليَّة ائتني بالمبلغ، فإذا لم يكن متوافرًا لديك وأردت أن تؤجل بعضه فلا مانع لدي”، وأبدى ولده أو أخوه الذي كان معه في المحل استغرابه، فإذا بالرجل يقول له: “انظر في وجهه، هل ترى في هذا الوجه إلاّ ما يدعو إلى الثقة والصدق؟ لا تقلق، إذا لم يأتِ فأسدفع لك ضعفيّ المبلغ”، وأصرّ وأقسم الأيمان على أن أركب الدراجة وأذهب. واستغربت لهذا الرجل يثق بإنسان غريب يراه للمرة الأولى لهذه الدرجة، لكن هكذا كان المصريّ يثق بالناس ويحمل الناس على أن يثقوا به ويحترموه.
وبعد أن أمضيت السنة الأولى في كليَّة الشريعة وتجاوزت الثامنة عشر من عمري، عرض عليّ أكثر من أستاذ من أساتذتي مبدأ الزواج من ابنة من بناتهم، والحصول على الجنسيَّة المصريَّة وترك العراق، فاستكثرت ذلك، خاصَّة أنَّ والدي كان ما يزال على قيد الحياة، ولم يسمح لي بمغادرة العراق إلا بعد أن استوثق منّي أنّني عائد بعد التخرج في الكليَّة والحصول على شهادة الليسانس. ولكن صادف أن كان لي جيران حيث كنت أسكن -آنذاك- في منطقة الموسكي، عرفتهم وعرفوني، وكانت لديهم ابنة رأيت أنَّها تصلح لي في تلك المرحلة المبكرة من العمر، ومع علمي بأنَّ ذلك قد يغضب بعض أهلي لكنَّني أردت ذلك، فذهبت إلى صديق لي وزميل دراسة هو الشيخ الدكتور علاء الدين خروفة من مدينة الموصل في العراق، وقلت له: “أود أن تصحبني إلى منزل أو محل جاري الذي يقابل منزله منزلي؛ لأنَّني أريد أن أخطب ابنته، ولا أريد أن أذهب وحدي”، وبالفعل لبس الأستاذ خروفة عمامته المميزة التي كان يلفها على طريقة مفتي فلسطين -يرحمه الله- وجُبَّته الشامية وصحبته، فنقر على الباب وخرجت البنت بنفسها وفتحت الباب، فقال لها: “إنَّني أريد مقابلة والدك، فأين هو؟” قالت: “هو في محله الآن”، كنت وصاحبي نعاني كثيرًا من التردد في مفاتحة الرجل -الذي لا نعرفه ولا يعرفنا- وخطبة ابنته، وهو على ما يبدو تاجر صعيدي له تقاليده، لكن شجعني الدكتور علاء وشجعته، وذهبنا إلى الرجل وسلمنا عليه في محل تجارته وقدّمنا أنفسنا، ثم قال له الشيخ علاء: “إنَّ زميلي هذا طالب في الأزهر في السنة الثانية من كليَّة الشريعة، ويرغب أن يعف نفسه ويستكمل نصف دينه، وقد رأى ابنتك فأعجبته، ولم يسبق له أن لقيها أو تكلم معها، فأراد أن يأتي إليك ويطلبها منك ولك بعد ذلك الأمر”، فقال الرجل: “كلموني عن أنفسكم أكثر، ولعلي أزوركم هذه الأمسية لأعرف كيف استطاع أن يرى ابنتي من داخل البيت”، وكان له ما أراد، فزارنا، ووقف في الشرفة التي كنت أجلس فيها للمذاكرة وهي مطلة على منزلهم والشرفة التي فيه، بحيث لا يستغرب أن يرى أي منَّا الآخر على تلك المسافة. وإذا بالرجل يستمهل يومين ويعود بنفسه بعد ذلك، ويقول: “يا بني، إن ابنتي هي الوحيدة عندي، وأنا لا أستطيع أن أفارقها، فإن أعطيتني كلمتك بأنَّك سوف تبقى في مصر بعد تخرجك، وتبقى ابنتي قريبة منّي فهي زوجتك من الآن، أمَّا إذا ما كنت مصممًا على العودة إلى بلدك فذلك أمر يجعلني أتردد؛ لئلا أفقد ابنتي نهائيًّا، فالعلاقات السياسيَّة بين البلدان العربيَّة لا تعطي طمأنينة كافية بأن أتمكن من زيارة ابنتي أو تتمكن هي من زيارتي عندما أريد”، شكرته على صراحته، وقلت له: “لقد وعدت أبي أن أعود إلى العراق، وهذا وعد قد سبق أي وعد آخر”. انصرف الرجل وعليه مخايل أسف، ولكن لم يمضِ يومان حتى جاءني زوج أختها الكبرى، وعرض عليَّ تزويجي من الفتاة دون علم والدها في الإسكندريَّة، وقال: “وحينما تعودان زوجين صدقني إنَّ العم سوف يستقبلكما دون أيَّة مشاكل”، قلت له: “لا أقبل وأبوها على قيد الحياة أن أتزوجها بهذه الطريقة، ولا بد من موافقة أبيها، وأن يكون هو مَنْ يقدمها لي”.
فهكذا كان المصريّ، وهاتان الحادثتان تدلان على تلك الطيبة وحسن الخلق، وكرم الضيافة، والثقة بالنفس وبالغير، ثم شاء الله -جلّ شأنه- أن أصهر إلى المصريين بعد أن بلغت سن الكهولة، فتزوجت الدكتورة منى محمد عبد المنعم أبو الفضل، وهي من أسرة معروفة، فأبوها الدكتور أبو الفضل أستاذ (pathology) لعدد كبير جدًّا من أطباء مصر، قلّ أن تجد طبيبًا في الستينيَّات أو السبعينيَّات لا يذكره، وأمها -يرحمها الله- الدكتورة زهيرة حافظ عابدين؛ والتي لقبت في عهد السادات بأم الأطباء المصريين، يرحم الله الجميع.
فجميع الصور التي رأيتها في مصر وشدتني إليها صور من مثل ما ذكرت؛ مشرقة متميزة، توحي بأنَّك حين تتعامل مع المصريّ إنَّما تتعامل مع إنسان نقي السريرة مضياف كريم يثق بنفسه ويثق بالآخرين، ولديّ نماذج كثيرة جدًّا أستطيع تقديمها، وحين كنت رئيسًا للمعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ وأسست للمعهد مكتبًا في مصر استطعت أن أستقطب كثيرًا من رجالات النخبة المصريَّة، وتعاملت معهم انطلاقًا من تلك المشاعر التي تكوّنت عندي وأنا على مقاعد الدراسة في الأزهر، وقضيت فترة عملي في المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ رئيسًا له، وكسبت أصدقاء جددًا، إضافة إلى مَنْ كنت أعرف، وقدر الله -سبحانه تعالى- وتوفي والد ووالدة زوجتي ثم توفيت زوجتي الدكتورة منى يرحمهم الله، وشعرت أنَّني في حاجة لأن أعيش في مصر أكثر من ذي قبل؛ لأكون بجوار مَنْ أحببت ومَنْ عرفت، وقريبًا من الجامعة العريقة التي تشرفت بالتخرج فيها من الثانويَّة إلى الدكتوراه، وليس لديَّ الآن منصب رسمي لا في المعهد وفي لا سواه، فأنا إنسان على المعاش بكل معنى الكلمة، لكن لديَّ نشاطي العلميّ، ومكتبًا صغيرًا يساعدني في إعداد دراساتي للنشر والطباعة وما إلى ذلك.
