د.طه جابر العلواني
إنّ ما يجري في مصر منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى اليوم هو ثورة بركان. وإنّ البراكين لا تنفجر إلاّ إذا اختزنت في داخلها كميات هائلة مما تختزنه الأرض من غازات ونيران وما إليها. وقد انفجر البركان المصري أول ما انفجر في الخامس والعشرين من يناير وأطاح برأس النظام المصري الذي حكم ثلاثين عامًا ومثل آخر شرعيَّة لثلاثة وعشرين يوليو 1952. وكأنَّ البركان المصريّ ظل منذ ذلك التاريخ _أي يوليو 1952_ يتفاعل تحت السطح حتى حانت ساعة الانفجار فانفجر ثمّ هدأ. وها هو البركان ينفجر مرة أخرى وقد يهدأ، ولكنَّه قد ينفجر بعد ذلك أيضًا كطبيعة البراكين الكبرى في العالم. لذلك، فإنَّ التفسيرات التي أعطيت وما أكثرها لم تبدُ مقنعة في بعض الأحيان. فالبراكين وثوراتها لها منهج في التفسير يستقصي جميع الأسباب ويستقرئ جميع العوامل ليخرج بعد ذلك بتفسير قد لا يتجاوز الوصف وذكر الأسباب والعوامل ثم الاستسلام للبركان حتى يتوقف من نفسه. وقد ملأ المثقفون _الذين يلوكون الكلام كأنه طعام وما هو بطعام_ الفضائيّات بكلامهم. والذين يمثلون تعبيرًا صارخًا عن قوله -عليه الصلاة والسلام: “إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا ، وهَوًى مُتَّبَعًا ، ودُنْيَا مُؤْثَرَةً ، وإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ …” حين نرى هذه الخصال فلن نرى بعدها إلا الفرقة والانقسام والأزمة والتحارب والتشتت والتشرذم وقد يلحقنا ذلك -والعياذ بالله- بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا فبرّأ الله رسوله منهم وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ (الأنعام:159) وقد يحق علينا قول ربنا: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام:65).
لم يسقط النظام بعد
وقد تبين العديد من الأسباب والعوامل والمؤثرات التي فجرت ذلك البركان منذ الخامس والعشرين من يناير وحتى اليوم. والعامل السياسيَّ أول سبب لتفجر البركان، فمن الجلي أن عمر ثورة يوليو 1952 قد بلغ الستين، ذلك يعني أنَّ مجموعة من الأجيال العربيَّة والمصريَّة ولدت ونمت وترعرعت وشبت وشابت في ظل الأوضاع التي أوجدتها موجة الثورات العسكريَّة وحكومات العسكرتاريا بعد محاولات فاشلة للبروليتريا والأحزاب المختلفة. وقد استمر العسكر في الحكم، ليؤكدوا أنّ النظام السياسي المصري ما زال مستمرًا ولم يسقط في الخامس والعشرين من يناير، بل لم يعد الأمر أكثر من استبدال عسكري بعسكري.
من اقتصاد الكفاية إلى اقتصاد النقص
أمّا السبب الثاني لتفجر البركان فهو القصور الاقتصادي الناتج عن سياسات اقتصادية فاشلة من ناحية، واتفاقية كامب ديفيد التي عزلت مصر عن عمقها العربي من ناحية أخرى، وحرمتها الكثير من الروافد. لقد كان الاقتصاد المصريّ قبل الخمسينيات اقتصاد كفاية، ولكنه تحول بعد ثورة يوليو 1952 إلى اقتصاد نقص وأزمة. فقد فشلت كل محاولات التصنيع وقيدت بأشد القيود، ومنها إلغاء محاولات التصنيع العسكريّ. وأهملت الزراعة، وأرغم الفلاح المصريّ على التحول من زراعة الغذاء إلى زراعات الزينة، ودمرت بعض الأراضي الخصبة بالمخصبات المسرطنة إلى غير ذلك من أمور معروفة شائعة. وبذا، تحول خمس وأربعون في المئة من أبناء هذا الشعب إلى ما تحت خط الفقر.
وبخلاف السياسات الاقتصادية المدمرة، هناك السياسات العمرانية العشوائية. إنَّ هناك العشوائيَّات التي تحيط في كل حاضرة من الحواضر بدءًا بالقاهرة، وتفتقر إلى أبسط مقومات العيش الإنسانيّ بل والحيوانيّ، فلا مياه شرب نظيفة ولا مصارف مجاري صحيّة ولا مساكن تقي الحر والبرد ولا مراعاة لأي من آداب الإسلام في الخصوصيّة والسكن الذي يحفظ الكرامة الإنسانيّة. ولم تراع في تلك المساكن العشوائيَّة أحكام البناء في الإسلام، التي كان يفترض أن يحرص الأزهر وأئمة المساجد والدعاة على التوعية بها والتنبيه إلى ضرورة العمل بها، وإلا فإنَّ جرائم الزنا بالمحارم وغيرها والاتجار بالمخدرات والاتجار بالتسول، وسقوط الناس في كثير من الأزمات والرذائل، وقسوة القلوب، وتدمير النفوس، وتحجيم العقول ستكون ظواهر مفهومة في ظروف عيش كهذه. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل وجدت طوائف من البشر لم تستطع العشوائيّات على كثرتها أن تستوعبهم، فقذفت بهم إلى الشارع، فصاروا للشارع أبناء وأحفاد وقيل أطفال الشوارع وأبناء الشوراع. ولقد كان الوعي بهذه المشكلة ضعيفًا أو شبه معدوم. فلم يدرك الناس ماذا يعني وجود ملايين في شوارع المدن والحواضر المصريَّة يطلق عليهم أبناء الشوارع. ثم بعد ذلك يلام الناس إذا اتجهوا هذا الاتجاه أو ذاك ورسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: “كاد الفقر أن يكون كفرًا” ويقول الإمام علي –كرم الله وجهه:”عجبت لمن لم يجد قوت يومه كيف يجلس ولا يحمل سيفه ويقاتل ليصل إلى طعامه”.
كل تلك الظواهر الاقتصادية المفزعة لم تؤثر كثيرًا في كبار رجال الأعمال المصريين ومحترفي تهريب الأموال، فتجعلهم يحوّلون ما جمعوا فأوعوا، إلى مشاريع في البلاد تشغل العاطلين، وتوجد الأعمال، وتيسر اللقمة الحلال للشباب والقادرين على الكسب والذين لا يريدون إلا فرصة عمل وعيش كريم، والذين أعطوا الإنذار بعد الإنذار، خاصّة حينما أصبح المئات منهم يقذفون أنفسهم في مراكب لا تصلح للسير في الأنهار يمخرون بها عباب البحر ليصلوا إلى شواطئ أوروبا بحثًا عن فرصة عمل فيدرك الغرق ستين أو سبعين بالمئة منهم، ويلقي البحر بقليل منهم إلى الشواطئ الأوروبيَّة ليحيوا حياة مذلة لفترة طويلة لعلها تنتهي بفرصة عمل يكسب الواحد منهم فيها قوته.
محيط البركان المصري
ولكنَّ البراكين حين تثور لا يقف تأثيرها ولا أضرارها عند فوهة البركان أو المحيط الصغير المتصل به_ ولقد رأينا بركان أيسلندا في العام الماضي كيف عزل أوروبا كلها_ وهنا أود أن أقول للعرب: أيها العرب أنتم المحيط الجغرافي للبركان المصري وأنتم العمق الاستراتيجي له وأنتم أول متضرر بعد المصريين بشظاياه وآثاره وكل ما ينجم عنه شئتم أم أبيتم، فالبراكين لا ينحصر ضررها في محيطها المباشر بل قد يصيب محيطها غير المباشر بأضرار أكبر بكثير من محيطها المباشر نفسه.
ومصر هي كنانة الله في أرضه وهي جعبة العرب من السهام، وهي العمق الاستراتيجي للعرب ولقضاياهم. فالعمل على إنقاذ مصر من البركان، وإنقاذ البلدان العربيَّة كلها ومحيط مصر العربي من آثار ذلك البركان الخطيرة، تستحق منكم النظر الدقيق الفاحص، وتجاوز النظرات البلهاء التي ينظر الكثيرون بها إلى البركان المصريّ وهو ينفجر بين الحين والآخر بأساليب مختلفة.
