Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الشخصيَّة العراقيَّة بين القيم ودمارها

أ.د.طه جابر العلواني

لقد كانت الشخصيَّة العراقيَّة فيما مضى شخصيَّةً يُشار إليها بالبنان بين العرب لكثرة مزاياها وكرم سجاياها، حيث كان العراقيُّون -ولا فخر- معروفين بالكرم وتقديم إخوانهم على أنفسهم عند الضرورات، حتى قال شاعرهم الرصافي:

أمَّة قد فت في ساعدها بغضها الأهل وحب الغربا

وكان العراقيُّون -فيما عهدناه- لا يسألون أخاهم برهانًا على قوله حين يندبهم للنائبات، وكانت أعراض العراقيّين مُصَانة، فكثيرًا ما يفتدي العراقيّ عرضه بنفسه وبكثير من المبالغة أحيانًا. وحين بدأت موجة الانقلابات العسكريَّة، ثم الانقلابات الحزبيَّة العسكريَّة كنت من أشد الناس خوفًا، لا على أموال العراق ولا على تاريخه الحضاريّ، لكنّني كنت شديد الخوف على المقوّمات الأخلاقيَّة لذلك الإنسان الذي عرفنا فيه كل تلك السجايا الطيبة، وكنت أقول إنَّ قيادة الجهلاء والأحزاب الانتهازيَّة سوف تودي بتلك السجايا والمزايا. وحين كان يتحدث الناس عن أخطاء النظم الانقلابيَّة والحزبيَّة السابقة ويتناولون مخاطر تلك النظم على الاقتصاد والسياسة والموارد والثروات، كنت أعلن أنَّ ذلك كلّه أقل بكثير من التهديدات التي تواجهها النّفسيَّة العراقيَّة. وقد وقع ما كنت أخشاه، فلقد رأينا حين أسند التعليم في العراق إلى قيادات جزبيَّة جاهلة طيلة فترة النظام الحزبيّ العسكريّ من 1968 إلى 2003 كم تغيّرت النفسيَّة العراقيَّة.

لقد بدأت أجهزة الاستخبارات العملاقة -التي أتقنت الأنظمة السابقة صناعتها- تجنيد الابن ضد أبيه، والأب ضد ابنه، والأخ ضد أخيه، والمرأة ضد زوجها، بل بلغت حد تسليط الأطفال على أسرهم وجمع المعلومات التي يقولها هؤلاء الأطفال ببراءة عما يدور في بيوتهم لتتحول إلى وسائل إدانة لآبائهم تبلغ حد الإعدام بناءً على زلة لسان طفل؛ فقد يقول إنَّ أباه كان يبصق على التلفاز عندما تظهر صورة رأس النظام، فيعود الطفل إلى بيته ظهرًا ليجد أنَّ أباه قد سيق بناءً على كلمته البريئة تلك إلى ساحة الإعدام. وربما يخبر الأب عن مكان ابنه الذي هرب من الجبهة في الحرب المفروضة ضد إيران ليعدم، ويحصل الأب وبقيَّة العائلة على قطعة أرض وسيارة ومبلغ تافه من المال، ويظهر الأب الواشي أو الأم على شاشة التلفاز يقلده رئيس النظام الأوسمة والأنواط، ويشيد ببطولته وتعاليه على العواطف الصغيرة -على حد زعمهم- في سبيل العواطف الأكبر تجاه القائد والزعيم والحزب والشعبة والخليَّة والطلائع وما إلى ذلك. وبذلك أظلمت النفوس وتغيَّرت، وسادت القسوة.

إنَّ العراقيّين محتاجون اليوم -مثل كثير من شعوبنا العربيَّة- إلى إعادة تأهيل لتزيل من عقولهم ونفوسهم وسلوكيَّاتهم جميع تلك الآثار السلبيَّة التي حدثت نتيجة قيادة الجاهلين وسيطرة الفاشلين وتحزّبات الحزبيّين. وما المعاناة التي يعانيها العراقيُّون كافَّة منذ 2003م حتى اليوم -وقد تستمر إلى ما شاء الله- إلا امتدادًا واستمرارًا لتلك التخريبات النفسيَّة والجراحات الذاتيَّة التي وقع الناس بها. لكن الناس يتعلّقون بالعاجلة، وأحيانًا يحنّون إلى ذلك الماضي فقط لأنَّهم شاهدوا أوضاعًا أسوأ أو أشد أو أكثر دمويَّة وفُرقة، خاصَّة إذا صاحبها احتلال، ولا تعتبر بجذور الفتنة وأسس المصائب كيف نبتت وكيف انتشرت. وأنَّ مطر الأيام الحالية والمستقبلة إنَّما هو من ذلك الغيم والسحاب الذي تكوَّن في تلك السنين التي قد يحن إليها الجاهليون، وينظرون إليها على أنَّها كانت أفضل وأحسن، وهي ليست كذلك بل هي الجذور والأصول لهذه الفروع؛ ولذلك فإنَّ أخشى ما نخشاه أن تبدأ موجة جديدة للانعطاف حول ماض لم يذق الشعب المرَّ إلا من جذوره؛ ولذلك فكم نتمنى أن يتنبه العراقيُّون إلى أنَّ الحل ليس في العودة إلى الماضي، ولا إلى سياسات الماضين، بل في العودة إلى الله (ففرو إلى الله جميعًا أيها المؤمنون) والعودة إلى الذات، وإعادة بنائها بشكل سليم وفقًا لهدي الكتاب ومنهج السنَّة في تنزيله على الواقع وتطبيقه… والله من وراء القصد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *