أ.د: طه جابر العلواني
استمعت الليلة البارحة إلى الحوار الممل والمزعج، الذي قاده الأستاذ وائل الإبراشي، الذي لا أشك في كفاءته الإعلاميَّة، لكنَّه لم يكن موفقًا في اختيار المتحاورين وفي إدارة الحوار الذي كان يبدو انحيازه فيه إلى بعض المتحاورين بشكل لم يستطع أن يخفيه، وجرى النقاش والأخذ والرد حول موقف “الشريعة الإسلاميَّة” من قضيَّة نكاح القاصرات أو البالغات سن البلوغ دون بلوغ سن الرشد والتأهيل لإدارة أسرة!!
صمم الأستاذ الذي كان يمثِّل الإسلاميّين في اللجنة التأسيسيَّة لكتابة الدستور في ذلك الحوار على أنَّ من بلغ الحلم أو بلغت فهو صالح للزواج، وتحمُّل مسئوليَّة إدارة بيت وأسرة. وفي زلة لسان قال: “حتى لو كان عمر البنت تسع سنوات”. أمّا الطرف الثاني في الحوار فكانت أستاذة حقوقية تعتبر تزويج البنت البالغة بيولوجيًّا، غير المؤهلة للزواج على مستوى الخبرة وتحمل المسؤولية “زواجًا قاصرًا” ينافي جميع التشريعات والبيانات الصادرة عن المنظمات الدوليَّة، أمّا الطرف الثالث فكان الأستاذ وحيد الذي حاول أن يكون محايدًا في النقاش، ثمّ تدخل أستاذان آخران وحمي الوطيس.
لم يدرك المشاركون في هذا الحوار معنىً أساسيًّا وهو الفرق بين الشريعة والفقه. أمّا الشريعة فهي وضع إلهيّ سائغ لذوي العقول، أنزل الله في كتابه أصولها وأساسيّاتها وكليَّاتها، وهي واحدة لدى الأنبياء كافَّة، وقد تختلف في فروع يسيرة تفرع على تلك الأصول والكليَّات: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ (الشورى:13).
إنَّ البيئة العربيَّة في عصر النبوَّة أو بعدها لا تصلح أن تكون مقياسًا للبشريَّة كافَّة، فقضايا الخطبة والنكاح والزفاف، والطلاق، وسائر الأمور المتعلقة بقضايا الأسرة هي من أشد الأمور تعقيدًا؛ لأنَّها تختلط فيها الأعراف والعادات والتقاليد، وتوجيهات الشرائع، وفقه المشترعين؛ ولذلك فحين نقرأ آيات الكتاب الكريم في سورة البقرة من قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة:221) إلى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:242)، نجد شريعة القرآن في هذا المجال قد مزجت بين السمع والعقل والعرف والعادات والتقاليد، بطريقة معجزة لا يمكن أن نجدها إلا في كتاب الله، في حين كان الفقه دائمًا وفي كل بلد من البلدان تترجح فيه الأعراف والتقاليد، وتحوَّل آيات الكتاب وسنن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- إلى شواهد وأدلة معضدة، فهي لا تُنشئ الأحكام، ولكنَّها تعضد ما أوصلت له الأعراف والتقاليد وما إليها؛ ولذلك نرى في الفقه أبوابًا خطيرة، مثل: باب الكفاءة في النكاح، الذي دخل الفقهاء فيه في قضايا الأنساب، فالهاشميَّة لا يكافئها إلا زوج هاشميّ، فإذا تزوجها غير هاشميّ فلذويها أن يفرضوا عليها فسخ ذلك النكاح بقوَّة الفقه، لمجرد أنَّ الرجل في نظرهم ليس كفئًا في نسبه لها.
وقد فرقت محكمة في المملكة العربيَّة السعوديَّة قبل حوالي سنتين بين زوجين سعيدين، أحدهما كان حسب تعبير إخواننا في المملكة (خضيري) وكانت الزوجة قبيليَّة. والقبيليَّة في أبواب الكفاءة لا يكافئها إلا قبيليّ مثلها. وليكون القراء على بيَّنة فإنَّ أيَّة سعودية من بنات القبائل (شمر أو عنزة أو مطير أو عتيبة) لا يقابلها إلا قبيليّ مثلها، فلو تزوجت السعوديّة القبيلية مصريًّا من الأشراف أو من أهم قبائل الصعيد أو من العراق أو من الشام فإنَّ من حق ذويها أن يفسخوا ذلك النكاح، والفقه والقضاء معهم. والأسرة التي فكّكها القاضي المشار إليه كان لها طفلان، هذا قضاء الفقه؛ لأنَّ الفقه يقنن للأعراف والتقاليد.
أمَّا الشريعة فهي التي تضبط حياة الناس بضوابط شرعها الحكيم الخبير الذي يعلم من خلق، فلو أنَّ هؤلاء الإخوة المتحاورين والأخت الحقوقيَّة التي معهم فرقوا بين الشريعة والفقه، وأدركوا ذلك لأراحوا الأستاذ الإبراشي ومستمعيه من كل ذلك الصداع الذي صموا آذاننا فيه. وأتوقع أنَّ هذا النوع من الصداع سوف يستمر يضرب برؤوسنا نحن المصريّين أو المقيمين في مصر ما دام الذين يعملون في قضايا من هذا النوع لا يضعون الأمور في نصابها، ولا يفرقون بين الشريعة والفقه.
الخلاصة: أنَّ الشريعة وضع إلهيّ جعله الله هاديًا وضابطًا ومقيِّما لأفعال الإنسان القلبيَّة والذهنيَّة واللسانيَّة، وما تقوم به الجوارح، وعليه يتوقف الابتلاء والجزاء. وأمَّا الفقه فهو: معرفة الأحكام الشرعيَّة الفرعيَّة المكتسبة من أدلتها التفصليَّة. وأهم الفروق بين الشريعة والفقه أن الشريعة تعود لله –جلَّ شأنه- فهو الذي ينشئ الأحكام، وهو الذي يكشف عنها: ﴿… إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ …﴾ (الأنعام:57)، وأمَّا الفقه فإنَّه فهم إنسانيّ في الشريعة وأدلتها يخطئ ويصيب، فإذا كان الفقيه من أهل الاجتهاد فإنَّه إن أصاب في اجتهاده كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد. والبشر ملزمون بتطبيق الشريعة، وأمَّا الفقه فيلزم أصحابه فقط، ومن يقلدهم؛ لأنَّه قائم على اجتهادهم.