بادروا أيها العرب قبل أن تضيع كل الفرص لمساعدة مصر في السيطرة على البركان المتفجر فيها والحيلولة دون استمراره فأمن مصر هو أمنكم وسلامة مصر هي سلامتكم ورفاهيّة مصر رفاهيّتكم، فمصر كما قال حافظ إبراهيم شاعرها صادقّا:
أنا إن قدر الإله مماتي *** لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
أي شعب أحق مني بعيش *** وارث الظل أخضر اللون رغد
إنما الحق قوة من قوى الديان *** أمضى من كل أبيض هندي
قد وعدت العلى بكل أبي *** من رجالي فأنجزوا اليوم وعدي
وردوا بي مناهل العز حتى *** يخطب النجم في المجرة ودي
ارفعوا دولتي على العلم *** والأخلاق فالعلم وحده ليس يجدي
وتواصوا بالصبر فالصبر *** إن فارق قوما فما له من مسد
واستبينوا قصد السبيل وجدوا *** فالمعالي مخطوبة للمجد
نظر الله لي فأرشد أبنائي *** فشدوا إلى العلا أي شد
إنَّنا نعرف أنَّ في الخليج العربي وحده ما لا يقل عن أربعة عشر مليون فرصة عمل. فماذا لو عقدت اتفاقات بين الحكومات الخليجيَّة والحكومات المصريَّة لتدريب عمال مصريين من بين آلاف الشباب العاطلين، وتقوم القوات المسلحة المصريّة بتدريب هؤلاء الذين تجندهم على الأعمال الفنيّة من نجارة ونقاشة وسباكة وزراعة وما إليها مما تتقنه الأفرع الفنيَّة في الجيوش الحديثة؛ لتحويل العامل المصريّ إلى عامل فنيّ ينافس العامل اليابانيّ والكوريّو الصيني. وتعطي حكومات الخليج الأولويّة في الأعمال لهؤلاء العمال المصريين الفنيّين. لكن ذلك يحتاج إلى وعي خليجيّ ومصريّ مشترك بالأزمة وإرادة سياسيَّة من الطرفين لفعل ذلك وتحويله إلى واقع. إنَّ الشاب المصريّ لا يحتاج إلى أن يقضي في الجيش سنتين في التدرب على الأسلحة، فلعله يستطيع أن يهضم البرامج العسكريَّة ويستوعبها في غضون ربع المدة التي يجند فيها ولنقل ستة أشهر، وفي ما بقي من فترة التجنيد يتعلم حرفة وصناعة ولا يسمح له بأن يخرج من الجيش قبل أن يخرج من الأميّة بكل أشكالها، ويتحول إلى عامل فني يقرأ ويكتب ويمارس حدادة أو نجارة أو نقاشة أو بناء أو صناعة وتصليح سيارات وكهرباء وما إلى ذلك. ذلك كله من الأمور المقدور عليها والتي يمكن تنفيذها في جلسة عمل واحدة لو وجدت الإرادة والرغبة الصادقة في إنقاذ الموقف، وبذلك يمكن أن ننقذ مصر من ثورات بركانيّة لاحقة أو قادمة لا يعلم مداها إلا الله.
خارطة طريق لأزمة نوفمبر2011
أولا: على الحكومة المصريَّة أن تتحلى بالصبر وضبط النفس، وتطلق سراح جميع المعتقلين وتعلن عن أنَّ المدنيين لا يقدمون إلا إلى المحاكم المدنيّة.
ثانيًا: دفع التعويضات للمتضررين من أسر الشهداء والجرحى، ومعالجة الجرحى والمصابين، والاستفادة من مستشفيات الجيران خاصّة المستشفيات السعوديّة والأردنيّة الراقية لبعض الحالات الصعبة.
ثالثًا: على الحكومة المصريَّة أن تشكل لجان تحقيق محايدة يمكن أن تضم بعض الخبراء العرب المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة لتتبع العناصر المندسة والمحركة لأحداث العنف، والتي تقوم بعمليَّات الاستدراج للعنف بين القوات المسلحة والشرطة من ناحية وبين المعتصمين والمتظاهرين من ناحية أخرى، ورصد هذه العناصر وعزلها بعد التعريف بها، وأيَّة إجراءات أخرى يستلزمها إطفاء البركان المشتعل.
رابعًا: تحقيق انتخابات حرة نزيهة برلمانيَّة ثم رئاسيَّة.
خامسًا: تقديم المساعدات العاجلة للحكومة المصريَّة، وتمكينها من تلبية احتياجات البلاد المتنوعة لمدة لا تقل عن عام كامل حتى تستلم الحكومة الجديدة والرئيس المدني الجديد مقاليد الأمور، ويستقرون في السلطة ويتمكنون من تنفيذ السياسات الإصلاحيَّة اللازمة.
سادسًا: فتح المجال لتوظيف وتشغيل العمالة المصريَّة والخريجين العاطلين عن العمل وتشكيل دورات ومؤسسات للتنمية البشرية لتأهيلهم بأسرع ما يمكن للقيام بالأعمال الفنيّة، واستبدال العمالة الوافدة غير الفنيّة من البلدان الأخرى الخارجيَّة بالعمالة المصريَّة فالأقربون أولى بالمعروف، والثقافة العربيَّة الإسلاميَّة التي يحملها المصريّ تعتبر نقطة هامّة ترجح كفته على كفة الآخرين.
سابعًا: التعجيل بمد جسر الحب بين السعوديَّة ومصر لتمكين الشعب المصريّ والشعب السعوديّ من الاستفادة بهذا الجسر في التنشيط التجاريّ والاقتصاديّ والعمَّالي، وفي إفساح المجال للتواصل بين شرق العالم العربيّ وغربه، وإيجاد فرص للتبادل التجاريّ وانتقال الأموال والأشخاص وإيجاد الأجواء اللازمة للتحضير لقيام الجماعة العربيّة على غرار الجماعة الأوربيّة ولو بعد حين.
وهناك مقترحات كثيرة يمكن تقديمها في هذا المجال لكن ما ذكرناه يعد مقدمة لازمة لذلك. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.