أ.د.طه جابر العلواني
تمهيد:
في ميدان التحرر اجتمع الناس على “إسقاط النظام” واجتمع الآباء على “إجلاء المستعمر” فالخطاب الناجح هو ذلك الذي يطرح من الأهداف ما يجتمع عليه أكبر عدد ممكن من أبناء الأمة لينخرطوا في تيار العوامل تركز أحيانا على العوامل الخارجية، وأحيانا على الإصلاح والمراجعات الداخلية.
وهذه الرؤى يمكن إيجاد ظروف تجمع بينها إذا كان الشعب معنيا بها، التيار الإسلامي، والتيار الإقليمي العلماني، والتيار الليبرالي.
تحديد ملامح المشروع الحضاري.
القواسم المشتركة بين الحركات والفصائل الموجودة في البلد.
دفن النفايات النووية.
إسرائيل.
فلسطين.
وحدة الأمة.
الشريعة وتطبيقها، عروبة مصر، إسلامها، فرعونيتها.
الإسكان.
الأمن العذائي.
القضايا الخارجية: الديمقراطية/ الليبرالية/ حقوق الإنسان.
العراق.
أفغانستان.
الفرق بين الإصلاح المؤسسي والإصلاح الفكري.
إنَّ جذوة الاستعلاء الإيمانيّ ما تزال متّقدة قويَّة بالرغم ممّا أصاب الإيمان من غبش: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106)، هذه الجذوة هي بعض ما يحول بين الأمَّة وبين إدراك حقيقة وحجم التراجع الذي ابتليت به، فضلًا عن الاعتراف بذلك، والبحث عن سبيل الخروج منه، فهي مفيدة للمحافظة على بعض معنويات الأمَّة والحيلولة بينها وبين السقوط في درك الإحباط، ولكنّها -في ذات الوقت- قد لا تسمح للأمّة برؤية الواقع المرّ على حقيقته.
سؤال النهضة:
إنَّ النقد الذي وجِّه لأوضاع الأمَّة -من مفكرينا وكتَّابنا ومن الآخرين- غاية ما أدَّى إليه أنَّه جعل الأمَّة تشعر -بمستويات مختلفة- أنَّها لم تعد كما كانت في ماضيها، وأنَّ أحوالها قد تغيَّرت، وفقدت أشياء كثيرة حسنة كانت لديها فيما مضى. أمَّا ما هو حجم ما فقدت وكيف فقدته ولماذا فقدته؟ وهل من الممكن استعادته أو تعويضه؟ فهذه أسئلة لم تحظَ من المفكرين بصياغات دقيقة، فما بالنا بالإجابات الدقيقة عنها؟ ويقولون: “إنَّ السؤال نصف الإجابة” فإذا صاغ المتسائل سؤاله بدقة، وأتقن تلك الصياغة، فقد شقَّ إلى الجواب طريقًا يبسًا لا يخاف فيه دركًا ولا يخشى، وصراطًا مستقيمًا لا تنحرف به السبل، ولا تزيغ به الأهواء؟ أما إذا أخطأ في صياغة السؤال أو قصَّر في ذلك فإنّ من العسير عليه أن يحصل على الجواب المناسب.
لقد اتفقت كلمة المفكرين المسلمين منذ قرنين أو أكثر على أنَّ سؤال النهضة والبعث والإحياء والتجديد الأول هو: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وصار هذا السؤال الموجِّه الدائم المستمر لكل ما كتب عن النهضة والإحياء والبعث والتجديد والسيادة والاستقلال والفقه الحضاريّ، وما إلى ذلك من مفردات الخطاب في الكيان الاجتماعيّ الإسلاميّ ومنه العربيّ والفارسيّ وعالم الملايو والهنديّ الإسلاميّ … إلخ.
إنَّ صياغة السؤال بذلك الشكل فيها نظر، فكان يمكن أن يكون: «لِمَ لم تحتفظ الأمَّة المسلمة بوحدتها وتماسكها وانطلاقها وطاقاتها ومكانتها وتقدّمها؟» مثلًا، أو: «كانت الأمَّة المسلمة منذ تكوينها في النصف الأول من القرن الميلاديّ السابع القوة الأولى والعظمى على وجه الأرض، ثم دبَّت إليها عوامل الضعف حتى بلغت ما بلغته اليوم، فما هي مقوّمات قوّتها وكيف ولِمَ ولماذا وأيّ شيء جعلها تفقد تلك المكانة وتتراجع عنها؟! أهو ضعف في مقوّمات التكوين، أم قوّة عاتية في التحدّيات، أم تغيّر في الرؤية وضعف في الالتزام بمقوّمات التكوين، أم استرخاءٌ فَتَحَ الثغرات وأضعفَ الطاقات، أم فقدان للقيادة، أم انحراف عن المنهج؟ أم ماذا؟!».
فالسؤال أو الأسئلة ينبغي أن تشتمل على وعي دقيق بالنشأة الأولى وعوامل تكوين جيل التلقي، ورصد لسائر مقوّمات النشأة والتكوين، وتحديد سائر عناصر القوة فيهما، واستنباط الخصائص الذاتيَّة للأمَّة من خلال ذلك -كلّه- ثم تتبّع صيرورتها ومسيرتها التاريخيَّة لتحديد بذور الانحراف والتراجع وتحديد ما يمكن اعتباره من الأعراض الذاتيَّة أو الأعراض الجانبيَّة، إذ إنَّ لطرائق الناس في التفاعل مع رسالات الأنبياء وسيرهم مناحيَ شتىَ تنتج عنها أعراض جانبيَّة قد تؤثّر سلبًا على فهم وفقه الإنسان لأدق الأفكار والتصوّرات، والنصّ أو الخطاب -في هذه الحالة- لا يكونا مسؤولان عن ذلك، بل المدارك الإنسانيَّة التي تعاملت معهما؛ النصّ أو الخطاب. كذلك كان المفروض أن يكون لدى الكاتبين في مشاريع الإحياء والتجديد إلمامًا بمهام النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- والإنجازات التي تمّت على يديه الشريفتين، وكيف تمّت في كل من مكة والمدينة، ثم في جزيرة العرب، وكيف تقرأ سيرته العطرة بالقرآن المجيد؟!
نظرة على بداية الأزمة:
إنَّ تحديد بداية ذلك التراجع يحتل أهميَّة بالغة! فإنَّ مَنْ يحدّد بداية التراجع بوفاة رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وقيام أبي بكر بالمسؤوليَّة القياديَّة بعده، وتجاوز سيدنا عليّ -كرم الله وجهه- الفكر الشيعيّ يختلف عن رؤية من يرى أنَّ القلوب قد تغيَّرت بعد دفن رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم- مباشرة: (حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان ثنا جعفر بن سليمان ثنا ثابت عن أنس قال: لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -صلّى الله عليه و سلّم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وقال: ما نفضنا عن رسول الله -صلّى الله عليه و سلّم- الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا([1])). وهو غير مَنْ يرى أنَّ بداية التغيّر حدثت مع الفتنة الكبرى أو أنَّها الحروب الأهليَّة صفّين والجمل أو أنَّها سقوط الخلافة الراشدة وبداية المملكة الأمويَّة التي أسست للملكيَّات التالية، أو أنَّها الحروب الصليبيَّة وسقوط القدس، أو أنَّها سقوط بغداد أو غرناطة أو كليهما!! إذ إنَّ لتحديد البداية أثرًا كبيرًا في صياغة سؤال النهضة ثم صياغة جواب السؤال؛ لأنَّ هناك كمًّا هائلًا من الأفكار يستدعيها تحديد البداية -بداية الأزمة- فهناك الرؤية والشخصيَّة المسلمة بما تنطوي عليه من عقليَّة ونفسيَّة، والوحدة والفرقة، والوعي بمصادر التكوين، واضطراب الأولويَّات، والفتح والآثار التي ترتبت عليه، ومحاصرة القرآن المجيد -بعد هجره- بالتفاسير الإسرائيليَّة والتأويلات البشريَّة، وافتراض وجود وحي غير القرآن -مثله- يمكن أن يوصف بمثل صفات القرآن، ويمكن أن يؤدي مثل وظائفه. ونشأة الفقه واتخاذه بديلًا عن الكتاب الكريم والسنَّة النبويَّة المطهرة لبروز فرضيَّة اشتماله عليهما أو على مقاصدهما. وتكريس مكانة أئمة الفقه، وشرعه التقليد، وحصر الاجتهاد في دوائر الفقه الأصغر والجهاد في إطار الفتح وأزمات المعارف الأخرى؛ مثل علم الكلام، وجمع السنن والآثار في بادئ الأمر دون إسناد أو عناية به إلا في وقت متأخّر، أو تصحيح مرويات الرواي بطريق السير وظهور الفرق والمقالات، والاستبداد، وانتفاء الشورى، وقسوة القلوب، وضعف التوحيد والتقوى، وتحويلها -مع التزكية- إلى برنامج خاص بطائفة من طوائف الأمَّة هم الزهاد ثم الصوفيَّة، وتسليط التأمُّلات والعرفان والوجدانيَّات على الوحي، وإخضاعه للتأويلات البعيدة والقريبة والإشارات ونوع من الفهم الباطنيّ.
السلف الصالح، والقرآن:
إنَّنا -اليوم- ونحن نحاول الرد إلى الأمر الأول، واتخاذ كتاب الله -تعالى- هاديًا ومرشدًا، نشعر بأنَّ ذلك يحتاج منَّا إلى أخذ موافقة موقَّعة موثَّقة من السلف الصالح على ذلك، ومفهوم السلف الصالح نفسه يختلف من فرقة لأخرى ومن طائفة لطائفة؛ لأنَّه قد استقر في الأذهان والعقول أنَّ فهم السلف الصالح للكتاب هو الفهم الصحيح الملزم لنا وللأجيال القادمة إلى يوم الدين، فطرائقهم في الفهم -المنبثقة عن سقفهم المعرفيّ- ليست عرضة للخطأ كما أفهم الفقهاء جماهير الأمَّة وجمهرة علمائها؛ الذين لم يجدوا غضاضة في تنزيل ما وصلوا إليه وما فهموه وما استنبطوه من قواعد وفقه موروث منزلة الوحي، بل إنَّه -عند بعضهم- يغني عن الوحي، وأنَّ السلف قد قاموا بجميع أنواع التدبُّر والتفكُّر والاستنباط؛ فما علينا إلا أن نقلّدهم ونتابع خطواتهم، فقد أغنوا وكفوا من بعدهم تمامًا عن سائر العمليّات الذهنيّة وما علينا إلا جمع ما فرّقوه، وقراءة ما تركوه، واتباعهم فيما ورَّثوه. أمَّا فهم الخلف فهو فهم قاصر مهما كان، وكأنَّه ليس لنا أن نتدبر القرآن، فتدبُّر القرآن كلّف به غيرنا، وتيسيره للذكر ارتبط بسوانا، ولم يستطع الكثيرون أن يدركوا بأنَّنا بذلك قد سقطنا في براثن أزمة هجر القرآن وتقديم غيره عليه ومحاولة الخروج عن محوره، وابتغاء الهدى من خارج بصائره.
عودة للسؤال مرة أخرى..
إذن.. لماذا تأخر المسلمون؟ بهذه الصياغة سؤال خاطئ، ويمكن استبداله بسؤال: كيف ولماذا لم يمتد المسلمون برسالة الإسلام ولم يوصّلوها إلى العالم كلّه، وهم يعلمون أنَّ القرآن كتاب كونيٌّ وخطاب عالميٌّ لا يمكن أن يعلَّب في ثقافة أيّ جنس أو لغة أو حضارة أو إطار بشريّ أو يحصر في منطقة جغرافيَّة محدّدة؟ إنَّ ثمَّة مَنْ لا يعرف عظمة وقيمة ما فعله رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم- في المدينة المنورة! لقد بنى مجتمعًا، وكيانًا اجتماعيًّا، وأسس أمَّة، وأوجد مدنيَّة؛ لتصل الرسالة برؤيتها وعقيدتها والكتاب وتأويل النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وتفعليه لآياته في الواقع المعيش إلى العالم كلّه، وذلك عبء يحمله الدعاة الربَّانيون والعلماء الفاقهون المهديّون، لا الغزاة الفاتحون.
لقد أسّس -صلّى الله عليه وآله وسلّم- لعالميَّة الهدى ودين الحق والقيم الكونيَّة، وحين تغيّرت القلوب إلى درجة القسوة، وطال على الناس الأمد، تغيّرت الرؤية وانحرف الفهم، وولدت -في إطار انحراف القيم- مفاهيم خاطئة كثيرة أشرنا إلى بعضها، وما يزال كثير منها في حاجة إلى الكشف عنه وبيانه. ولم يقتصر الانحراف على المفاهيم المتعلّقة بالعقيدة، بل جاوز ذلك إلى كثير من المفاهيم المتعلّقة بنظم الحياة وطبيعة الرسالة وخصائص الشريعة، ومقوّمات التصور الإسلاميّ، ودعائم الخطاب.
الأزمة الفكريّة:
لقد أطبقت كلمة مفكري الأمَّة وقادة الرأي فيها على أنّ الأمَّة تعيش من عقود أو قرون حالة أزمة فكريَّة وحضاريَّة وعمرانيَّة، وقد انعكست هذه الأزمة الفكريّة على الاعتقاد والرؤية الكليَّة القائمة عليهما، كما انعكست على السلوك والمعاملات ونظم الحياة السياسيّة والاجتماعيَّة والتربويّة والاقتصاديّة والثقافيَّة. وبعد تفكيك الأزمة لبناء الأمَّة الخارجيّ والأسوار المحيطة به بدأت بتفكيك البناء الداخليّ، والإضرار بمواقف الأمّة من كثير من الأمور التي كان يظن أنّها قد رسخ بناؤها وصارت جزءًا من مسلّماتها؛ مثل قضيّة العلاقة بين النصّ والعقل والأفكار والمواقف المترتبة على الاضطراب في تحديد تلك العلاقة وضبطها بموازين القرآن المجيد. ومن أبرزها -كذلك- تحديد مرجعيَّة تقييم الفعل الإنسانيّ وبيان مراتبه وكيفيَّة حدوثه، ثم قضيَّة أخرى لا تقل خطورة عّما تقدم؛ وهي قضيَّة الجبر والاختيار التي حسمها القرآن وبيَّنها أجلى بيان. وقد كان للاضطراب في هذا الأمر أثره البالغ في الاضطراب في بناء إرادة الأمَّة وإدراك الفروق بين الإرادة الإلهيَّة والمشيئة وعلاقة كل منهما بإرادة الأمَّة وإرادة الأفراد، والعلل والأسباب والشروط. كما اضطربت الرؤية في الإمامة العظمى مفهومًا وشروطًا ووسائل وأدوات، وما إذا كان الرجوع فيها إلى النصّ، أو إلى الأمَّة وخبرتها ومخزون تجاربها، مع الاهتداء بالوحي في الأصول والمقاصد والغايات. وكذلك الموقف من الواقع التاريخيّ، وبيان هل له حجيَّة مّا أو هو مجّرد سوابق تاريخيَّة نستخلص منها الدروس والعبر؟
إنسان العصر ما بين القرآن وأزمة الأمّة:
إنَّ القرآن المجيد كلمة الله، إذا لامست الفطرة الإنسانيَّة فإنَّها تحدث تغييرًا عجيبًا في كينونة الإنسان وتعيد صياغة شخصيّته عقلًا ونفسًا، وتغيّر الدنيا من حوله. ولن تلامس كلمة القرآن الفطرة الإنسانيَّة للإنسان المعاصر إلا إذا استيقن الإنسان أنَّه مخاطب بالقرآن العزيز، بل يجب أن يحمل نفسه على الشعور بأنَّه -وحده- المسؤول عن حمل هذا الكتاب وتلاوته على البشريَّة وتعليمها إيَّاه، وتزكيتها به.
لقد شغلتنا الفرق قديمًا بمسائل غير مجدية؛ مثل: مسألة خلق القرآن ونزوله على سبعة أحرف والقراءآت والاختلاف فيها والنسخ والتشابه وما إلى ذلك مما يتصل بالشكل. واليوم ينشغل الناس بما أطلق عليه الإعجاز العلميّ في القرآن الكريم، وكأنَّه نصيب العصر الراهن من القرآن المجيد، وغايته منه، وما علموا أنَّ قصارى ما يأتي به الإعجاز العلميّ هو إسقاط ثقافة العصر على القرآن المجيد، لا هداية العصر بالقرآن. ثم بدأت موضة الاستشفاء بالقرآن لإخراج الجن والشياطين الذين يخترقون البشر من أصابع أرجلهم! إنَّ كثيرًا من الدعاة والمصلحين يكثرون من ذكر المبشّرات، ويقتصدون كثيرًا في وصف الواقع بما هو عليه -دون محاولات منهم لنقده- بشمول ودقة تسمح لمستويات أبناء الأمَّة -على اختلافها- رؤية الواقع كما هو وعلى حقيقته. إنَّ كثيرًا منهم يرون أن ذلك قد يؤدي إلى إحباط يشل بقيَّة الطاقة الضئيلة المتبقية لدى الأمَّة.
نعلم أنَّ هناك اتجاهين يسلكهما الأطباء المحدثون مع مرضاهم: فهناك مَنْ يرى ضرورة مصارحة المريض بحالته كما هي، على اعتبار أنَّ ذلك سيجعل المريض أكثر تعاونًا مع الطبيب، وأشد حرصًا على تنفيذ مقترحاته! وهناك مَنْ يرى أنَّه لا بد من إخفاء بعض المعلومات عن المريض لئلا يدركه اليأس فيتمرد على وصايا أطبائه، ويستعجل الهلاك، ويفشل الطب والطبيب في معالجته. هذا بالنسبة للأفراد، أمَّا بالنسبة للأمم فإنَّ الأمر قد يختلف؛ فنحن في حاجة إلى مصارحة الأمَّة مصارحة تامة بحقيقة حالتها؛ لأنَّ نسيج الأمَّة إذا كان فيه مَنْ سوف يحبط إذا عرف حجم التدهور والتراجع ودرك الانحطاط، فإنَّ هناك فصائل عديدة سوف يحملها ذلك على مضاعفة الجهود في البحث عن كل ما من شأنه أن يساعد على الخروج من حالة التدهور، فالأمَّة سوف يكمّل بعضها بعضًا، وإذا حدث خلل في التوازن نتيجة الصدمة، فإنَّها تستطيع أن تستعيد توازنها في وقت مناسب. إنّ القرآن المجيد كثيرًا ما صارح الأمم بأحوالها دون تزويق أو تخفيف، والله -تعالى- أرحم بعباده من الناس! فلا بد من تحليل جذريّ وتقييم شامل لسائر أحوال الأمة، وبيان سائر أسباب التدهور، وذكر أساليب العلاج الفاشلة، بتجرد وحِيدة دون تحيّز أو خوف أو وجل، ووصف الدواء المناسب مهما كان مرًّا أو كانت نظرة العامّة والمخالفين إليه، ودون التفات إلى أنَّ هذا العلاج مأخوذ من قديم أو حديث، أو إن كان مزيجًا من فهم قديم ووعي حديث. وهذه الصراحة لا ينبغي أن تزعج أحدًا، ولا ينبغي احتواؤها بمزيد من التأكيد على قضايا الاستعلاء الايمانيّ. فالأمَّة في وضع من التمزّق والاضطراب جعلها على حافة هاوية لاينقدها منها إلا الله تعالى.
الحالة الراهنة:
إنّ الحالة الراهنة تُعد امتدادًا للحالة التي ترتّبت على هزيمتنا بعد الحرب العالميَّة الأولى في أوائل القرن الماضي، وتفكّك الدولة العثمانيَّة، وفشل الثورة العربيَّة (9 شعبان) 1916م، واتفاق سايكس وبيكو على اقتسام العالم العربيّ بين بريطانيا وفرنسا.
وهذه الحالة تغيَّرت صورها وأشكالها ولم تتغيّر حقيقتها التي تتلخّص بتجزئة الأمَّة، وإلحاق كل جزء بجهة من الجهتين، وفجأة وجدنا أنفسنا اثنتين وعشرين قطعة أو دولة -في المحيط العربي وحده- تعيش هذه القطع أو الدول حالة استبداد داخليّ مع نفوذ أجنبيّ خارجيّ يصل أحيانًا إلى مستوى التبعيَّة التامَّة أو التبعيّة غير التامَّة، لكنّها يمكن أن تكون تامَّة في الوقت الذي يريده الأجنبيّ. ومع التبعيَّة الخارجيَّة والاستبداد الداخليّ تنشأ حالة تحلّل دكتاتوريّ، حيث يتعذر على الجماعة السياسيّة في أيّ بلد أن تحافظ على تماسكها أمام هذين الغولين، كما يتعذر عليها أن تضع أهدافًا مشتركة تستطيع الإجماع أو التوافق عليها في الحد الأدنى؛ ولذلك فلا غرابة إذا ما وجدنا الجميع في حالة تبعيَّة بعد مرور ما يزيد على قرن على وقوعنا في تلك الحالة، فنحن مازلنا -منذ القرن التاسع عشر- في وضع تبعيَّة للمركز الغربيّ المهيمن. وقد اتخذت تلك التبعيَّة أشكالاً عديدة اعتمدت على القوة، ممثلة بقواعد عسكريَّة وحاملات طائرات عملاقة، وهيمنة اقتصادية، واستلاب فكريّ ثقافيّ حضاريّ. هذه القوائم الثلاث أمكن للمركز الغربيّ أن يوظّفها بكفاءة عالية في تكريس حالة التجزئة التي فشلت كل محاولات الوحدة أو الاتحاد أو التضامن في تغييرها أو إضعافها.
إنّه لشيء يقيني لدى الجميع أنّ الاستعمار لم يهيمن علينا إلا بالتجزئة، وأنّه لم ينجح في إقامة إسرائيل على الأرض الفلسطينيّة إلاّ لعدم وجود الوحدة، ولم تسقط العراق إلاّ لوجود التجزئة. ويجمع الخبراء العسكريّون أنّه لا يمكن بناء نظام دفاعيّ كامل لأيّ قطر، وأنّ الأمن القوميّ لكل قطر من الأقطار العربيَّة لن يكون مكتملًا دون الوحدة بين جميع أقطار الأمّة… فهل من سبيل؟
([1]) مسند الإمام أحمد رقم الحديث (13830) تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير جعفر بن سليمان – وهو الضبعي – فمن رجال مسلم. وانظر (12234).