فما الذي رأيت؟ رأيت وجهًا لمصر -آخر- ما عرفته من قبل، فهؤلاء الذين كانوا يطلبون من مكتب المعهد مواعيد للقاء بي قبل وصولي إلى القاهرة، يحضر معظمهم اليوم إلى نفس العمارة التي أسكن فيها -التي لا يزال مركز الدراسات المعرفيَّة بها- إلى المركز، ويقضي بعضهم ساعات طوال فيه، وبين الدور الذي أسكنه والدور الذي فيه المركز أربعة أدوار، فالمركز في الدور الثاني وسكني في الدور السابع وفي العمارة مصعد، ومع ذلك فكل أولئك الذين كانوا يسعون لزيارتي ولقائي والجلوس إليّ ما وجدت منهم إلا جفاءً وانكماشًا، بل إنَّ بعضهم استكثر أن يعزي في وفاة مَنْ توفي، أو يحاول أن يطمئن ولو بالهاتف أو برسالة.
وأمَّا من حيث النشاط العلميّ فقد لاحظت نوعًا من الحصار الشوفيني، خاصَّة حين كتب أحدهم مقالة ناريَّة يعاتب الأهرام فيها على أنَّها كانت تنشر لي مقالات اجتماعيَّة ودينيَّة، وتضع صورتي إلى جانب صورة شيخ الأزهر السابق، والأخ سماحة مفتي الجمهوريَّة الشيخ علي جمعة، فكتب مقالة بعنوان «عزبة الأهرام»، وجاء فيها: (…أنَّه مَنْ هذا العراقيّ القادم لنا من أمريكا الذي قدمته الأهرام على المفكرين المصريين ليكتب لها في الشأن الدينيّ والاجتماعيّ وما إلى ذلك، وهل عقمت مصر لكي نذهب إلى هذا العراقيّ؟)، لم يقل ذلك أحد من الليبراليين ولا من اليساريين ولا الاشتراكيين، بل للأسف جاء ذلك على لسان هذا الأخ الكريم الذي ينتسب إلى الإسلاميين. عفا الله عنا وعنه وغفر لنا أجمعين.
أنا لا أعتب على أحد بعينه، لكنَّني فقط حاولت أن أرصد ظواهر تغيَّر فيها الناس، لها دلالاتها العميقة، لعل هناك باحثين آخرين يستطيعون دراسة هذه التغيُّرات، ومعرفة أسبابها.
أمَّا الإخوان المسلمون فلي بينهم أصدقاء كثيرون، وتلامذة عديدون، ومع ذلك فقد مرضت في 2011م ولازمت المستشفى ما يقرب من أربعة أشهر مريضًا غريبًا وحيدًا، فما زارني منهم -إلا شخصين- زيارة واحدة، أعلم أنَّهم مشغولون، وفي الوقت نفسه لطالما اتهَمَنَا الأمريكان وغيرهم بأنَّنا من الإخوان المسلمين ومن المروّجين لأفكارهم … إلخ، أعلم أنَّ أشغال الناس كثيرة، وأعلم أنَّ المتقاعدين أمثالي يمثِّلون تاريخًا، والناس يتطلعون إلى المستقبل لا إلى التاريخ، ولكن نرجو أن تكون هذه الظاهرة موضع دراسة. وينسب إلى الرفاعي قوله: “كم طيرت طقطقة النعال حول الرجال من رأس وكم أهذبت من دين”، فنحن لا نريد طقطقة نعال ونحن مشغلون عن هذا، ولكن نريد أن تدرس الظاهرة، وترصد أسبابها، ويتعلم الناس كيف يتخلَّصون من بعض النزعات الضارة ويبرئون إلى الله منها، فالقلب السليم هو وسيلة المسلم إلى دخول الجنة: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء:89)، والقلب الذي تملؤه الشوفينيَّة والحسد والبغي فإنَّه يكون مطيَّة الشيطان.
ولما سبق فقد أكثرت من ترديد قول الشاعر:
فَمَا النَّاس بِالنَّاس الذينَ عَرَفْتُهُم | وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُ |
حيّاك الله يا مصر وحماك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.